Skip to main content

Full text of "01527 كتاب Pdf المكان والعمارة علي ثويني"

See other formats


المكان والعماره 


الكتاب: المكان والعمارة 
الكاتب: د. علي ثويني 
الطبعة: 5٠1١9‏ 
الناشر: وكالة الصحافة العربية ( ناشرون) 


٥‏ ش عبد المنعم سالم - الوحدة العربية - مدكور- الهرم - الجيزة 
جمهورية مصرالعربية 
هاتف ۰ 0۸101۹۳ _ 9۸1۷9۷71 _ ولاه /اكارهة 7" 
فاكس : ۲١۹۸۷۸۲۳۲۷۳‏ 
E-mail: news@ apatop.comhttp://www.apatop.com‏ 





All rights reserved. No part of this book may be reproduced, 
stored in a retrieval system, or transmitted in any form or by any 
means without prior permission in writing of the publisher. 


جميع الحقوق محفوظة: لايسمح بإعادة إصدارهذا الكتاب أوأي جزء منه أو 
تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أونقله بأي شكل من الأشكال» دون إذن خطي 
دارالكتب المصردة 
فهرسة إثناء النشر 
ثويني › م علي 


المكان والعمارة / 2. علي ٿويني 
عاا جيه ES‏ العررية 


۸ ص» ۱۸ سم. 
الترقیم الدولى: م ¬ ٩۷۸ -۹۷۷ - ٤٤٩ - ۸٩۸‏ 
أ - العنوان رقم الإيداع : ۲١۰۱۸ / ۲۱۶٤۲۱‏ 





المطان والعمارة 


~Ç‏ وئ الصحافة العربية 
]| «ناشرون ( 


"المكان إذا لم يؤنث لا يعوّل عليه" 


الشيخ محيي الدين بن عربي 


الإهداء 


في نحاضرة عن التراث, تكلم الدكتور صالح بن علي الهذلول يوما عن 
قريته الطينية التي تدعى البدائع» وتقع على تخوم القصيم» وقد وطأهًا 
جرافات الحداثة قبل نصف قرن, وإحالتها إلى أثر بعد عين؛ فافمرت 
دموع الدكتور لذكرى أيام لم تعد تم إلا من يبحمل جياش العاطفة 
للمكان.. حينها أيقنت أن لهذا المكان "على علاته" مكان في عمق 
النفوس المرهفة والعقول النيرة الواعية. . 

إلى أخى الصدوق وأستاذي وأحد رموز ثقافتنا العربية المعمارية 


الدكتور صا الحذلول, أهديه سفري عن المكان لصدق سجاياه نحو 
المكان.. 


مشك ميك 


نمة ثابت في شغف الإنسان بالمكان مثلما أقرانه من 
الكائنات الذائدة عن المكان والدائبة العمل لتعيينه ورسم 
حدوده وامتلاكه والحافظة عليه: ويتعدى الأمر الذاتية إلى 
الوعي الجمعي بالمكان وتذكره» فبدون ذاكرة لا وجود أو 
قيمة للأمكنة» فالإنسان كائن مفكر و"متذكر"؛ فالمكان 
جغرافيا ونفس وثقافة وعمارة وقدسية وغلة تحفظ النوع 


وتصود البقاء. 


لقد منحت الفنون ومنها العمران والعمارة, المكان فعالية تجعلها في 
صنف الباكورة والشروع, وتداخلت جدلياً مع المنتج الدهري للظاهرة 
البنائية. وقرأناه في النصوص القديمة ليس موصوقًا ولا مطروحًا على 
الوعي» بل حسيًا محايداء ودلالته ظرفية وحدثية وأثر. مراد لذاته من جراء 
الفعل الإنساني» وتموضع للإفرازات الحسية والبصرية» وهذا الدور المتنامي 
جعل النقاد يعدونه مجرد خلفية للحوادث والشخصيات والمنتج الإبداعي, 
وطفق يحتل مساحة فنية منذ الأعمال الفنية على جدران الكهوف والتهيئة 
الأولى للفضاء المعماري. وتناولته الإثنوغرافيا (الإننروبولوجيا الوصفية) 
ضمن تعليلها للطقوس عند البشر الذي هو قائم على وحدة الوجود أو 
تداخل الإنسان مع الطبيعة. 


ورصدنا تكرار ورود المكان بثمان وعشرون موضع بالذكر الحكيم, 
بدلالات رمزية وحسية مختلفة. وانشغل بجماليات المكان العديد من 
المفكرين والفلاسفة في كثير من الحضارات بدلالات رمزية» ووضعه أرسطو 
عنصراً ثالغا ضمن الطبائع وهي (العنصرء والصورة, والمكان» والحركة, 
والزمان) وتبعه أفلاطون ثم إخوان الصفا وأبو بكر الرازي والفارابي وابن 
سينا وابن الحيثم. وفي الأزمنة الحديثة ورد عند ديكارت وباشلر وهيوم 
واسبينوزا ومالبرانش.. الح. 

نة حقيقة بأن العقلية الرعوية مكثت غالبة في الثقافة العربية 
عموماء واخترقت الوسط الاجتماعي الحضري والفلاحي, وهذا ما أشار 
إليه ابن خلدون قبل سبعة قرون» وعلي الوردي قبل نصف قرن. ووضعا 
تأويلات لآليات حركة التاريخ والمجتمع. وتلك العقلية غير عابئة بالمكان» 
والسبب يعود إلى مبرر معاشي في البيئة العربية التي تناخم البادية فيها 
المدينة والقرية» وتبتزها حتى تنقاد ها على مبدأ (الضحية التي تتقمصها 
روح الجلاد)؛ فالاستقرار يكبل البدوي ويحرمه من الترحال» با يضمن له 
البقاء خلال بحثه الدائب وراء الماء والكلاً. وهنا يكمن سر التناشز 
الاجتماعي في ثقافتنا بين بدوي كاره وعابر وغير عابئ بالأمكنة, وبين 
تحضر متصاعد الوتيرة والمواءمة والحاجة والغلبة. 


ومن أجل ردم الفجوة الانتمائية لمرجعية بعينهاء فإن البدوي لم 


يتداول لقبا مكانيا بل سلاليا وعرقياء وشغف حت بمهلهل وأسطوري 
الأصول والفصول» وتشبث بالنسبء وأهمل الحسب» فتخلخل على أثرها 


۸ 


ميزان القيم. وانعكس الأمر حتى أصبحت منظوماتنا الحداثية جوهرها 
بدوي ماضوي متبرقع بالات من الشكلانية الحداثوية. فسلطاتنا وتجمعاتنا 
ومؤسساتنا تسيرها البداوة أكثر من انتماء لمكان اتفقنا على تسميته 
"الوطن". وني الكفة الأخرى حضري أو قروي شغوف بالمكان, مستندا 
على ما يسبغه عليه من جود ووجود وخلود, ولا يبرحه إلا مكرهاً مطروداً. 
وبذلك فإن صراعاتنا انحصرت بين بداوة ومدينة أو قريةء أو بكلمة أخرى 
بين مكان قحط وآخر عدن, أو بين عيش رغد ودعاوى انتماء ورائي 
لمكان مجدب لا يدر بل يضر. لقد بجّل الطيني مكانه. ووجد له الوسيلة في 
إعمار أرضه وتفريغات فنونه وتأويلات مقدساته» وكره الرملي بيداءه, 
فتداعى البون العاطفي إلى تناشز وصراع أرق تاريخنا وصنع له منهج 
وتوائر. 


لقد مكثت الجغرافيا أصدق من التاريخ» لاسيما الذي أترع بالتزوير 
والتبرير والخيلاء والادعاء؛ فالتاريخ كما الأذن التي تسمع» والجغرافيا كما 
العين التي ترى» وبالنتيجة وجدنا أنفسنا منحازين إلى المكان الجغرافي على 
حساب الزمان التاريخي. 


مازال مفهوما الزمان/ المكان مدغمين في وعيناء ولم نصل إلى ردم 
فجوة بينهما. ضمن تجاذبات اجتماعية وقناعات تشرذم؛ فبين العودة 
لممارسات مضت والتوق لممارسات سادت أدوار من الأخذ والرد. لاسيما 
ونحن نعاني الإدبار الحداثي الذي يجردنا عن أحقية تراثنا. ونرصد شطط 
المفاهيم بما يتعلق بمتطلبات ومستلزمات الأمكنة ومعطيات الأزمنة. 


8 


وبالمقارنة فإن الغربيين اعتمدوا "مكانيا" على أنظمة فكرية واقتصادية 
وسياسية مستجدة زمانياًء وتسنى لحلوهم أن تسير وتؤثر في عمق أنساق 
الراهن. وحسبنا أن الحلول الحضرية والمعمارية نقلت مجمل ما تبلور في 
الغرب من معطيات إلى عا مناء بما بحاكي نقل شجرة من منطقة استوائية إلى 
منطقة صحراوية» ولكي تعيش وتستمرء فلا بد من أن نحول الحيط 
الصحراوي إلى استوائي. وهذه علة الموائمة المكانية وطامتها الزمانية. 


حينما أسس الدكتور بد صالح مكية )۲١٠١ -١914(‏ كلية 
العَمارة في جامعة بغداد عام 1۹٥۹‏ أصر على أن يكون ضمن منهاجها 
درس الجحغرافياء لأن طلابما المؤهلين بأعلى نتائج وردوا من الفرع العلمي. 
الذي ل یدرس الجغرافيا؛ فكيف يمكن أن يكون معمار ولا يعي خواص 
وحيثيات المكان كالموقع والاتجاهات والمساحة والأبعاد والبيئات.. 


ويصف الدكتور مكية الجغرافيا (الصفر المعماري). ويبدو أن ثمة بون 
كبير بالوعي اغراي المكاني بين جيلي وبين الجيل من بعدي. مع رصدي 
وهن شعورهم الانتمائي» ولاسيما المتعلق بالوطنية. وهكذا يبدو أن 
الإدراك المكاني يكرس شعور انتمائي بوعي أو بدونه بحسب طبقات 


والتماس بين العّمارة والجغرافيا دعوناه (العمران)ء ويمكننا أن نطلق 
على الصلة بين الجغرافيا والعمران والعمارة والإنسان» ب (علم المكان) أو 
(بيئة المكان العمراني والمعماري). تمايزاً عن فحوى المكان الذي طرقته 


الآداب والفنون, والذي أول بحسب لمجال والغاية» أما عندنا في علوم 
البنيان فهو الأساس الذي يبنى فوقه كل اعتبار: الاتجاه والتشميس والتربة 
والتهوية والإطلالة والحيط وغير الجانب المادي فإنه فلسفة وشغف وحنين 
مجنح وخيال جامح وفضاء تصوري ومنظوري» يرى منه الماضي والمستقبل؛ 
فا ماضي عني بالتراث والمستقبل عني بالرؤيا المعمقة لما يؤول إليه هذا الحيز 
من البيئة» التي أمست شاغل الناس وشغفهم» بعد أن تد نوعها وعانت 
الأمرين على أثر نزق الإنسان وجشعه ووحشيته. حينما يحرق ما بنت 
يديه. ويقدم العدوان حلاً للخلاف مع أترابه من العباد» ويحلل ما حرمته 
الشرائع السماوية والوضعية, في حالة تتداعى إلى خراب البناءء والذي لم 
تقترفه حتى الوحوش الكاسرة التي تحمل في فطرتها رحمة على نوعها وعلى 
غيرها أحياناً. 


لقد سعى التخطيط العمرانن جاهداً خلال القرنين الماضيين إلى تلبية 
متطلبات وتطلعات الجتمعات الجامحة, ولاسيما في الغرب. ومكثنا نحن 
نشتر من ميراثنا ولم نجدد أو نستجد مدائن. بيد أن تلك التجربة البحثية 
التراكمية في الغرب انتقلت إلى مدننا بغلبة الكفة الحضارية على مبدأ 
(المغلوب يقلد الغالب) الخلدون» وأخترقت الجانبين الاجتماعي 
والتخطيطي رغم البون. حيث أن الاجتماعي يختلف بالمكان والزمان 
والشق التخطيطي يختلف بالزمان, وأقل باختلاف المكان. 


ومن هنا كان التخطيط العمراني لدينا يبعد عن المنتج الحلي» حينما 
تلكأت عملية خلق تراكميات عثية تخطيطية مشابمة لما حدث في الغرب 


1١١ 


تخص المكان في البحث والنشر أو التطبيق. ونجزم أن الأمر يبقى بعيد 
المنال في خضم الاعتماد الكلي على المراجع العلمية الغربية في هذا المجال. 
وهكذا بمكث منتج التنمية العمرانية في مدننا صدى لصوت صادر من 
الضفة الأخرى. 


جل تجمعاتنا اليوم أسسها الأجداد» حت أن المنطقة العربية مشهورة 
عدن تأسست قبل ثلاثة وأربعة آلاف سنة. ومازالت مسكونة ومزدحمة 
لقلة ما استجد عليهاء رغم الطفرات والانفجارات السكانية, بعدما 
سمحت بالتوسع الذي جله أمسى (سرطانيا)» والذي سحق المراكز التاريخية 
التي تبقى الأثر ومحل الفخر, كونه الموجود الذي يؤكد الوجود. أما مفهوم 
إعمار الأرض الذي أطره الإسلام أكثر من بقية الأديان, فيمكن أن يكون 
حصيلة ما شهده المكان في الشرق القديم من مداميك الإعمار. 


وإعمار الأرض يعني (صناعة المكان) وتحويله إلى حيز تألفه وقابل 
للمكوث فيه ونرتبط به عاطفيا ووجدانيا. وللمكان درجات أوله الحيز 
المباشر الذي بيط بأجسامنا مثل الغرفة التي يوجد فيها سرير النوم ثم 
غرفة الجلوس» ثم الحي السكني الذي نرتبط فيه بأقربائنا أو جيرانناء انتهاءً 
بالمدينة التي تضم الحي السكني الذي ننتمي إليه. إن عملية صناعة المكان 
تحدث بما نقوم به من أعمال مثل عمل تعاوني لصاح الحي, أو بناء بيوتنا 
بأيدينا أو المشاركة في ورشة بنائه» أو تأثيث غرفناء أو تعليق صور عزيزة 
على الجدار أو وضع الستائر على النوافذ واختيار الألوان المحببة أو ملمس 
السطوح. كل تلك الأفعال والتدخلات في المكان تؤكد ذاتيتنا. وكلما 


1١ 


أطلنا المكوث فيه وتفاعلنا معه وجدانياً ازدادت آثارنا فيه وتكرست 
صناعتنا له وبالتالى ارتباطنا العاطفى به. 


خلال اغترابي القدري الذي بدأ يتعدى العقود الأربعة» اكتشفت أن 
الغربة ثراء معرفي مكانئ. يحتمل المقاربات والمقارنات بين الأنا والآخر 
ويكرس الشعور بالحوية والانتماء. وما لم أدركه تشبثي بمكاني الأول, رغم ما 
أسبغه المكان الاغترابي من سعة الحال والتأهيل ووفرة العطاء وثراء الإلهام. 
لقد مكث مكان وهمّي وبؤرة اهتمامي هناك عند أعتاب أيامي الأولى» رغم 
بؤسه وقصره. وأتساءل عن السر في تصنيفه الأفضل دائماً. وثمة حاجة 
لدراسة المكان من جوانبه: الضامر والظاهر» لكي نبني تصوراً عن تأثيره 
وتأثره» وهذا يفتح باب البحث في التشخيص والأسباب والتأويل. وهي 
دعوة لقراءة الذات أولاً. وعدم توسيع الرؤى وتكبير مقياس الرسم 
(©5©21): قبل التيقن من سلامة الحلول الموضوعة, وعدم القفز على الآخر 


سوف يحد القارئ سياقات تقرب بين مفاهيم عدة منها الفلسفة 
والعمران والعمارة وامجتمع والنفس والبيئة والتراث والثقافة وسطوة الروح 
والمقدس. مع الوعي والإقرار بموقع المكان المركزي في الذاكرة الترائية, كونه 
يشكل بؤرة إنتاج الصورء والرموز التي تكيف سلوك الأفراد» وترسم 
ملامح استجاباقم اللاحقة لانثيالات الذاكرة. فيتجلى الحنين اليه 
واستذكاره» متخطيا كل معطيات الراهن. وقد طرقنا شقي الهواجس الادية 


والروحية لطبيعة المكان المتماهية مع العّمارة التي تمثل أسمى سمات تلك 
العلاقة المخترقة مجمل المنتج الإبداعي الإنسان. 

لا يسعني هنا إلا إبداء الشكر الجزيل لكل من آزر مسعاي التدويني 
بعد أن حفزن وأهمني قراءة كتاب صديقي الدكتور المعمار أسعد البصري 
الأسدي (سكن المكان) فشكرا لهء ولا أدخر امتنان للأصدقاء وللأهل, 
ومنهم أخواتي وبناني وزوجتي» والله ولي التوفيق. 


د. معمار علي ثُويني 


ستوكهولم ‏ شتاء ۲۰۱۹ 


الفصل الأول 


المكان الزماني 


.١‏ المكان الاعتباري والفلسفي 
۲. المكان الحضري والمعماري 


#. المكان الحضري والتراث 


ا المكان الاعتباري والفاسةي 
© تقلدم 
ه بدايات التكوين 
ه حلول الإنسان في والزمان والمكان 
ه الزمكان 


المكان هو الأرض (60© "جوه")(') التي حفر الإنسان عليها 
وجوده ودمغ فوق أدبمها الإثبات على أنه قائم منذ القدم» وهو الجغرافيا 
والبيئة وكل مايحيطنا ويتعايش معنا. هو قريننا ولصيقناء نلمسه ونتحسسه» 
نستدشق عبقه. نحفظ لونه. ندرك وظائفه. تلقطه عيونناء وتحفظه ذاكرتناء 
يرافقناء يحميناء يغذّي خيالنا وينضج تصوراتنا وفكرنا. نحفرنا مقومات 
الحياة إليه وتعلمنا حبه من خلال دروس الجمال بما يبحمل من صور وألوان 
وذكريات لأحداث وشخوص وملامح ومتغيرات, يدركها الوجدان الذي 
يبقى ابن وأمين المكان. 


' جو-جوه» وردت من الأصل الأكدي واخترقت اليونانية واللاتينية» ومازالت متداولة في 


اللهجات العربية» وأمست مصدرا لكثير من الاصطلاح مثل جغرافية وجيوبوليتيك وجيولوجية 
وجيومترية...ال. وحتى نجدها في كلمة (جورج) الغربية الواردة من مركب (جو-رج "رق")الأولى 
تعني الأرض والثانية تعني الرق أو العبد أو الخادم, وهي تعني مجازا: الفلاح أو خادم الأرض. 

5 


والانتماء لهذا المكان يأ من فعل الذات المتوارثة فعلاً ومتابعةً 
ويتواصل الانتماء بتواصل الفعل الحي المثبت فوق الأرض كتأكيد وتجسيد 
للحضور» وأي انقطاع لعلاقة الإنسان بالمكان يعني البدء بالتراجع عن 
المضمون العملي لوجود الوطن والفعلي لوجود الإنسان. وبذلك فالوطن 
0 ثلاثي التركيب» أضلاعه: الإنسان والمكان والزمان. وثمة علاقة 
لية ومؤثرة على مجمل الكائنات» فحواها شد ومد وسكون وحركة, 
فالمكان هو الثابت والزمان هو المتحرك, فاضطلع الأول بصفة الجغرافيا 
والثاني بالتاريخ في تداخل مفاهيمي أوجده الإنسان, ويقع عادة بين 
السكون والحركة» ويتوق للسكون مثل نظام كون» لكنه يسلك الحركة 
ليحوله من طور إلى طور. فقد صاغ الإنسان زمانه في المكان وشكل مكانه 
في الزمان» وأمسيا "الزمان. والمكان" يتداخلان في تركيبته ومزاجه وحق 
سحنته» ويرمان تمايزه وهويته وخصوصيته الثقافية؛ فشتان بين من سكن 
المناطق الباردة عمن قطن الناطق الحارة, أو الجبلية عن الصحراوية أو 
السهلية أو الداخلية عن الساحلية..الخ. وشتان بواقع الوسائل وأنساق 
الاطلاع ووسع الأفق بين من عاش قبل ألف عام وبين من يعيش اليوم. 


ويعد مفهوم المكان من أكثر المفاهيم إشكالاً في التداول المعرفي» لما 
يحمله من غنى في الدلالة والإيحاء. ولما يتصف به من تعقيد ومفارقة. فهو 
مفهوم يجيد لعبة الوجه والقناع والإخفاء بالإبرازء يخفي أحيانا ما ينبغي أن 
يظهره ويبرز أحيانا أخرى ما هو من المفروض أن يختفي. يبدي الوضوح 
والجلاء والبساطة بل والبداهة الحدسية, ويضمر اللبس والغموض. كون 
مفهومه بؤرة تقاطعات لعدة معارف متماهية أو أقل من ذلكء من فلسفة 


1۷ 


ورياضيات وعلم نفس وجغرافيا واقتصاد» بل وعلم الأجناس 
(أنثروبولوجيا) وعلم الاجتماع» دون إغفال الفن والعمارة وعلم الجمال 
اللذين أمسيا الممارسة وامحك والدليل. فما زال التساؤل قائماً حول 
كينونته وتجلياته وأثره وأبعاده وتمغلاته وتصوراته وإسقاطاته ومدى استغلاله 
ومرجعياته وخلفياته وحقيقته أو هلاميته('). تساؤلات شغلت العقل 
البشري أكثر من الحيوان الذي (ترك إدراره) على حجر أو شجرء ليرسم 
حدود المكان التابع له ليذود عنه. 


لقد شغل ذلك الأمر طبقات الفلاسفة منذ القدم وما نجده عند 
اليونان لدى أرسطو مثلا الذي يعد المكان مقولة منطقية ذهنية ومعنى كلياً 
لا تستقيم المعرفة بدونه. والمكان» بذلك وكمقولة, محمول في قضية أو 
تصور ساذج(")؛ ليدرجه بذلك في العلم المنطقي التطبيقي الذي عده أداة 
العلوم (أورغانون). وهو بذلك يصنف المقولات, ومن ضمنها المكان» في 
حيزها المعرني الدقيق كمعطى ذهني أولي غير وجودي» وهو فرز دقيق له 
شأنه المنهجي والمعرني» إلا أن بعض فلاسفة الإسلام, لم يدع مفهوم المكان 
في مستواه المعرفي/ المنطقي. بل صعد في تناوله نحو الأصول. فعد الرازي 
مغلاء المكان قديما إلى جانب الزمان والنفس والهيولى والبارئ ('). وهو 
توجه "وثني" في فحواه وأصله بشكل جلي. أما بالنسبة لابن سينا وابن 
رشد فقد نقلا المفهوم إلى المجال الطبيعي؛ فالمكان عند ابن سينا: "ليس 


' بن خد قسطامي- مقال: ماهو المجال؟.. منشور على الشبكة. 

' كرم يوسف» تاريخ الفلسفة اليونانية» نة التأليف والترجمة والنشر 191٠١‏ ص١7١.‏ 

" الرازي أبو بكر د بن زكرياء رسائل فلسفية» دار الآفاق الجديدة, بيروت ۱۹۷۷» ص۹۱٠‏ . 
۱۸ 


بحسم ولا مطابق لجسمء بل محيط به. بمعنى أنه منطبق على فايته انطباقا 
أوليا"('). وعند ابن رشد: "هو النهاية الحيطة لكونًا إستكمالا للأجسام 


المتحركة وغاية تحريكها"('). 


إلا أن فيلسوف الأنوار الألماني كانط, كان قد تأمل بمفهوم المكان, 
وأعطاه كامل العناية وعده إطارا قبّْليا ضروريا للمعرفة وفق "حاسة 
الخارجية, كخاصية ذهنية للإنسان جا نتصور الأشياء موضوعة خارجنا في 
المكان"("). وحتى يقرب مفهوم المكان وعده إحساساً حدسياً خارجياً 
مقابل الزمان كإحساس داخلي» أي أنه ليس مفهوماً استدلالياً. وبرأيه أنه 
حدس وليس مفهوماً» فهو الحدس الحيط والذي لا يحاط به» عكس 
ا لمفهوم» ولا يضم أي تصورء بينما المفهوم ينتمي إلى مجموعة من 
التصورات. وهذا يخالف المفهوم المندسي للعمارة الذي بني على معايير 
ومقاييس بعينها. وربما ينفعنا هذا الفهم للمكان في تناول مفهوم الجمال 
الذي هو أيضاً حدس أكثر منه مقايبس» رغم محاولة تفسير البعض له 
عنهجيه رياضيه أو هندسية كما هو (القطاع الذهبي) مغلا إلا أن انطلاق 
كانط في مناقشته لمفهوم المكان من الحركة كما تصورها نيوتن» ومن 
التصور الإقليدي المندسي» حصره في خانة البداهة والحدسية والعفويةء 
وهو ما مكنه منه حقله المعرني التاريبخي. حيث أقر كانط بعدم إمكانية 


' لعمول عبد العزيز (مشكلة المكان في فلسفة ابن رشد)ء مجلة فكر ونقد التي يصدرها الجابري - 
الرباط, العدد لال ص٠50".‏ 
" لعمول عبد العزيزء نفس المرجع» ص۹ . 
" بن ند قسطامي- مقال ما هو الجال؟.. منشور على الشبكة. 
14 


التحدث عن المكان إلا من وجهة نظر الإنسان, ولكنه محسوس وغير 
مفسر لدى الحيوان كذلك. ويرى لالاند في معجمه أن المكان "ليس شيئاً 
وليس إحساساًء ولكنه إنتاج وبناء ذهني "مثل التجريد". وهو بالنسبة 
لعلماء النفس يقتصر على الذي ندركه واقعياً أو هو المجال البصري".('). 


لقد أحدث تنوع وصعود المعارف المعاصرة نقلة نوعية في تصور 
المكان. وذلك من نتائج الثورات الرياضية والفيزيائية» سواء مع نظريتي 
الكوانتوم والنسبية» أو مع الحندسة الحديثة اللاإقليدية» وكل تلك النقلات 
المعرفية مكنتنا من إعادة تصور مفهوم المكان وصياغته سبراً مع التصورات 
الفلسفية العتيقة. وبذلك تغير التوجه. وبدأ الاهتمام بالأبعاد والمقادير 
(إحداثيات» انغلاق, انفتاح, ما بين, تبادلية» تقاطع...) بدل الحدس 
والطبيعة('). وربما نلمسها في الطفرة التي أحدثتها العمارة التفكيكية؛ رغم 
أا لم تصل إلى حلول عقلانية للوظيفة» لكنها غيرت من بديهيات 
التصميم الشكلي على زوايا 4٠‏ درجة الذي سلكته العمائر منذ نشوئهاء 
وفتحت بذلك الرياضيات والفيزياء على البعد النسبي للمكان» وهي 
الخلفية المعرفية التي تحكمت في التصورات المعاصرة حول المكان, سواء 
كمجال الإدراك في علم النفس أو امجال الجغرافي أو العمران أو المعماري 
أو حتى الأجناسي الاجتماعي والثقاني. 


١ Lalande André, Vocabulaire technique et critique de la 
philosophie, Quadrige. PUF, 6eme éd. 1988, p298. 


- الجابري 5 عابد, المنهاج التجريي وتطور الفكر العلمي» دار الدشر المغربية, ص۲۳۰‎ ٣ 
0 


بدايات التكوين 

نة سؤال حير عن كيف تكوّن المكان الأرضي ووصلنا بميئته الراهنة, 
وكيف مكننا نتحسسه وننتمي إليه. والجواب نجده في بحوث ظنية, لكنها 
فيها من الملموس أكثر من الغيب والأسطورة الذي أترعت به ثقاتنا. حيث 
تذهب إلى أن الكون بدأ يتشكل قبل حوالي 15 مليار سنة, وهي النظرية 
الأكثر قبولا عند الفيزيائيين والمعروفة باسم الانفجار الكبير (8مة18 عذ8) 
. حيث تشكلت من جرّائها مجموعتنا الشمسية قبل حوالي خمسة مليارات 
سنة من الآن. وبعد هذا التاريخ بحوالي مليار سنة ظهرت أولى أشكال 
الحياة البسيطة أحادية الخلية على سطح الأرض والتي تُعرف اليوم باسم 
البكتريا. وسادت هذه الكائنات سطح الأرض لليارات السنين» وكان 
يمكن أن يستمر الحال حتى يومنا هذاء لولا دخول الأرض في تغيرات 
مناخية وطبيعية مسيّرة غيّرت في خط تطور الكائنات الحية. 


وقبل حوالي ٠٠٠‏ مليون سنة دخلت الأرض في عصر جليدي طويل 
استمر حوالي ٠٠١٠‏ مليون سنة» غطى الجليد خلاها كل الكرة الأرضية 
حتى المناطق الاستوائية منها. وانتهى هذا العصر الجليدي مع بداية تزايد 
النشاط البركاني, والذي أدى إلى تزايد نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في 
لحواء المنبعث من البراكين. وبعد زوال هذا المعوق “الجليد” وتحوله إلى مياه 
ومع ارتفاع درجة حرارة الأرض حدث انفجار في تكاثر الكائنات الحية 
على سطح الأرض والتي كانت قد جمدت نشاطها أثناء العصر الجليدي. 


"١ 


وبالتزامن مع هذا حدثت انعطافة مهمة وقد تكون هي الأهم في 
تاريخ تطور الكائنات الحية وهي ظهور كائنات متعددة الخلايا هذه 
الكائنات كانت بسيطة في بداياتما. سرعان ما تطورت» واحتاجت 
لعشرات من ملايين السنين تملأ المكان البري والبحري بأنواع لا حصر ها 
من الكائنات الحية ذات التراكيب المعقدة والأحجام المختلفة. أما 
الكائنات أحادية الخلية والتي سادت لليارات من السنين فإن تطورها لم 


يكن بالشكل الذي يُذكر. 


ويعتقد المختصون بحذا المجال أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى 
عدم تطور هذه الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة هو طريقة تكاثرها 
بالانشطار. أي أن كل كائن من هذه الكائنات ينشطر إلى كائنين 
جديدين» والكائنان الجديدان يصبحان أربعة وهكذا. وبمذه الطريقة تحمل 
الكائنات الجديدة نفس الصفات الوراثية الموجودة في الكائن الأصلي. أما 
التكاثر عن طريق التلاقح, والذي هو طريقة التكاثر في الكائانت المتعددة 
الخلاياء وينتج عنه كائن جديد يحمل صفات ورائية مركبة من كلا 
المقترنين. 


لقد انقرضت قبل حوالي 55 مليون سنة جل تلك الكائنات نتيجة 
ارتطام نيزك كبير بالأرض أدى إلى فناء ليس الديناصورات فحسب» وإنما 
معظم الكائنات الحية على سطح البسيطة. أما الأنواع التي نجت من 
الكارثة فهي التي استطاعت أن تكيّف نفسها مع المتغيرات البيئية الجديدة 
ومن بينها بعض أنواع الثدييات الصغيرة الحجم التي استطاعت أن تختبئ في 


۲۲ 


جحور ني باطن الأرض. وظهرت الثديبات لأول مرة قبل أكثر من ٠٠١‏ 
مليون سنة حيث شكلت نقطة تحول جديدة في مسار تطور الكائنات 
الحية» واستطاعت عندها أنثى الغدييات أن تحتفظ بالبيضة المخصبة داخل 


أجسامها ليخرج المولود بشكل كامل تقريبا. 


وبعد أن استعادت الأرض عافيتها بدأت الكائنات الحية تتكاثر من 
جديد وبشكل سريع كرد فعل لما حدث ها عند حدوث الكارثة. وكان 
الدور هذه المرة على الثدييات لكي تتسيد الأرض وتملاً الغابات بأنواع 
مختلفة من الرتب والفصائل» بصيغ العوائل والأجناس» وني آخر المطاف 
الأنواع وع1ع6م5. ومن بين هذه الرتب (وهو مصطلح علمي يستخدم 
للتصنيف) ظهرت رتبة الرئيسات 21172665 والتي جاء منها فيما بعد 
أنواع مختلفة من الحيوانات ومنها الإنسان. كل هذه الأجناس لم تأت مرة 
واحدة منذ البداية بل أتت بشكل متدرج» وبسبب انقسام ابناء الجدس 
الواحد بسبب زيادة العدد إلى أكثر من مجموعة, ومن ثم قد يحدث أغا 
تعيش في بيئات وأماكن مختلفة ومنعزلة ثما يؤدي في النهاية إلى أن هذه 
الجاميع تتطور بشكل مختلف عن بعضها البعض لتلائم البيئة الجديدة التي 
تعيش فيها كما حدث مع أستراليا أو جزيرة غالاباغوس في إكوادور والتي 
قام داورن بأبحائه على حيواناتماء بعد أن طرح نظريته عام ۱۸۳۸ والتي 
تتضمن أن هذه الأغغاط المتفرعة من عملية التطور ناتجة لعملية وصفها 
بالانتقاء (الانتخاب) الطبيعي» وذلك خلال الصراع من أجل البقاء الذي 
حكم عملية الاختيار الصناعي الذي تحكم في التكاثر الانتقائي للكائنات 
الحية. 

9 


ومن الأحداث المهمة في الأرض حدثت قبل حوالي ۷١‏ ألف عام 
حيث انفجرت براكين هائلة في سومطرة بإندونيسياء وغطت سحبها 
الكوكب (الأزرق)» وانقرضت من جرائها سلالات بشرية برمتهاء ومكث 
البعض ليتكاثر وينتشر في بيئاته التي كان ها الأثر فيه. ونجد من أقدمها 
آثار وجدت في كهف (شاندر) الواقع في جبال شال العراق والمكتشف 
من فرقة أمريكية عام ۷١۱۹ء‏ وتم التنقيب في الكهف بين عامي 
۱۹٩۱-۷‏ من قبل رالف سوليكي وفريقه من جامعة كولومبيا وأغر 
عملهم عن المياكل العظمية النياندرتالية البالغة الأولى العائدة إلى 
٠,٠١‏ سنة قبل الميلاد. ونتج التنقيب في المنطقة عن تسعة هياكل 
عظمية نياندرتالية لأعمار مختلفة وفي حالات مختلفة من الحفظ والكمال. 


إن التحديات التي واجهت الجاميع البشرية التي انتشرت في مناطق 
مختلفة من إفريقيا ومن ثم في باقي أنحاء العالم لم تكن واحدة بل كانت 
مختلفة حسب اختلاف البيئات التي عاشتها تلك امجاميع؛ لذلك فإن 
تطورها كان أيضاً مختلفا والذي أدى بشكل تدريجي إلى ظهور أنواع مختلفة 
من البشر سكنوا في مناطق مختلفة من هذا العالم. وقد يكون أحد أهم تلك 
الأنواع غير النوع الذي ننتمي اليه نحن هو إنسان النياندرتال الذي ظهر 
قبل حوالي نصف مليون سنة وانتشر في مناطق واسعة من آسيا وأوروبا 
قبل أن ينقرض بشكل فائي قبل حوالي ۲١‏ ألف سنة فقط من الآن. أما 
إنسان 52016725 1101220 (الإنسان العاقل) الذي ننتمي إليه» فقد ظهر 
في شرق إفريقيا قبل حوالي ١١١‏ ألف سنة ثم بدأ يهاجر من هناك ليندشر 
فيما بعد في كل أرجاء العام قبل حوالي 6 ألف سنة. لم تستطع بقية 


٤ 


الأنواع من البشر أن تنافس هذا النوع الجديد عندما بدأ يدخل مناطقها 
حيث أخذ ينافسها على مصادر الغذاء بل أنه استولى عليها بعد أن ثبت 
وجوده وازدادت أعداده وبدأت بقية الأنواع بالانقراض إما بالموت أو 
بالذوبان داخل النوع الجديد. 


لا بد من الإشارة إلى أن الغالبية الساحقة من أجناس الأحياء تتكون 
من أنواع متعددة من الكائنات الحية (والكلام هنا عن الأجناس والأنواع 
كمراتب علمية للتصنيف). وحده الإنسان العاقل ومنذ أكثر من ۲١‏ 
ألف سنة عاش على هذه الأرض كنوع وحيد ينتمي إلى جنس 2110110 
أي أنه لا يوجد أي نوع بشري آخر يعيش على الأرض وينتمي إلى هذا 
الجدس غيرنا نحن» والسبب انقراض تلك الأنواع. وقد يكون هذا هو 
السبب الذي دفع الإنسان إلى تبني فكرة الحكمة الإلحية من وجود البشر 
على الأرض بعد أن وجد نفسه فريدا لا نظير له('). 


وهنا جدير أن نشير إلى نظرية افتراق القارات أو زحزحتهاء الذي 
أعلن بأن الجزيرة العربية والعراق والشام, وكذلك الحند كانت جزء من 
إفريقياء ومكثت في خاصرقا الشرقية» حتى التجأت لتلتصق بجنوب آسيا 
وتشكل بفعل التصادم سلاسل الجبال مثل الهملايا وزاغروس وطوروس 
وحتى جبال الشام. أما شبه جزيرة إيطاليا مغلا فكانت جزء من خليج 
سرت بليبياء والتصقت بأوربا لتكون جبال الألب» وكانت أيبيريا (إسبانيا 


١ 


سعد جميل: بحث : نبذة عن تاريخ تطور الإنسان - الحوار المتمدن - العدد: ۲٦۷۰‏ - 
V/ 1| ۰۹‏ 
Yo‏ 





والبرتغال) جزءًا من شال إفريقيا فانزاحت للشمال والتصقت بطرف أوربا 
لتشكل جبال البيرنس. وهكذا فالمكان قد تغير من جراء تلك الحركة 
الانفعالية التي أملتها حركة الأرض وتمددهاء وأمست بيننا وبين إفريقيا 
مسافات وجار» وأمسينا جيران لفارس وآسيا الصغرى» وتأينا عن اند 
وإيطاليا وأيبيرياء ولكن ثمة أسرار تكتنف انتشار السلالات من بؤرقا 
الأولى» وما فتئنا نقارب بين الاشكال والألسنة. وهنا نجد أن الكائن الحي 
خصص له مكانا سابقا قبل وجوده» وتسنی له أن ينتشر ويتطور ويستدرك 
ويصحح أخطاء في تكوينه. والتطبع مع محيطه. محاولاً دائماً موائمة المكان 
لمقتضياته ورغباته» وبذلك تكوّن مفهوم المكان غريزياًء وأمسى بديهياً 
وتداعى أن يكون محل جدل وموضوعا ذا شجون في البحث. 


إن مفردة (مكان) في اللّغة العربية تعود لمصادر أعمقء وربما إلى 
السومرية» وفي تفسيرها كتب الراغب الأصفهان ٠”‏ هه): (المكان عند 
أهل اللّغة الموضع الحاوي للشيء)» وقال الفيروز آبادي (۷١۸ه/‏ 
414١م‏ في القاموس(المكان: الموضع» والجمع: أمكنة وأماكن). وقال 
كمال الدين بن الحسن الرومي البياضي الحنفي (۹۸٠١٠ه/‏ ۱۷۸۳١م):‏ 
(في كتابه إشارات المرام من عبارات الإمام) معرفا: (المكان هو الفراغ الذي 
يشغله الجسم, والجهة اسم لنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا 
يكونان إلا للجسم والجسمائ» وكل ذلك مستحيلء إلا على الله تعالى) 
وقال الشيخ سلامة القضاعي (۱۱۹۳ه/ ۱۷۷۹م) في كتابه (البراهين 
الساطعة في رد بعض البدع الشائعة): (المكان هو الموضع الذي يكون فيه 


الجوهر على قدره» والجهة هي ذلك المكان» وجاء فى تفسير البحر 
5" 


المديد). أما المكانة» فهي: التمكن أو الجهة. يقال: مكان ومكانة كمقام 
ومقامة» فاستعيرت من العين للمعنى» وهي الحال» كما تستعار (هنا) 
و(حيث) للزمان» وإنغا وضعاً للمكان. 


لقد وردت كلمة (مكان) فى القرآن الكريم 4 ” مرة ونجد منها مثلا: 
(وَصَرَبَ الله ملا فرب كاتث آمنَةَ مُطْمَيِة باتبها رزفها رَعَدَا من كُلّ 
مَكَانِ فَكَفَرَتْ بأنغم الله فَأَذَاقَهَا الله لاس الجوع واخؤف بها کاو 
يَصْتَعُونَ) (') وهناك الكثير من الأحاديث الق 1 فيها تلك المفردة 
"المكان": ومنها الوارد في (صحيح البخاري) عن أي هُرَيْرَةَ عَنِ الي 
(ص)» قَالَ: لا تقوم المَاعَهُ حى بر الرّجلَ بِقَبْرٍ المَْلٍ فَيَفُولَ: يا لَْتني 
مَكَائَهُ). ونجد المفهوم قد طرقه الفلاسفة ومنهم فخر الدين الرازي ف 
(المطالب العالية من العلم الإلهي) في معنى المكان والحيزء فيقول فى الجزء 
الخامس: (اعلم أنا نشاهد الجسم ينتقل ويتحرك, ونعلم بالبديهة أنه ينتقل 
من جهة الى جهة ومن جانب الى جانب» والناس يسمون المنتقل عنه 
والمنتقل اليه تارة بالحيزء وتارة بالجهة, وتارة با محاذاة, وتارة بالجنب» وتارة 
بالجانب» وتارة بالمكان, وتارة بأسماء أخرى لاحاجة لنا فى الاستقصاء فى 
ذكرهاء وبالجملة فمكان الشيء هو الذى يكون فيه الشيءء ويفارقه 
بالحركة» ولا يسعه معه غيره. وتتوارد المتحركات عليه على سبيل البدل» 
فهذا القدر أمر معلوم بالضرورةء ثم نقول: إن هذا الشيء إما أن يكون 
أمرا ينفذ فيه ذات الجسم» ويسري فيه» وإما ألا يكون كذلك بل يكون 


أ سورة النحل الآية ؟ .١١‏ 
۷ 


هو السطح الباطن من الجسم الحاوي, المماس للسطح الظاهر من الجسم 
المحوي, والأول هو القول بأن المكان هو (البعد والفضاء). وهو مذهب 
أفلاطون وأكثر العقلاء, والثاني هو القول بأن المكان هو السطح الحاوي, 
فالمذهب الحصل المعقول فى المكان والحيز ليس إلا هذان القولان, ثم 
يقول: وبالجملة» فقد ظهر بالبيان الذي لخصناه: أن القول المعتبر فى 
حقيقة المكان هو أنه إما الفضاء وإما السطح» أما القائلون بأن المكان هو 
الفضاء والخلاء فهو فريقان: أحدهما المتكلمون, فإنهم يقولون هذا الفضاء 
وهذا الخلاء محض ونفي صرف وليس له وجود البتة2 والفرقة الثانية 
الفلاسفة» وحتى لا ينفر الناس من كلمة الفلاسفة فيجب أن نعلم أخم 
كانوا أصحاب رياضيات وهندسة» ولذلك لا يفهم معنى المكان والحيز 
والجهة على الحقيقة إلا من درس الرياضيات والهندسة الفراغية والهندسة 
التحليلية وحساب المثلثئات وغير ذلك» وف كتب الفلسفة اليونانية تجد أن 
بعضهم كان يكتب على باب المدرسة من الخارج عبارة (من لم يكن 
مهندسا فلا يدخل علينا) وهم يقولون: هذا الخلاء أبعاد موجودة, قائمة 
بأنفسهاء وهى أمكنة للأجسام» وهذا القول هو اختيار أفلاطون الإلمي 
وأكثر من تقدمه من الحكماء المعتبرين2 وهؤلاء فريقان؛ منهم من يقول لا 
امتناع فى بقاء هذا الفضاء خاليا عن الأجسام, ومنهم من يقول أن ذلك 
تمتنع, وأما القائلون بأن المكان هو السطح الحاوي فقط. فهذا قول 
أرسطوطاليس وجمهور أتباعه. كأبي نصر الفاراي وأبي علي بن سينا)(') 


أ الرازي» فخر الدين - المطالب العالية من العلم الإلمي - تحقيق أحمد حجازي السقا - دار 
۲۸ 


ثم يتكلم الفخر الرازي (ت: ١551ه/‏ ١١۲٠م‏ هيرات), وذلك في 
مؤلفه الكلامي عن الخلاءء علما أنه أشعري الهوى وعادة ما يجاور المعتزلة 
وأهل الكلام. ويؤكد هنا أنه موجود وليس عدم محض ولا نفي صرف, كما 
يقول المتكلمون, ويذكر الأدلة على ذلك. وذهب العتزلة أن الله موجود 
في كل مكان, وهنا نجد رأي لابن حزم الاندلسي (885” ه / 44م 
قرطبة - 5ه4 ه / 54١٠م‏ ولبة)» وهو أحد أقطاب المذهب 
الظاهرى(') حيث يجري فيه كل النصوص على الظاهر. حيث يقول: قول 
الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من مله على ظاهره نص آخر 
أو إجماع أو ضرورة حس» وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل 
لذلك المكان وماليء له. ومتشكل بشكل الكان» والمكان متشكل 
بشكله» ولا بد من أحد الأمرين ضرورة» وعلمنا أن ما كان في مكان فإنه 
متناه بتناهي مكانه. وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مکانه» 
وهذه كلها صفات الجسم. وأيضا فإن قولحم في كل مكان خطأ لأنه يلزم 
وجب هذا القول أنه يملا الأماكن كلهاء وأن يكون ما في الأماكن فيهء 
تعالى الله عن ذلك وهذا محال, فإن قالوا هو فيها بخلاف كون المتمكن في 
المكان قيل لحم هذا لا يعقل ولا يقوم عليه دليل. وقد قلنا أنه لا يجوز 
إطلاق اسم على غير موضوعه في اللّغة إلا أن يأ به نص فنقف عنده 
وندري حينئذ أنه منقول إلى ذلك المعنى الآخر وإلا فلا فإذا قد صح ما 


الكتاب العربي - بيروت ۱۹۸۷ . 
1 الظاهرية مذهب فقهيء وقيل منهج فكري فلسفي وفقهي, نشأ المذهب في بغداد في منتصف 
القرن الثالث الهجري» وإمامهم داود بن علي الظاهري ثم تزعمهم وأظهر شأخم وأمرهم الإمام علي 
بن حزم الأندلسي. وتعد بعض المصادر أن الظاهرية هو المذهب السني الخامس. 

۲۹ 


قد ذكرنا فلا يجوز أن يطلق القول بأن الله تعالى في كل مكان لا على تأويل 
ولا غيره لأنه حكم بأنه تعالى في الأمكنة لكن يطلق القول بأنه تعالى معنا 
في كل مكان ويكون حينئذ قولنا - في كل مكان - إِنما هو من صلة 
الضمير الذي هو النون والألف اللذان في - معنا - لا ما يخبر به عن الله 
تعالى وهذا هو معنى قوله (يَسْتَخْفُونَ من الاس ولا يَسْعَخْفُونَ من الله وهو 
مَعَهُمْ)('). وذهب قوم إلى أن الله تعالى في مكان دون مكان وقولهم هذا 
يفسد با ذكرنا آنفا ولا فرق واحتج هؤلاء بقوله تعالى (الرَحْمَانُ عَلَى 
الْعَرْشِ اسْتَوَى )('). والمعتزلة فسروا (اسَْوَى) بمعنى استولى. ثم يقول ابن 
حزم في نفس المصدر: (فأما القول الثالث في المكان فهو أن الله تعالى لا 
في مكان ولا في زمان أصلا وهو قول الجمهور من أهل السنة, وبه نقول 
وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان كل ما عداه» ولقوله تعالى: (وَاللَهُ مِنْ 
وَرَائهمْ خيط)(”) فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في 
المكان لكان المكان محيطا به من جهة ما أو من جهات وهذا منتف عن 
الباري تعالى بنص الآية المذكورة» والمكان شيء بلا شك فلا يجوز أن يكون 
شيئا في مكان, ويكون هو حيطا بمكانه هذا محال في العقل يعلم امتناعه 
ضرورة وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنه في مكان إلا ما كان جسما أو عرضا 
في جسم هذا الذي لا يجوز سواه ولا يتنكل في العقل والوهم غيره البتة 


' سورة النساء - الآية 4 .١١‏ 
' سورة طه - الآيةه. 


' سورة البروج - الآية٠؟‏ 


وإذا انتفى أن يكون الله عز وجل جسما أو عرضا فقد انتفى أن يكون في 
مكان أصلا وبالله تعالى نتأيد)(') 


وهنا تبين للفلاسفة المسلمين إن الكون له حدود» وأنه يشغل حيزاً 
وأنه كروي لأن العرش الذي هو سقف المخلوقات كروي» وهذه الكرة من 
داخلها لما ست جهات. أي أن الكون له ست جهاتء الشرق والغرب 
والشمال والجنوب والعلو والسفل» أي أعلى نقطة في الدائرة ويقابلها 
أسفل نقطة فيهاء وهذا قال صاحب الطحاوية (ولا تحويه الجهات الست 
كسائر المبتدعات). 


ونقرأ رأي أورده ابن تيمية الحراني (151ه/ 1757م بادية حران- 
۸ ه/ ۱۳۲۷م دمشق)., وهو الذي كفر الإمام الرازي في كتابه (السر 
المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم). وهنا نجد أن فكر الحنابلة يعكس 
توجها سطحيا هو الأقرب إلى السفسطة أكثر منه الى العمق العلمي 
والمنطقي. وهو نابع من فكر سلفي رافض للفلسفة والقياس» ومؤمن 
بالنقل على حساب العقل» كون الفلسفة تتضمن الانضباط البعدي غير 
المرئي والحندسة والحدود المكانية والمقاسات. وقد اختلفت عبارات ابن 
تيمية فى معنى المكان والحيزء فنراه يأخذ معنى الحيز من قوله تعالى (وَمَنْ 
وم ؤم بره إلا متحرَهًا لقتال أو مُمَحَيرًا إلى فة فَقَدْ بء عضب من 
اله وَمأوَاهُ جَهَنّمُ وَبِنْسَ الْمَصِيرُ) (') حيث يقول في الرد على أصحاب 
' ابن حزم أبو خد علي: الفصل في الملل والأهواء والنحل - منشور على الشبكة. 


' سورة الأنفال - الآية .٠١‏ 
۳١‏ 





ا منطق (إن المتحيز في لغة العرب التي نزل با القرآن يعني به ما يحوزه غيره 
كما في قوله تعالى: (أو متحيزا إلى فئة), فهذا تحيز موجود حيط به موجود 
غيره إلى موجودات تحيط به. وسمي متحيزاً لأنه تيز من هؤلاء إلى هؤلاء, 
والمتكلمون يريدون بالتحيز ما شغل الحيز والحيز عندهم تقدير مكان ليس 
أمرا موجودا؛ فالعالم عندهم متحيزء وليس في حيز وجودي» والمكان عند 
أكثرهم وجودى )(') وهذا القول بعيد عن الحقيقة لأن الحيز أمر وجودي 
كما بينه الفخر الرازي. 


ونجد رأيا لابن تيمية فى (التدمرية) ينزه الله أن يكون فى السماء أو 
أن يكون فوق العرش" بذاته" - كما يقولون - ويثبت لله العلو المطلق, 
بلا مكان ولا حيز ولا جهة» فلما قال سبحانه وتعالى: (وَالِسَمَاءَ بَنَيْنَاهَا 
بأَْيدٍ ونا لَمُوسِعُونَ)(') فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي 
امختاج الذي يحتاج إلى زنبيل ومجارف وضرب لبن وجبل طين وأعوان؟ ثم قد 
علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض وم يجعل عاليه مفتقرا إلى 
سافله فال حواء فوق الأرض وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض والسحاب 
أيضا فوق الأرض وليس مفتقرا إلى أن تحمله والسموات فوق الأرض 
وليست مفتقرة إلى حمل لما فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه إذا كان 
فوق جميع خلقه؛ كيف يجب أن يكون محتاجا إلى خلقه أو عرشه؟ أو كيف 
يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟ 


أ الحافظ أحمد بن تيمية - الرد على المنطقيين - دار المعرفة - بيروت 1١9/٠١‏ 
' سورة الذاريات - الآية ٤١‏ 
11 





وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره فالخالق سبحانه وتعالى 
١ 5 0‏ 
أحق به وأولى)( ). 


وبذلك يعخلص ابن تيمية أن الله تعالى لا فى زمان ولا فى مكان» وليس 
هذا نفيا لوجوده لسبب هو أن هذه أوصاف المخلوقات ولا يصح إطلاقها 
على الله وبذلك اختلط لدى أصحاب هذا التوجه التجريد والتجسيم 
للمكان والزمان. ونرصد بمذا السياق أن مفهومي المكان والزمان بدءا 
يشغلان الإنسان منذ القدم وتآزر مع فهم أصل المادة ومكوناتها وكينونتها. 
وظهرت أسئلة كثيرة» من الذي سبق الآخر؟ وجود المكان أو وجود 
المادة؟! هل الزمان والمكان حقيقيان بمكن إدراكهما أم تجريديان؟. ونجد 
أقدم الإيحاءات قد وردت في شكوكية عالية نسفت ثابت الفناء البشري» 
بغت بين سطور ملحمة كلكامش» وتتعلق بوجود الإنسان وتنقله في المكان 
وتوقه عبثا لنيل الخلود وزمام الزمان. 


وني الخطاب الأسطوري في العراق القديم انقسم المكان إلى مكان 
خاص» وهو الخير الذي يشغله الجسم والمكان المشترك وهو الحيز الذي 
تشغله حملة أجسام ويتصف المكان بأنه متجانس ومتصل وغير محدود 


' إبن تيمية أحمد - الرسالة التدمريةء تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر 


والشرع - جامعة الإمام جد بن سعود -العربية السعودية - الطبعة الرابعة / ١4٠‏ ه. 
۳۳ 





ويتصف المكان من الوجهة الرياضية بأنه ذو ثلاثة أبعاد وأن الأشكال 
الهندسية ذات طلائع ثابتة (') 


أما عند قدماء المصريين فقد كانت الصورة الذهنية للمكان هي صور 
مظاهر محسوسة»ء تشير إلى مواقع ها لون عاطفي» وقد تكون مسالمة أو 
معاديةء مالوفة أو غريبة» إلا أا في جميع الأحوال, خارج نطاق التجربة 
الفردية. تشعر الجماعة باستمرار بوجود أحداث كونية معينة تضفي على 
المكان دلالات روحية, مثلما يقرن الليل والنهارء والشروق والغروب 
بالموت والحياة. 


وقد ينمو الفكر التأملي للمكان ويتطور حين يتناول المناطق التي لا 
تدركها التجارب الحسية المباشرة» كالسموات مثلا أو العالم السفلي, كما 
نرى في علم التنجيم عند قدماء المصريين» الذي أسس نظاماً واسعاً من 
العلاقات والروابط, بين الأجرام السماوية والأحداث الفضائية وبين 
المواقع الأرضية. وهكذا قد لا يقل الفكر المصري القديم نجاحا عن الفكر 
الحديث في إيجاد نظام فضائي مكاني متسق. إلا أن هذا النظام لا يقرر 
بالمقاييس الموضوعية» بل بإدراك عاطفي حسي للقيم. وكان المصريون 
القدماء يقولون إن الخالق خرج من مياه الميولي الأولى» وأقام رابية صغيرة 
له من اليابسة يقف عليهاء هذه الرابية الأولى التي بدأت الخليقة عليهاء 
اتفق الغرف على آنا في معبد الشمس في هليوبوليس» وعَد معظم المصريين 
' الدكتور عامر عبد زيد - جماليات المكان في الخطاب الأسطوري في العراق القديم - منشور 


على الشبكة بتاريخ ۲۷ حزيران (يونيو) .70٠17‏ 
٤‏ 





إن الآلة الشمس هي خالقة الكون('), وهذا مطابق للمفهوم السومري 
حين عد الحياة بدأت كما هو عرف إنشاء الجزر الصناعية وسط أجمة 
البردي (المهور)؛ كما هو باق كعرف حت اليوم ويدعى في الجنوب العراقي 
(جبايش)» وسرى كحل إنشائي معماري لإقامة بيوت (الصرايف) من 
خامة القصب("). 


ونجد في المدونات السومرية بحث وشغف وحنين لأرض أو مكان 
يدعى (أردا- أرتا). الذي يوحي بأنه (أرض)الذي لم يعثر عليها بعد وتقع 
على تخوم الجبل الشرقي امحاذي للوادي العراقي. وفي هذا السياق 
اللسان» نجد أن كلمة (أرض) قد تطابقت في عدة لغات حت المتنائية منها 
عن العربية» ومنها اللغات الأنجلوسكسونية كالألمانية والسويدية والإنكليزية 
(طاختدء), وقد حير الأمر ألباب العلماءء بكيفية مكوث تلك المفردة, 
حتى بعد تشتت الألسنة أو افتراقها بحسب الأسطورة التوراتية (في برج 
بابل). ونجد مرادفات في اللغات اللاتينة لكلمة (طره - تيرا) وهي تقابل 
(ثرى) العربية التي تعني الأرض» فترد (في الفرنسية عع 6722-12 في 
الإيطالية والإسبانية)» ومازالت مستعملة في قرى الجنوب العراقي (طره) 
من بقايا الآرامية» وتعني خلاء الأرض. 


| د. زهير صاحب» مقال: المعابد الفرعونية - كلية الفنون الجميلة - جامعة بغداد - 
متشون 9 
مفردها صريفة, وهي واردة من صرياثا الآرامية» ويرجح أن تسمية البصرة واردة من تحريف 
واقتضاب مركب (بيث صرياثا) أي مدينة العشش. 

Yo 


ونجد إشارات للكلمة في كتب التراث كما في (تير-شيش)» وهو اسم 
مدينة مندثرة في اليمن القديم ووردت في أشعار حسقيال نبي اليهود وللأمر 
دلالات» حيث ل نجد لها موضع في فلسطين التي ابتلت بتزوير الأسماء 
ويبدو أن القبائل اليمنية المهاجرة (من بني هلال) أعادت إحياء مها في 
تونس حينما وطأنَا عام 88 ١١م.‏ فقد أورد الشريف الإدريسي في كتابه 
(نزهة المشتاق في اختراق الآفاق863/7) بأن مدينة تونس في ذاتها قديمة 
أزلية حصينة اسمها في التواريخ (تيرشيش)» وهو الاسم الفينيقي لاء وما 
افتتحها المسلمون وأحدثوا البناء بجا موها تونس. وهناك شجون لفهوم 
المكان الأرضي منها نجد كلمة (طيبة-الطيب) التي عنت الأرض كذلك» 
ومازالت متداولة في جنوب العراق ونجدها تسميات لمواضع في ميسان 
العراق وفلسطين واشتهرت با عاصمة مصر القديمة (طيبة) وجدير أن 
نشير إلى أن كلمة (آدم) و(أدي) العربيتين تعودان إلى اللغة السومرية, 
وتعنيان الطين أو الأرض» وربما يرد من سياقها امجازي (الدم) لحمرته كما 
الأرض. 

حلول الإنسان في المكان 


ورغم شحة سبر المكان في الثقافة العربية» فإنه له اصطلاحاً دلالات 
متعددة تتجاوز جملة المعارف؛ فمن خلال تراكمات المنتج العلمي وانفتاح 
تواصل العلوم والبحوث» حتى تماست مع بعضهاء وأصبحت مناطق 
التماس علوما أخرى قائمة بذاتّاء ففي تشعبات الجغرافيا نجد الجغرافيا 
البشرية المراكب بين الطبيعية والوجود البشري» أو التماس بين الجغرافيا مع 


١ 


علم الاجتماع» والذي ينشغل بدراسة توزيع التجمعات البشرية ومدى 
تفاعلها مع البيئات الطبيعية الحيطةء ومنها أنماط العمران البشري وطبيعة 
النشاط الاقتصادي . ثم التركيب السياسي للدولة ومقتضيات السياسة 
التي تمليها الجغرافيا التي تدعى كذلك المغرافيا السياسية (الجيوبولتيك). 
وة دول صنعتها أحداث تاريخية» بينما أخرى أوجدقا الجغرافيا أصلا 


مثلما العراق ومصر الذي أوجدته أغارها وروافدها. 


وعلى العموم ثمة ما يشبه (الثابت) بالعلاقة بين الإنسان والجغرافيا 
يحدد ملامح العقلية الثقافية» ويترادف كما (السليقة والفطرة), كما هو 
الشغف بالمكان أو أحداث المجرات الذي تتبع ناموس قرار وتكرار. وإذا 
كان الفضاء الجغرافي له ثلاثة أبعادء فإن بعده الرابع يبقى الزمان وأحداثه 
(التاريخ)؛ أما الجانب القيمي في تلك الحيثيات فإنه يشكل بُعدها الخامس» 
كونه الميزان والميل نحو الاستقرار» أو ما نظن أنه الأنسب لفحوى 
(التراث) الذي هو نفحات المكارم في حيثيات التاريخ الذي تحكمه 
السياسة ومآربماء حيث يقال بأن السياسة بنت التاريخ وإن التاريخ ابن 
الجغرافياء والجغرافيا ثابت لا يتغير على الأقل في المدى المنظور. ويرى 
معجم الجغرافيا أن المكان هو "التراث ومكاسب السلطات السابقة, 
الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية. ومسرح رهانات وصراعات قوى 


دائمة (). 


1 Dictionnaire de la géographie, PUF, 1970, pp68-169. 
۲۷ 


وهذا يثير أمرا سياقيا آخرء فحقيقة الدول في التاريخ هي أمكنة 
واحتيازات. وحدود وغدد وتقلص› فهي السلطة والسياسة التي تعني 
امتلاك المكان, بل أن السلطة لا يمكن أن تتشكل إلا على مكان. وهدفها 
الأسمى هو الاقتطاع من الأرض لصالحها. والسلطة تعني القوة من أجل 
الاستيلاء المكاني, كبعد مجالي» ترابي» قبل أي تنظيم أو مسوغات» أو 
RE‏ 5 ا 7 7 5 95 5 1 ١‏ 
البرقعة بمفاهيم مقبولة مغل الفتح والغزو, ووضع اليد 2 الفيء والخراجأ ( 


فالسلطة توق نفسي وطموح إلى التحكم أو حماية الذات أو التماهي 
أو التقمص, ولا يفصح عن تلك الرغبة كأي حاجة تنقصها الحجة 
الأخلاقية, لارتباطها بالرهانات من جهة ولخطورة مغامرتها ونتائجها من 
جهة ثانية» ومن ثمة حاجتها إلى التستر مع تبرقع بالشرعية والتبرير حق 
بمبررات وهمية وغير مقنعة إلا من يحمل الطموح عينه أو مغيب عن الوعي 
حق تكون الميمنة مستساغة. 


وهنا يدنشأ جدل بين سلطة أتت وثقافة رسختء فالسلطة تحاول أن 
تحتوي المكان بالحجة وتبرقعها بالبراهين المعرفية وحتى الروحية والأسطورية, 
ويحاول المكان المقاومة بالعقبات الطبيعية أو الثوابت الثقافية» لذا تتعقد 
الأمور بين سلطة وثقافة في بيئة مشتركة, بيد أن السلطة تحاول أن تستميل 
الثقافة نحو خطابما بموجب أهداف ورهانات وحجج أو حتى التهديد 
والوعيد أو الجبروت, والذي يتداعى إلى مقاومة قد تستمر خلال الأزمنة, 
ويكون سبباً كافياً في نخر ثم سقوط السلطات. 


أكاهن كلود, تاريخ العرب والشعوب الإسلامية» دار الحقيقة, بيروت ۰۱۹۸۳ ص77 .17/8-1١‏ 
۳۸ 


إن ظهور السلطة هو نتاج تفاعلات بؤر وتقاطعات لجميع ”مات 
الثقافة» من عادات وأعراف ومصالح دنيوية وعقلية ومفهوم الشراكة 
والتوافق (العقد الاجتماعي)؛ وجوانب الإقناع والعقل وحتى الكاريزما التي 
يتمتع با القائد, وخبرة السنين والتدبر والحكمة والجاه والأصول المنزهة, 
لكن نة أمر آخر لا يعلن عنه هو التغاضي الجمعوي عن الخداع المتبادل 
والتواطؤ الواعي واللاواعي» كما حصل في كثير من السلطات العربية, 
حينما سكت القوم على آفاق أوصل البلاد والعباد بعد حين إلى الهاوية. 
وة علاقة للسلطة بالناس انطلاقاً من إدراك للمعادلات والمفاصل 
المتحكمة وتبدأ بالاستيلاء المكاني والبطش السكاني ثم تشرع مرحلة 
الحراسة والمراقبة والتوجس» ثم صعود ضرب من تبادل المصالح والمعادلات 
الجمعوية حتى اللاأخلاقية» ورسم دوائر جمع الولاءات وتكور الأحلاف. 
ولا يتم كل ذلك إلا بتكون شبكة علاقات أو إنتاجها في المكان من 
خلال التلاعب بسياقات الواقع المسترسل من العهود السابقة» أو 
تصريفها وتغيبر مجراها. وتدشغل السلطات في رسم ملامح وأمر واقع يبدو 
راسخاً ومسترسلاء وكأنه أزلي في تنظيم المكان السلطوي, إذ لا يترك 
المكان على عواهنه بل يجب التدخل من أجل إعادة صياغته. وهذا ما 
يؤسس ما اصطلح عليه بول كلافال ب(المعمار المكاني)('). 


Paul, Espace et pouvoir, PUF, 1978 `‏ 012521 . بتصرف من بول كلافال 
(الفضاء"المجال", والسلطة).. 
۳۹ 





ونتذكر في السياق بأن الدول الحتلة عادة ما تجلب معها طابورها 
ا لمؤيد» وتملكهم الإقطاعيات المكانية التي كانت جوزة مؤيدين لخصومهم 
من (العهد الباد)» وقد حدثت في الدول التي تعرضت للاحتلالات 
والانقلابات كما العراق وسوريا ومصر واليمن والجزائر وليبياء حتى لنقرا 
طبقات من المتنفذين لكل حقبة وسلطة ملكت المكان وتنفذت به. 
وأضرب المثل في العراق بحي سكنته حتى هاجرت في أواسط السبعينات 
من القرن ال ماضي» يدعى (الكاظمية) وهي أرض خصبة من البساتين تقع 
شال بغداد وفيها آثار بابلية ثم كيشية تعود لأواسط الألفية الثانية قبل 
الميلاد. وبعد تأسيس بغداد ۲٦۷م‏ ميت (مقابر قريش)» وكانت تتبع 
لأمير عباسي ضاع امه وتبدلت صفته» حتى العام ۸١٠٠م»‏ وحلول 
التتر» ثم ملكها بعضهم وأورثها للإيلخانيين» وخصت المملوك الخواجة 
مرجان في أواسط القرن الرابع عشر اليلادي» صاحب الخان والمسجد 
والمدرسة المعروفة في بغداد القديمة. ثم جاء العثمانيون ليملكوها لعائلة 
(الجلبي) التي جلبوها معهم من جهات الموصل وآخر رموزها السياسي 
الذي اقترن امه بالاحتلال الأمريكي (أحمد الجلبي). ومن أجل الانسجام 
مع الحيط السكانن, أو تمشية الأمور في سياق الاحتلال الصفوي للعراق» 
تشيع آل الجلي» ومكنوا بملكون حتى اليوم إقطاعيات واسعة فيها. 
وهكذا لكل مكان قصة مع الملاك والمستحوذين بحسب السلطات 
والتغيرات السياسية» وربما نجد مصر مثالا لحقبة ما قبل خد علي عام 
٥‏ وما بعده» حينما استحوذ العصمنلية والأرنؤوطية على أطيان 


مصر حت 5 حينما تحولت شكلا للفلاحين ولكن مضموناً لطبقة 
جديدة من الملاك الذين يملكون الدولة. 


وبمكن تشبيه السلطة كما السلعة التي يجب إنتاجها أولاء ثم تسويقها 
ونشرها في المكان وفق قوانين اقتصادها. حيث أا تسعى لأن تروج دائما 
لنفسها وتبقى مهيمنة على حراك الولاءات من أجل ديمومة سوقها 
ورواجها؛ لذا فإن السلطة تبقى راعية للمكان حتى يتخذ شكلا وشخصية 
وهوية» وتبقى الثقافة السد الأخير قبل الانميار, كونما تمذل الضمير الجمعي 
حتى في أدى حالات ابوط التي تصلهاء حيث تمنع السلطات من 
التعسف المؤدي لانتحار السلطة ذاتما. وبغياب الحد الأدى من التفاهمات 
بين السلطة والنقافة. نما يؤدي إلى تاكل السلطة من داخلها حتى تنحسر 
إلى الدائرة الأصغر في الولاءات» لا بل في الجوشن المكاني الأصغر الحامي. 
ويبقى مجال حركتها وحريتها القلاع والأبراج (كما الإقطاع والبرجوازية 
سكنة الأبراج بأوربا) والقصور السلطانية والملكية والمناطق الرئاسية 
و(المنطقة الخضراء كما في العراق اليوم), وقد أنشأ أبو جعفر العباسي 
بغداد عام ۲٦۷م‏ على أساس حصن مدور قطره حوالي ثلاث كيلومترات, 
يغلق بعد الغسق؛ ليحميه وسلطته. وأنشأ صلاح الدين قلعته على جبل 
المقطم في القاهرة (111/1- "9337١١1م,‏ وأكملها أخوه الملك العادل عام 
) وذلك خشية سطوة وثورة المصريين. لذا فالمكان السلطوي هنا 
مجسد, لكنه منحسر ومغلق ومتوجس من سقوط مبرم في أي لحظة. 


ورغم تشظي المكان من فعل السياسة السلبي؛ لكنه يبقى بمتلك هوية 
وشخصية وخاضع للتعريف كتراب أو إقليم أو جهة أو وطن» لذا 
فالسلطة تعني ريعا ومردودا وثراء لا محدود لا يمكن جمعه من الكد وعمل 
الجد خلال سنين العمر المعدودة. وحق يتحقق للسطات ذلك يجب أن 
تبث خطاب تواصلي ثقافي موحد وإضفاء الطابع الاحتفالي- الطقسي 
على الممارسات السلطوية حتى لا تبدو قاسية, بل بمكن أن تكون من 
خلال الغناء والرقص» أو حت العمارة وخطابحا البصري والرمزي المهيب 
كما كانت في (عمارة السلطات الشمولية)('). 


ويحصل تسلسل اصطلاحي متواتر للسلطات مثل: السلطة المنقضة 
أو الانقلابية أو الثورية أو التصحيحيةء ثم المطلقة؛ ثم الشرعية والدستورية 
ثم سلطة الرهانات الصعبة و(الضرورة) وفحواها الحقيقي سلطة استلاب لا 
سند يحميه, والدليل في اتميارها المبرم مثل مكعبات لعب الأطفال (ليكو). 
ولا نغفل حقيقة أن الذاتية المكانية ها أعمق الدور في الخصوصية العقليةء 
وأن بناء الإمبراطوريات القسرية أفلح وساد ردحاًء لكنه أفل تباعاًء لذا 
فإن التجارب الذاتية الصغيرة أنتجت من العلوم والفنون في أزمنة الأمان 
أكثر ثما أنتجته الإمبراطوريات في أزمنة التمدد والقلق. واتفق بمذا الصدد 
مع رأي دونته عن لسان المرحوم الدكتور مكية» من أن دول الطوائف 
الأندلسية أو الدولة الفاطمية ودولة المماليك أو الدول الأتابكية 


' كتبت عن مواصفات تلك العمارة في كتابي (العمارة الإسلامية.. سجالات في الحداثة) بيروت 
518" 
A‏ 





والحمدانية "رغم قصر تواجدها". أنتجت من الفنون والعمارة سنيعها 
وراقيهاء أكثر من الدولة العثمانية, لا سيما في الأطراف» حينما مارست 
أنانية المكان المركزي على حساب الحوامش. وليس بعيد عن المحسوس في 
العلاقة بين السلطة والمكان, ثمة أمر سياقي وجدلي يتعلق بدراسة المكان 
والزمان أو الجغرافيا والتاريخ» وحري سبر السطوة على المكان ودحض 
كذب ما دوّن عبر الأزمنة» من خلال تواجد الشاخص والدليل المديني 
والمعماري والفني. 


Chronotope الزمهان‎ 


يبقى الزمان والمكان ظرفين متلازمين في أذهانناء ولا بمكن الفصل 
بينهماء ونمة فروق ظاهرية بينهماء إلا أنمما يتفقان في القيمة ويفترقان بين 
الملموس والمحسوس؛ فالزمان مقياس والمكان حقل تفاعل» ومن خلال 
تأثيرهما المتناهي تبنى الحضارة التي للسلطات دور أساسي فيهاء وقد شكلا 
دائماً طرفان أساسيان في الإدراك البشريء الذي أقر تعارضهما وتكاملهما 
بعيداً عن تطابقهما وترابطهما ا يكمل إحداهما الآخرء وهما كيانان ثنائيا 
البنى» وهذه الثنائية تشكل تاه المدرك والمستدرك. والشكل والمضمون؛ 
والمجرد والملموس» والصورة والمادة. 


ونلمس تباين في مفهوم الزمان والمكان بوجهات النظر حول العلاقة 
بينهماء فهما متلازمان ولا يمكن الفصل بينهماء فرغم الفروق الظاهرية إلا 
أنهما يتفقان في القيمة ويفترقان في المحسوس والملموس. والزمان مقياس 


<۳ 


والمكان حقل تفاعل بتأثيرهما المتناهي تبنى الحضارة» وهما طرفان أساسيان 
في الإدراك البشري» وهما متعارضان» ولكنهما متكاملان وتكاملهما لا 
يعني تطابقهماء وترابطهما يكمل إحداهما الآخرء. وهما كيانان ثنائي البنى 
[1112116. وهذه الثنائية تحاكي الثابت والمتحول, والشكل والمضمون, 
والمحسوس والملموس, والجسد والروح, واللغة والكلام» والصورة والمادة, 
وحتى الخير والشر. أما العمارة فهي نتيجة زمان ومكان, وهما كيانان من 
ناحية وإن من الضروري التنوع والاختلاف في الخلق والإبداع» وهما 
موضوع دراسة وبحث لاستخراج دلالات العلاقة وأهميتهما في العمارة 
عامة. 


والمكان هو الحيز الحاوي على صيغ من الاشكال تملي أعرافا 
وتوجهات فكرية ومشاعر حسية, والمكان المؤثر في النفوس هو الذي 
يستطيع توصيل كل تلك الأحاسيس وبملي على اللاوعي الإنسان نظامه 
وسيرورته. يقول ابمغراني الأمريكي "من أصل صيني"» بي فتوان *ذلا 
:)١ 41۳ ۰:a) "Futuan‏ "إن المكان ظهر عندما أعطت الإنسانية المعنى 
للفضاء الجغراني. وني أي وقت يعرف أو يحدد فيه الموقع فإنه ينفصل عن 
الفضاء غير الحدد أو المتناهي الذي يحيط به. وتعطى بعض الأماكن معان 
كبيرة» أو أسماء أو تعريفات علم من قبل امجتمع. والتي تجعل من 
لضان ا6 فک وغ يدرت لري :والاسياغي 
والمخطط الحضري» الأماكن التي ها معان خاصة للناس ويمتلك هوية 
راسخة» فاا تعطي لحم إحساساً قوياً بالمكان. والإحساس بالمكان هو 
ظاهرة نفسية واجتماعية تظهر بشكل منفصل للذات وتدرك بالخبرة 


5 


وتعتمد على حكم الإنسان على تلك الظاهرة. والإحساس بالمكان يظهر 
من خلال الناس الذي يهب هوية المكان. وإظهار الخصائص المكانية في 
البيئة التي تعطي الإحساس بالجمال والصحة هو الذي يجعلها مريحة )١(‏ 


نقر أن الحقيقة تبقى مضلعة وكل منا يرى الضلع الذي يقابله» ونتمى 
أن نجمل الرؤى ونقارنها ونقاربما ونناقشها لكي نخرج بفحوى أقرب الى 
الصواب» ولاسيما في العلاقة بين المكان والزمان التي مكشت متشنجة 
وملتبسة» فمن الناس من يصروا على أزلية المكان في علاقته بالأزمنةء أي 
أن الحضارة لا تبنى إلا في أماكن بعينهاء رغم تغير الظروف الزمانية, 
فالعراقيون بنوا حضارات مكانية لكنهم فشلوا اليوم في التعامل مع الزمان» 
والحال ينطبق على المصريين واليونان والعرب وغيرهم. ونجد أن الحضارات 
القديمة كانت أكثر وعياً بمفهوم الزمان ونظموا التواريخ وأنشأوا التقاوم 
كما العراقيين والمصريين» كرواد للوعي المكاني/ الزماني. وربما يكون الوعي 
بتداخلهما وانسجامهما هو المؤسس لكل الحضارات التي صعدت» وكان 
أفولما مرهونا باختلال ذلك الميزان. 


مازالت جدلية الزمان والمكان تشكلان نسيجا عجيبا لاستخراج 


دلالات العلاقة وأهميتها في الحياة البشرية, وإن الإنسان هو مادة الربط 


Place, Art, and Self. 2004. University of Virginia Press, . ' 
Santa Fe, NM, in association with Columbia College, 


Chicago, 


f° 


بين الزمان والمكان, وهذا يحيلنا إلى ما أسماه باشلار "وتيرة الجهود 
الإنسانية"» روح الزمان والمكان هم البشر. وتبقى العمارة والعمران نتيجة 
زمان ومکان» فهما كيانان يؤكدان ويعلنان ضرورة التنوع والاختلاف في 
الخلق والإبداع. إن أهمية وحدة الزمان والمكان تعطي إيقاعًا في الثبات 
والحضور, كما في تعاقب الليل وتوجيه المبنى لضوء النهار الذي هو زمن. 
وهذا يرتبط بنشاط الإنسان وحركته» لذا فإن شعور الإنسان بالانتماء إلى 
المكان. هو من يحدد ذاته وموقعه وحتى وعيه» بل والماجس الروحي من 
حيث الطبيعة والقيمة وتعلقهما بالبنية الوجودية للإنسان وقيمته ومصيره؛ 
ففي الأديان نحد هما مفهوم أوسع» خيث يصبح لدينا زماك خالد ومكان 
غير الذي نشغله في الدنيا. ونجد تقاسيم الأزمنة قد تباينت بحسب التوجه 
الروحى ففى المسيحية كانت ثلاثية "على منهج التثليث"2 الأولى بين خلق 
آدم حتى هبوطه على الارض» ثم آخر يمتد حتى ظهور عيسى المسيح 
)ع 09 مستقبل يبدأ من فداء المسيح حق تهاية التاريخ, بينما في الإسلام 
أمسى ثنائيا "بتأثير الثنائيات الموروثة" فهما عالما الأولى وهى دار الفناء 
والآخرة وهي دار البقاء. 


لقد وقف (العلم الحديث) معجبا ب (إنسان الايا) في أمريكا القبل 
كولومبية» الذي فهم بطريقته البدائية الترابط بين الزمان والمكان» أو بتعبير 
أوضح بين الزمان والفضاء. دون أن يمر بمراحل الفيلسوف الألماني 
(كانط)» التي أماها ب (العقلية) على عكس الصينيين الذين لم يفلحوا في 
ذلك الإدراك الأعمق فمكنوا محليي التأثير» وربما يلتقون مع المصريين 


القدماء اللذين مكنوا محلبي التأثير والأثرء فلم نجد لهم تأثيرا كبيرا في شمال 
إفريقيا والسودان والجزيرة العربية المتاخمة مثلا. 


إن هذه الحقائق استرعت انتباه بعض (العلماء الغربيين) وجعلتهم 
يندفعون لانتقاد فكرة (العقل المطلق) لتخليص الفكر والمعرفة من بعض 
الأوهام» التي وصفها (بيكون) بأوهام العقل في كتابه (الأورقانون الجديد) 
الذي ظهر عام 578١م‏ باللاتينية باسم (العلامات الصادقة لتأويل 
الطبيعة)؛ لذا تمحورت كثير من التوجهات العلمية/ الفلسفية لإدراك مفهوم 
(العقل المطلق). وطرقته الأديان التي مازالت تعاني من تجاذبات المكان 
والزمان من ناحية التفاضل والأولوية والاتباع (لاسيما المفهوم السلفي)» 
وأنجز الأمر حتى على الفلسفات الحديثة منذ نيوتن ثم كانط» وحق 
أينشتاين بسبب تأثرها بنظرية ديكارت حول تلك العلاقة الجدلية لإدراك 
مفهوم (المكان/ الزمان)» وقد أوجد ذلك السجال مدرستين ها: 
(الانفعالية والاتصالية) اللتين تجادلتا دون أن تتوصلا إلى نتيجة واضحة 
حول (المادة هل ها فراغ أم لا؟!), وم بحسم الأمر بصورة علمية؛ لأن 
المدرستين لم تعترفا بأهمية التجربة في ترشيد العقل. وتداعى هذا اللغط إلى 
ظهور تيار فلسفي معارض» دعا إلى (التجربة كأساس للمعرفة) للسيطرة 
على اندفاعات (العقل الخاطئة) وكانت العمارة إحدى مجالاتا في التطبيق» 
فجرب الفرنسيون كل شطحاقم في عمائر المستعمرات حتى أمست محل 
كم ونقد, لتنافيها مع واقع المكان وحاجة الإنسان. وقد وقع هذا التوجه 
التطبيقي الارتجالي كسابقه النظري في الخطأ نفسه عندما وقف موقفاً 


هجومياً من مسألة الروح والأخلاق» الأمر الذي أدى إلى كثير من 
۷ 


الإحباطات العلمية» التي تناول (كانط) بعضاً منها في كتابه (الدين في 
حدود العقل وحده) لذا فالحداثة نجحت مادياً ولكنها لم تنجح روحياً البته» 
وتصاعدت التقانة فيها فقط. حيث نجد الاختراعات الحديئة خدمت 
الإنسان لكنها أفقدته توازنه الروحي والعاطفي والاجتماعي. وتلك 
التداعيات التي أوجدتما الأزمنة الحديثئة في الغرب أثرت على مناهج 
العمارة كذلك التي مكثت تتابع وتستثمر كل وسيلة مستجدة: وتتقاذفها 
النزعات المتفلسفة. 


لقد أخطأ المفكرون الغربيون ضمن ما أنتجوه في الفكر الماركسي 
الأثمي والقومي العرقي» "وقد شاعا بيننا خلال القرن العشرين", حينما راما 
دمج أماكن وشعوب متنائية في بوتقة واحدة» ونجد الفشل في أن تلك 
الأفكار عجزت عن توحيد شعوب تقبع في مكان واحد» فكيف ها 
بالمتنائي منها. ولدينا في التجربة العربية على هذا السياق ما حدث من 
تناحر ذاتوي في لبنان والعراق وسورية وليبيا واليمن اليوم مغلا. وثمة مغالطة 
سار على هداها الغربيون حينما زعموا أنتحم سليلو روما وأثيناء أي أن 
لحضارتهم المعاصرة جذور تشرب إلى الرومان واليونان» علما أن من يتبنى 
هذا الطرح هم سكان الشمال أي الألمان والفرنسيون والإنكليز 
والسلافيون» وهم يقطنون أمكنه باردة شتان بينها وبين المكان البيئي 
الروماني واليوناني الدافئ الرابض على شواطى البحر المتوسط والمتلقي 
للشمس والدفء ومعتدل الغيث» والذي وائم الشرفات والفتحات 
والفضاءات المعمارية مع تلك العطيات» بينما الشماليون يقبعون وسط 
الغابات في أجواء مكفهرة رمادية لا تمس با ويعمها الثلج؛ فكانت نتاج 


۸ 


عمارقم صريح جساته العمارة القوطية بمفرداتها الذاتية» وهو يختلف عن 
روما وأثيناء وبذلك حصل الشرخ المعرني الذي كرسته (المركزية الغربية) 
والذي صدقه الغربيون ثم تقمصه أصحابناء وصدقوه. وبذلك لم يعد 
للمكان من ذاتية تملي على الناس أوامرها المعمارية» وتتواءم مع معطيات 


كل ذلك يجعلنا نذهب إلى أن لا حلول معمارية نمطية واستدساخية 
ببغاوية» نافذة لكل مكان أو زمان, وفي السياق نذهب إلى أن الأمر يحاكي 
ما للدين» فلا بد من مساع لتطوير مفاهيمه وتعاليمه الواردة من كنف 
أزمنة مضت بوسائل مختلفة» وشاع بأمكنة وبيئات أخرى» اختلفت جا 
العقلية عن سواهاء كون الإنسان ومنتجه من صنع إلام تسبغه عليه بيئته. 
وبذلك ثمة مفاهيم لا بمكن أن تمكث مثلما كانت» وإلا أصابما الجمود, 
وهذا ما طرحه المعتزلة قبل إثنتي عشر قرناً في حركة الزمان بثابت المكان 
والخشية من مكوث المحنطات في الفكر. وبذلك لا بد من تطوير كل 
منتجنا ليتواءم مع الخصوصية المكانية والزمانية. ونجزم بأن الوعي كفيل 
بالارتقاء نوعاً. ووسع المعلومة المكانية كفيل بدحر العدوانية» والحد من 
الأنانية» وهذا يتداعى إلى تشذيب الأخلاق التي تبقى الغاية بكل مسعى 
ومرمى» حيث أن الشعوب التي ترتقي بالوعي فان أخلاقها ترتقي اطراداء 
وهذا ما لمسته عند أهل الشمال الأوربي, الذين استرسل نسلهم من 
الفايكنج المتوحشين, والأمر الثاني والأهم هو عدم تطابق الحلول مجتمعات 
بيئاتها المكانية مختلفة2» بيد أن ثمة مشتركات تطرق من خلال تكريس 


الأنسنة وطرق التماه والترويض والموائمة والقياس» من أجل غايات إمضاء 
عقود اجتماعية رصينة. 


لقد مكث ثابت المكان ذو أهمية في دفق تطور المفاهيم والرموز التي 
أوجدها الإنسان لنفسه» وخلق ها تأويل وتطبيق في الفلسفة والفيزياء 
والأدب والمسرح والفنون والشعر والعمارة. وطرق اليونان المفهوم» وأورده 
أرسطو مقراً بأن الحالة الطبيعية لجسم ما هي السكون» وكل القوانين التي 
کم الكون تخضع للفكر المجرد بدون اعتبار للمشاهدة» وأن الحركة 
الدائرية هي الكمال الأقصى» لذلك اعتقد أن الأرض ثابتة وأن الكواكب 
والنجوم والأفلاك تتحرك في أفلاك دائرية حولها. أما فلسفة أفلاطون 
الروحية والمثالية ففيها ما يحاكي الفلسفة الإسلامية» حيث يرى أن الوعي 
أسبق ف الوجود من المادة أي أنما توجت الوجود كله بعال المثل. وكان 
أفلاطون يرى أن الوجود ينقسم إلى ثلاث دوائر: دائرة المثل والمدركات 
العقلية وهي دائرة الحقائق الكلية, ثم دائرة العام المحسوس والطبيعة 
والواقع. والثالثة هي دائرة الفنون والعلاقة التي تربط بين هذه الدوائر 
الغلاث هي علاقة محاكاة (6260ندم1) وتقليد (1201605) فالأولى 
عالم المثل والثانية عام الحس وهو صورة للعالم الأول, والثالغة عام الظلال 
والصور والأعمال الفنية('). 


أ د. إسماعيل عز الدين: الأسس الجمالية في النقد العربي - دار الشؤون الثقافية العامة - القاهرة 
- ط ۳- ۱۹۸٩‏ ص٥"‏ . 





وكان الفكر الفلسفي الإسلامي الوارث لفاهيم فلسفية أعمق من 
فكر الشرق القدي, ولم نجد طباقا ولا اقتباسا جوهريا من الفكر اليونان» 
كما أشاع ذلك الغربيون في مركزيتهم. وني ذلك حديث آخر. 


واضطلع مفهوم الزمان أكثر من المكان عند الفلاسفة المسلمينء 
بسبب طبيعة الفكر الديني» واستجدوا الكثير من التآويلات المتعلقة به, 
واعتمدت جل تلك التآويل على الآية الكريمة (قُلْ هَل من شْرَكَائِكُمْ مَنْ 
يبدأ الق ثم يُعِيدُهُ قل اله يبدأ الق م يعِيدُهُ فأ تُؤْفَكُونَ)(١).‏ 


وشكل هذا المفهوم موققًا جديدًا جمع فيه بين القول بقدم العالم 

والزمان» وبين قوشم بالخلق والإبداع, أي جمعوا بين التصور الطبيعي حول 
العالم» والذي يؤمن بأزلية الطبيعة وأبديتها وينكر وجود فاعل أول لهذا 
العالم وبين التصور المثالي الذي يؤمن بفناء العالم» وثمة خالق لهذا العام 
يكون له بمثابة علة فاعلة. وأهم أساس بنيت عليه الفلسفة الإسلاميةء 
كانت فكرة التوحيد التي بلغت أغنى مراتبها في العلاقة الثنائية بين الله 

والعالم كما الحال بين البسيط وامجرد والملموس والمركب» في البحث 

لإستخراج الدلالات وتأويلها من حيث وجودها المتناقض بين الروح 
والمادة» والثابت والمتحول والشكل والمضمون وكذلك الزمان والمكان 

ضمن ثنائيات كانت موجودة أساساً ومصدر شغل وانشغال في فلسفات 
الشرق القديم. 


أ سورة يونس - الآية 4 ". 
١ه‏ 


وهذه الثنائية تخلتف عن غيرهاء كوغا ليست تعادلية أو جدلية, وإنا 
هي ثنائية تفاضليةء فالأولية المطلقة فيها هو المضمون الثابت» ومبداً 
النظام والانسجام والثبات والوضوح., الذي بحرك ويوجه. وهو في مرتبة 
السبب وفي مرتبة النتيجةء إنه الترابط الذي يرسم بدوره الفكر ويحدد 
وظيفته» وهي القواعد والمبادئ الثابتة التي يمكن أن نجدها في شجون المنتج 
البشري» ومنه اللّغة وحتى العمارة. 


وبمكن أن يكون أصحاب الكلام أكثر من طرق هذا الباب العقلي, 
ومنهم المعتزلة والشيعة والأشاعرة وفرقة إخوان الصفاء على عكس 
السلفية التي اجتنبت الخوض في فلسفة الورائيات وتأويل أو قياس 
النصوص. وما فتئنا نسمع عن (صاحب الزمان) كما عند الشيعةء لكننا لم 
نسمع عن (صاحب المكان), فهل كان الله هو فاطره ومولاه. وهنا نرصد 
اقتران الزمان بالغيب أكثر من مادية المكان التي عدت فانية وعابئة 
ومؤقته. والروح هي الباقية ولا مكان أو فناء ها على الأرض» ومصيرها 
الجنة أو النار عند الله سبحانه. 


وكانت تلك المفاهيم قد أججت سجالات بين الفرق الإسلاميةء ولا 
سيما ما يتعلق بطبيعة الخالق وماهية المخلوق, أو العلة والمعلول أو النظام 
والقانون أو العلاقة بين القديم والحادث, والتي تبحث بين الموجود اللا 
زماني (القديم) والموجود الزماني (الحادث)., أو العلاقة بين المشيئة الإلحية 
وإرادة الإنسان, وحريته ومدى مسؤوليته عن فعله. وإن الله علة الكون 
التامة» وإن وجود الكون ليس متأخراً عن وجود الخالق. وهذا يعني التلازم 


oY 


بين العلة والمعلول وعدم جواز تخلف المعلول عن علته التامة. ويؤدي 
وجود العلة التامة إلى حصول المعلول بالضرورة. وإن الله يعلم بالكون ابد 
ومازال أنه عالم. فإنه بالضرورة مريد لا يعلم وقادر لا يريد. وهذا يلزم أنه 
منذ كان الله سبحانه» كان الكون وبالتالي فإن الكون وما يجري في الأمكنة 


يصدر بحكم علم سابق. 


ورأي المعتزلة بأن الكون مخلوق (معلول) والله خالق (علة)» وبذلك 
فهم لم يحلوا مشكلة أبدية الكون, لأن الأبد لا قبل منه ولا بعده» والكون 
وما يجري فيه يسير بموجب نظام وقوانين, أهمها العلة والمعلول. ولكن هذا 
النظام لا بمكن ان يكون آليا (ميكانيكيا) لأن هذا بمكن أن يحدث في 
حالتين: الأولى مفروض من خارجه. والثانية أن يكون ذاتيا. وهذه الحالة 
الأخيرة مرفوضة لأن المعتزلة يعتقدون بوجود خالق للكون ومدبر له. أما 
الحالة الأولى فهي مرفوضة أيضا لعدم وجود غاية فيها. وطالما أن غاية 
الفعل الإلحي تحقيق الأصلح, فالكون لا بد أن يكون الأفضل ولا ينسجم 
مع أي نظام (ميكانيكي) أو ترتيب تتداخل فيه المصادفة. وأن ما يجري 
بالكون يجري حسب تدبير مسبق('). 


وبحسب تعبر الكندي أن كون الأشياء علة لكون بعضها هو حصيلة 
التدبير المسبق للحكمة الإهية. لكن هذا يؤدي إلى استغناء الكون عن 
الخالق عجرد حصول الفعل الأول؛ لأن الأمور ستجري بعد ذلك حسب 


' البدور د. سلمان: العقل والفعل في الفلسفة الإسلامية - قسم الفلسفة الجامعة الأردنية. 


١١ص الفصل الأول: العلم والفعل عند المعتزلة والأشاعرة.‎ ٠65 
or 





ما هو مقدر سلفاً. أما إذا أسندت لله استمرارية فعاليته فيه, فهذا يؤدي 
إلى تصوره في الزمان والمكان, وبالتالي يخضعه إلى تصورات الإنسان 


المتعددة وهذا يحيل مفهوم الله من موجود ثابت إلى موجود متغير (' ) 


وإذا ما أخذنا بنظرية المعتزلة في باب العدل, وقارناها مع القول بأن 
كل ما يجري بالكون يسير وفقاً لنظام محكم صارم أساسه مفهوم العلة 
والمعلول» نجد أن هناك تناقضا إذا ما تم تعميمه على كل من العالم 
الفيزيائي أو الأخلاقي للإنسان, لأنه من جهة يؤدي إلى الحتمية في مجال 
الطبيعة والجبرية في مجال الأخلاق. حيث يعتقد المعتزلة أن الإنسان "بما 
يتميز به من وعي وإدراك" فإنه خالق لأفعاله ومسؤول عنهاء وبالتالي 
ذ"العقل هو مناط التكليف". وما ينتج عن حرية الإنسان في اختيار أفعاله 
سيكون جزاؤه الجنة أو النار. وإذا ما أضفنا إلى عملية الاختيار عوامل 
أخرى سواء ذاتية كالقصد والداعي والمزاج» أو موضوعية كظروف العام 
الحيطة به فالأمور تزداد تعقيداً. وهذا ما يجعل فعل الإنسان متميزا عن 


الفعل الإلمي. 


ونجد إخوان الصفاء وهم فرقة عقلية وعرفانية ظهرت في البصرة 
وبغداد في القرن الثالث المجري والتاسع اليلادي» وقد وضحوا في 
رسائلهم مفهوم العلاقة بين الميولي والصورة في مرقاة الطبيعة والمكان» وها 
على وجهين المكان عند الجمهورء أو الوعاء الذي يكون فيه المتمكن, 
والمكان الذي يحيط بالأجسام, أما الزمان فهو جملة السنين والشهور 


' د.مراد يوسف: دور الكندي في الفلسفة- جامعة بابل ۲٠۰۷‏ . 
o‏ 


والأيام والساعات الحاصلة في النفس من تأمل تكرار الليل والنهار حول 
الأرض دائمًا('). 


ونجد الرازي يعرف الزمان بأنه المرتبط بالحركة والمتحرك, والذي 
ينقسم إلى سنين وشهور وأيام» أما المكان فينقسم إلى قسمين مكان مطلق 
وهو المكان. وسواء وجد أو لم يوجد فيه وبينما المكان المضاف هو 
المكان بوجود المتمكن - الجسد("). فالزمان والمكان عند الرازي مدركان 
عقليان يوجدان في العقل دون التجربة الحسية. أما ابن سينا المتأثر 
بالاعتزال والتشيع» فكان الزمان لديه هو الشيء بغير مقداره وغير مكانه» 
وهو "القبل" الذي لا يكون معه" البعد" . وهنا يربط بين الحركة والمسافة 
بل يعطيه وجودًا ماديا أما المكان بمعنيين مكان الشيء يكون فيما حيط 
بالجسد» ومكان الشيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه (") فالزمان 
والمكان عند ابن سينا لا ينفصلان عن المادة والحركة وهما ليس وعائين 
فارغين» وبذلك قرن ابن سينا مفهوم الزمن بالحركة» وكان الأقرب في هذا 
الربط الحركي الزمان. أما ابن رشد فيعتمد في رأيه حول قدم العام عن 
وحدة الزمان والمكان التي لا تنفصم كما بين الزمان والحركة(' ). وابن سينا 


' إخوان الصفا "الرسائل", الجزء الثاني - ص 19 

' سء بيتيس : مذهب اللذة عند المسلمين - ترجمة ن عبد الحادي أبو ديرة» مطبعة جنة تأليف 
والترجمة, مصر, ١9145‏ -ص ۳ه . 

" العاق؛ د. إبراهيم: "الزمان في الفكر الإسلامي"- دار المنتخب العربي- بیروت» ۱۹۹۳ -ص 
۸. 

عفيفي, د.زينب» : فلسفة ابن رشد الطبيعية- دار قباء للطباعة والدشر- القاهرةء الطبعة 
الأولى. ۱۹۹۸ - ص 54 


oo 


قال أن فعل الإنسان من لوازم ما ساقت إليه الأحوال الماضية التي لا بد 
من وقوع ما يتبعها. 


ورعا كانت دراسة حسين مجيد العبيدي (نظرية المكان في فلسفة ابن 
سينا) الصادرة عام (۱۹۸۷)» هي الأولى من نوعها في بحث المنظور 
الفلسفي للمكان, بينما ظهرت العناية النقدية والأدبية الأولى في المكان في 
دراسة عبد الوهاب زغدان (المكان في رسالة الغفران: أشكاله ووظائفه) 
الصادر عام »)۱۹۸١(‏ وهي توصيف للمكان يتصل بالخصوصيات 


أما الفيلسوف الكندي فقد قال إن الإنسان فاعل بالمجاز, وكل هذا 
يناقض اعتقاد المعتزلة بأن الإنسان قادر أن ينفذ في الطبيعة من الأفعال ما 
تنسب إليه نسبة حقيقية. ولكن هذا الاعتقاد يؤدي إلى توتر العلاقة بين 
الله والإنسان. ونجد الأشاعرة, وهم آخر فرق أهل الكلام, قبل أن يغط 
الفكر الإسلامي في سباته حتى اليوم» قد ذهبوا إلى أن فكرة الزمان تبرز 
الالتقاء التام بين الفلسفة والدين في أرقى امتزاج ممكن؛ فالإنسان بحواسه 
لم يشهد بداية الزمان, التي هي بداية العالم» فكيف يستطيع أن يشهد نشأة 
العالم كله؟ وأمكن استخدام المنطق العقلي للأشاعرة من استنتاج ما ينبت 
أن الله تعالى خالق كل شيء» وأن هذا الخلق قد حدث بعد عدم سابق» 
وأوضحوا فاعلية هذه الصفات في إحداث العالم, وأثبتوا خطأ القول بأبدية 
العالم وأثبتوا أن ما كان محدثا فهو قابل للفناءء استمراراً لنظريتهم في 
الجواهر والأعراض التي أثبتوا من خلالها حدوث العالم, فإنحم استخدموها 


°٦ 


في إثبات الفناء عقلياء وذلك عن طريق مبدأ مهم من مبادئ هذه النظرية, 
وهو فناء الأعراض وتجددها في كل آن» وعن طريق الإرادة والقدرة 
الإلحية. وقد أبطلوا القول بأزلية العالم التي تبناها المعتزلة» وأظهروا خطأه 
أمام الحقيقة العقلية والدينية. وأوضحوا أن قدم الصانع لا يوجب قدم 
المصنوع. 


وفكرة الزمان والمكان عند الأشاعرة, اقترنت بفكرة الأبدية التي هي 
الامتداد الطبيعي لفكرة الأزليةء لأن الأبدية هي منع النهاية عن العام كما 
أن الأزلية هي منع البداية عنه, ومن الطبيعي أن يكون القائلون بالأزلية, 
هم كذلك القائلون بالأبدية, لأن ما ليس له بداية» فلا يكون له غاية, 
وهذا ما قال به الفلاسفة - خاصة اليونانيون - أما المسلمون فإهم لم 
يتشبثوا بالقول بالأبدية نظراً للنصوص الدينية القاطعة في ذلك والتي تؤكد 
الفناء لكل شيء. 


وقد إحتج الفلاسفة على مذهبهم بعدة حجج أحدها: أن المؤثر في 
العالم موجب بالذات» فيلزم من دوامه دوام العا وثانيها: أنه لو عدم 
الزمان لكان عدمه بعد وجوده بعدية بالزمان» فيكون الزمان موجودا حال 
ما فرض معدوما هذا خلف, وثالثها: ضرورة وجود محل للممكن قبل وبعد 
حدوثه وهو الميولي» لذا فالحيولي أزلية أبدية. وقد رد الأشاعرة بأن فكرة 
(الموجب والموجب)» لا يمكن تطبيقها فيما يتعلق بالله تعالى» لأن ذلك 
يعني إلغاء الإرادة الإهية التي تخلق متى شاءت وثفني متى شاءت» وبأنه لا 
أزلية للزمان, لأن الزمان لم يوجد إلا مع وجود العام والعالم حادث 


/اه 


فالزمان حادث. وبخصوص الثالث» فقد أبان أبو حامد الغزالي عن 
استحالته (فإمكان العالم كان في علم الله تعالى منذ الأزل» وكان يقابله عدم 
العالم» فلما شاءت إرادته أوجدته عن طريق القدرة الإلحية, وكذلك الفناء 
فالحيولي أو المادة خلقت مع بداية العالم» وستفنى وتنعدم بانتهائه وفنائه, 
فلا أبدية لما ولا لأي شيء في الوجود إلا لله وحده)('). 


وني الفلسفات الحديثة التي شاعت بعد (حقبة الأنوار ٠8/ا١-‏ 
)نف الغرب» فهناك من جعل جدلية المكان والزمان يعتمدان على 
الوعي الفردي مثل (ماخ) و(بركلي) أو حسي مثل (كانط). حيث أنمما 
شكلان رئيسيان لوجود المادة ولا ينفصلان عنهاء والمكان هو التجربة 
الخارجية للإنسان في حين الزمان هو التجربة الداخلية له. وقد أعطي 
تصوّر معرني (أبستمولوجي) هماء لكنه مرتبط بالرياضيات البحتة. 


الزمان والمكان عند الألماني (كانط) صورتان أوليتان قبليتان ولا 
يرجعان إلى العام الخارجي, إنما ليسا بعيدين» حينما يشكلان الأفكار 
ويهبانا إيحاءً فلسفيا جدليا (ديالكتي)» وحركية تنقلنا إلى النقيض» وتدلنا 
على القوالب الفطرية الموجودة في العقل. ويصف (كانط) المكان بوصفه 
مفهوم (بواسطة الحس الخارجي (وهو أحد خصائص ذهننا) حيث نتصور 


أ د سلطان» عبد الحسن عبد المقصود: فكرة الزمان عند الأشاعرة - مكتبة الخانجى بالقاهرة 
لز عر بجي هر 
الطبعة: الاولى 5٠٠٠‏ . 
o۸‏ 





الموضوعات بوصفها خارجة عنا وبوصفها جميعا في مكان (')» وهو يز 
أهم صفات هذا المفهوم» ويثبت مفهوم أنه (تصور ضروري قبلي يشكل 
أساسا لجميع الحدوس الخارجية ولا بمكن البته أن نتصور أن ليس هناك 
مكان رغم أنه يمكننا أن نفكر أن ليس ثمة من موضوع في المكان, ولا يمكن 
أيضا أن نتصور سوى مكان واحد ('). 


أما (هيغل 1ءع٥1‏ ) فلديه الزمان سلبي, ولا يحب أن نتوقف عند 
المكان المقترن بالزمان بل يجب أن نصل منهما إلى فكرة مركبة حركية 
(دينامية)» فكأن الحركة هي التلاقح بينهما ("). أما الزمان والمكان في 
الفلسفة الوجودية» فتفسر بمفهوم الوجود امجرد أو في إطار فكري تنتظم 
خلاله الموجودات, وليس بالعقل كما ذهب إلى ذلك (كيركغارد) 
و(هيدكر). وأن الزمان سياق للوجود النفسي» أو الوجود الشعوري 
المشخص. وبذلك فإن الوجود زمان والزمان وجودي.. أما عند الماركسيين 
المطنبين بالماديات نأياً عن سطوة الغيب (المثالية), فإنهما مجسدان من 
خلال صورتين جدليتين تجمعهماء مسارهما تاريخي يتعلق بالحتمية» ولا 
ينفصلان عن المادة والحركة .)١(‏ 


١ 


عمانوئيل كانت» نقد العقل الحض» مركز الإغغاء القومي» ترجمة: موسى وهيبة . بيروت › 
زدء.ءت) ص .5١ = 5١٠‏ 
' ميرجه الياده» المقدس والمدنس» ترجمة : تماد ضيافة »دمشق » ص ۳١‏ -/ا". 
Wallace , "Thelogie of Hegel", NewYork, 1961, (p28-29)‏ 3 
د .خد علي عبد المعطي»" مقدمات في الفلسفة -ص 238 
684 





وهكذا كان لكل رأي سياق ضمن مذهبه لمفهومي الزمان والمكان 
دون فصل ودراسة خاصة, بحيث تكون العلاقة انفصال أو اتصال» من 
خلال وجود حقيقي وواقعي أو وهمي افتراضي» بطبيعتين مستقرة (ستاتيه) 
أو حركية (دينامية)؛ بما يجعلنا نتعامل معهما كما أم كيفّء نسبيا أو مطلقاء 
سابقا أو لاحقا. وني كل الحالات فإن مقولتي الزمان والمكان مقولتان 
ضروريتان في رصد وفهم وتقييم الجهد الحضاري الإنساني؛ فلا حضارة 
بدون مفاهيم زمانية أو تصورات مكانية. 


وجدير بالرصد رأي (صموئيل ألكسندر) الذي يؤمن بمفهوم الانبثاق 
للمادة من الزمان والمكان والتي نشأ منها العالم بالحياة ثم الوعي. فيرجع 
المادة لمصدرها المكاني الزماني. وسبقه (ديكارت) الذي استوعب مفهوم 
الزمان والمكان ضمن ما أسماه الامتداد, حيث الكون مملوء بالمادة التي هي 
ظاهرة امتداد. وقد وضع (إسحاق نيوتن) في ق8١م,‏ قوانين الحركة 
والجذب العام فهو يقر غياب السكون المطلق (المكان المطلق) وأن الزمان 
والمكان مستقلان استقلالاً تاماً عن المادة والحركة, وأن الزمان المطلق هو 
الحقيقي الرياضي الذي استخدمه» فيصف معادلات الحركة أو تسارع 
الأجسام نحو قوة الجاذبية. وهو الزمن الذي يرصده جميع الملاحظين 
للحدث ذاته في بعدين مختلفين. ولم يرفض نيوتن الزمن النسبي لكنه عدّه 
حسياًء ولا يمكن قياسه. وجاء إيمان نيوتن بالمكان والزمن المطلق يعني أن 
الكون ساكن (إستاتي) غير متحرك وأن الزمان موجود حتى ولم توجد 


الحركة. 


وللتفريق في الإدراك (الزمكاني), فإن كان الزمن يُدرك "إدراكا غير 
مباشر من خلال فعله في الأشياء فإن المكان يدرك إدراكا حسياء يبدأ بخبرة 
الإنسان جسده: هذا الجسد "المكان" أو لتقل بعبارة أخرى "مكمن" 
القوى النفسية والعقلية والعاطفية والحيوانية للكائن الحي ليتعداه بعدها إلى 
أقرب مكان إليه» وهو الحيز الذي يحتويه كالثياب» ثم إلى الغرفة, 9 غيرها 
من الأمكنة('). 


وتتراتب هذه الأحياز المكانية في الأهمية تبعا لوظيفة كل منهاء وعلاقة 
الفرد بما بشدّة أو شحة» وتتسع وتضيق تبعا لطبيعة النفس البشرية إن 
كانت انطوائية أو انبساطية. ولعل هذا ما يفسر قلق الإنسان وخوفه على 
المكان إذ هو هُدد, وكأنه يعيد العهد (ليوانيته) التي تذود عن المكان 
وترسم حدوده بشتى الصور (بالبصاق والبول أحيانا)؛ لأن تحديد هذا 
الأخير هو بالضرورة تديد لكيان الفرد وهويته وملكه الذي لا يكون إلا 
به حتى أن السكن والسكون المقترن بالنفس ترادف في المعنى مع البيت 
الذي هو مكان المبيت وأمسى متداخلا مع الذات. لذا فكل عدوان 
يتعرض له المكان يعد عدوانا على الذات, كونه انتقالا رمزيا من المكان 
الرمز للأنا (الملك) البيتء إلى الأنا ذاتها"(") 


' يوري لوتقان: مشكلة المكان الفني» تر/ سيزا القاسم مجلة ألف) البلاغة المقارنة ع5 219/85 
ص ۷۹ . 
" د/ سامي أسعد: مفهوم المكان في المسرح المعاصر, مجلة علم الفکر» مج ۱١‏ ع4: ۹۸٩‏ 
ص ٩٩‏ . 

۱ 


ونلمس الظاهرة في خضم الحروب الشرسة من أجل اغتصاب 
الأمكنة أو من أجل استردادهاء والمفهوم هنا ذا محض فقد أطلق الإسبان 
على حروبحم لاحتلال شال إفريقيا في القرون (5١-/ا١-8١)‏ 
ب(الريكومبيستا) أي الاسترداد» لكنه بالنسبة للمغاربة كان عدوانا 
واحتلالاء وبمكن تلمس الاحتلال المكاني على المستوى الفردي في الحياة 
اليومية في الحافلات, والمدرجات, والمطاعم والمقاهي» وحتى بأقسام 
الدراسة... الخ. 


ولا يمكن الحكم على سلوك الإنسان إلا من خلال تواجده في 
المكان. فما يتبدى في مكان ما إنه غير لائق» قد لا يبدو كذلك في غيره 
من الأمكنة. أضف إلى ذلك أن جل مفاهيم الإنسان الأخلاقية» والنفسية 
والاجتماعية وحتى الفكرية؛ لا يعبر عنها إلا تعبيراً مكانياً صرفاً؛ لذا احتل 
المكان مثلما الزمان» في الدراسات الفلسفية والأدبية حيزاً مهماء كونه 
منطلقا لإدراك أبعاد النص وخلفياته النفسية والاجتماعية» وسبر غورها ينم 
عن جدية العمل الأدبي؛ فكما أن تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكل 
بعدا جماليا من أبعاد النص, فإن معايشة الإنسان للمكان وتآلفه معهء أو 
معاداته له. يشكل الخلفية الارتكازية لكل تصور أو توجه أو تشكيل فني. 


ومن أجل مزيد من التفصيل العلمي والتجسيد التطبيقي عن مفهوم 
الزمان والمكان في القرن العشرين» حري بنا سبر قوانين الحركات الكونية؛ 
ففي نمايات القرن التاسع عشر ظهر مفهوم القوة الكهربائية والمغناطيسية, 
وخرجت أبحاث فارادي بإمكانية خلق مجال كهربائي من جال مغناطيسي 


1 


والعكس. ووحد العام جيمس ماكسويل عام ۸19م بين الجالات 
الكهربائية والمغناطيسية, وهذه الجالات تتذبذب وتتحول كل منها للآخر 


في صورة موجه. 


ما يهمنا هنا هو مفهوم المكان والزمان في العّمارة والعمران التي هي 
صلب إشغال المكان ومحور كل انشغالاته؛ فحينما يلج المكان في عالم 
الغمارة» يكنى (المكان المعماري), حيث يتحول من الحالة الفطرية العذراء 
والمفتوحة إلى حيز وظيفي للمساحة المقننة بعناية وهنداز(حدود) ومقاييس 
(نورم)» ومعايبر تصميمة منطقية, ومعطيات بيئية واقتصادية وموائمة, 
وفضاء وأشكال شاخصة وذوق وجمال» ترتقي بالمكان إلى أن يكون 
منظومة منضبطة» تنأى عن العبث والنزق والتجريب» فأي خطوة في المبنى 
لا بد أن تكون محسوبة من نواح شتى وظيفية ومعيارية. كل ذلك يجعلها 
النموذج العقلي الأرقى في المنتج الإنساني» حتى أمست تعكس منهج 
الوعي وطبقاته, وتميز المويات والحقبات والطرز الذوقية الزمانية» وتفرزها 
وتفاضلها بين الحضارات. 


لذا اكتسبت العّمارة والعمران, بما تحمله من غايات المأوى وتكريس 
الحماية للفرد والجماعة, أهمية قصوى للأمور» من خلال الوصول الى 
أقصى وأشفى الحلول» فيما ندعوه (التصميم المعماري), الذي يشكل 
حبكة متوازنة بين العلوم والفنون والحساب والتمثيل الفني والخيال والمتع 
النفسية والبصرية. 


1۳ 


وقد أولت بعض مدارس العمارة أهمية لتلك العلاقة (زمكانية) كما 
(كارديف) ببريطانياء وأثرت في ممارسات ما بعد الحداثة المعمارية التي 
نعدها ممارسة مكانية متخطية للزمانية. لكن لا بد من الإقرار بالنتيجة بأن 
كل (النظريات) هي إسقاطات فكرية إبداعية زمانية» بحيث أنها لا تشكل 
الحقيقة العلمية المطلقة, لأتما لا تعد بديهيات ثابتة. 


وشهد هذا المفهوم تطورات جذرية في المناهج النقدية الحديثة, ولا 
سيما النقد الظاهراقي (15111557) 20126101051231ع1”1) الذي يقوم 
على تحليل الوعي» وقد استبطن الأشياء فتحولت إلى ظواهر» وكان أبرز 
مطوري هذا النقد الفرنسيون (غاستون باشلارء وجاك بيير ريشار» وجيلبير 
ديوران)» ضمن تيارات النقد الفرنسي التي سرعان ما اندشرت في خريطة 
النقد الأدبي الحديث. وقد أطلق باشلار نظريته عام 1۹۳۸ في كتابه 
(التحليل النفسي للنار) الذي كان مختلفا عن كتبه الثلاثة عشر الأخرى, 
التي تبعت مؤلفه هذاء ومنها (شعرية المكان) )١981/(‏ الذي ترجه 
الفلسطيني غالب هلسا عن الإنكليزية عام ١9/٠١‏ بعنوان (جماليات 
المكان) وطبع في بغداد, ولدينا تحفظات على الأسلوب غير المفهوم 
والخرفي غير ارق في نصوص الترجمة عموماًء والتي خلت عن الانسيابية 
البيانية في سياقات اللسان العربي, ولا أعلم إن كان الأمر يعود الى الطريقة 
الفلسفية التجريدية التي يكتب با الفرنسيون أصلاً أم الطريقة (الشامية) 
للترجمة الحرفية للنصوص الأجنبية. 


1 


لقد كتب باشلار عن البيت من القبو إلى الكوخ» والبيت يمنحنا 
صورا عديدة ضمن الصور التي يحملها الإنسان لما موجود ومتداول وما 
يتمناه في ربط بين الحلم والعلم» وهل يستنبط بينهما صورة مثالية للمكان 
القادم. وانشغل باشلار بموضوع (التحليل الظاهراق) في (قصيدة) الوعي. 
وجاء لديه أن الوعي يتجه دوماً إلى (موضوع) ما. وقد وظف باشلار 
(ظاهراتيته) في دراسة (موضوع الخيال) الذي هو اليوم محرك الإبداع, 
حيث رأى أنه لا يوجد (موضوع) دون (ذات)» وأن وظيفة (الظاهراتية) 
ليست في وصف الأشياء كما هي في الطبيعة؛ فهذه مهمة عالم الطبيعة 
وإنما في القدرة على استعادة الدهشة الفطرية عند رؤيتنا لأشياء الطبيعة. 


ذلك أننا (حين نحلم فنحن ظاهراتيون دون أن نعلم)» وأن 
(الموضوع) يتحدد من خلال غيابه» ومعايشتنا له. إذن هناك (موضوع), 
و(ذات) واعية, و(حلم) ينشأ بتأثير التقاء الذات بالموضوع. وهكذا يبدو 
أن للظاهرة العمرانية والمعمارية بعداً موضوعياً وآخر اجتماعياً. بالإضافة 
إلى البعد (الظاهراق), الذي حاول باشلار إلقاء الأضواء على أبعاده 


6 


ويميز باشلار بين الجغرافي أو الأثنوغرافي (علم الأنثروبولوجيا أو الأجناس 


الوصفي) في وصفهما للبيت, عما يطرقه (الظاهراني) الذي يبحث دائما 


عن البذرة الجوهرية والمؤكدة والمباشرة, ليجد من خلالحا القوقعة الأصلية 
0 

لقد أمسى مفهوم الزمكانية (الزمان/ المكان (Chronotope‏ 
انعطافة في تطوير مفهوم المکان» وقد أطلقه باختين عام ۱۹۳۸ في كتابه 
(أشكال الزمان والمكان في الرواية)» ويفيد هذا التطور في المفهوم إلى 
صعوبة الفصل بين الزمان والمكان في شكل العمل الفني» مثلما أوضح 
باختين في ملاحظاته الختامية على كتابه (المكتوبة عام ۱۹۷۳): (يحدد 
الزمكان الوحدة الفنية للمؤلف الأدبي في علاقته بالواقع الفعلي, وهذا 
السبب ينطوي الزمكان في الف دائماً على لحظة تقييمية لا يمكن فصلها 
عن الزمكان الفني الكلي» إلا في التحليل المجرد. ذلك أن كل التحديدات 
الزمانية المكانية في الفن والأدب لا ينفصل أحدها عن الآخر, وهي دائماً 
ذات صبغة انفعالية تقييمية. يستطيع التفكير المجرد طبعاً أن يتصور الزمان 
والمكان كلاً على حدة, ويغفل لحظتهما الانفعالية التقييمية» لكن التأمل 
الفني الحي (وهو أيضاً نابض بالفكر, إا الفكر غير الجرد) لا يفصل شين 
ولا يغفل شيئاً. إنه يلم بالزمكان في كل تماميته وامتلائه. إن الفن والأدب 
مخترقان بقيم زمكانية من مختلف الدرجات والأحجام» وكل موضوع جزئي 
وكل لحظة مجتزئة من المؤلّف الفني هي قيمة من هذه القيم ("). 


' باشلار- جماليات المكان - ص 5". 

" أبو هيف .د. عبد الله: جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر - مجلة جامعة تشرين 

للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية المجلد (۲۷) العدد 7٠٠١8)1(‏ . 
5" 


على أن مصطلح المكان والمكانية والزمكانية قد تطور أيضاً بتأثير 
علم السرد الأدي» ولا سيما إنجازات اللسانى الليتواتي (غريماس 
125 (1995-191177) إلى مصطلح الفضاء في الانفتاح أو الحيز 
في التحديد والتضييق والاتساع والشمولية وتداعياتها النصية» والفضاء 
الروائي» هو (الحيز الزمكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء 
متلبسة بالأحداث تبعاً لعوامل عدة تتصل بالرؤية الفلسفية وبنوعية الجنس 
الأدبي وبحساسية الكاتب أو الروائي). 


كما يوضح المغربي منيب خد البورمي('). ويفيد المنهج العلامي 
(السيميائي) في تحليل السرد مثل هذا التطور في فهم الزمكانية نحو 
مصطلح الفضاء المستند إلى إنجازات ورثة (بروب)» ويتقدمهم العالم 
الأستون (يوري لوتمان 22ددنهآ) (۱۹۹۳-۱۹۲۲) الذي عاج 
المكان ودلالاته في كتابه (بناء العمل الفني) (المترجم إلى الفرنسية عام 
2.5 وقد قامت المصرية سيزا قاسم دراز» بتعريب الفصل المتعلق من 
الكتاب ب(مشكلة المكان الفني), وقد انطلق لوتمان (في تحليله للمكان 
الفني من مقولة أساسية مؤداها أن اللّغة هي النظام الأولي لتحويل العام إلى 
أنساق» وأا ليست قائمة من التسميات» ولكنها مجموعة من العلاقات 
الخاضعة لقواعد وقوانين. وبالإضافة إلى اللّغة فقد أبدعت الثقافة البشرية 
أنظمةً وأنساقا أكثر تعقيداً. قد تستخدم بعضها اللّغة الطبيعية مادة ها 
(الأدب» الأديان» الفلسفة.. الخ), وقد تستخدم بعضها مواد أخرى 


' ورد ذلك في كتابه (الفضاء الروائي في الغربة: الإطار والدلالة) -بغداد .١941/‏ 
1Y‏ 


(الصورة في المقام الأول)ء ولكنها تستعين بنظام اللّغة وطرائق تشكيلها. 
وقد لمسنا الآصرة الكامنة في بنيوية اللّغة والعمارة من عدة نواح» وأمست 
لنا العمارة لغة واللّغة عمارة» وهذا ما ضمناه كتابنا (اللّغة والعمارة) الذي 
يسترسل بهذا المنحى. 

وقد اهتم لوتمان بالفنون بوصفها أنظمة منمذجة, أنظمة تخلق أنساقاً 
دلالية. ونظر لوتمان في إطار التحدث عن المكان الفني إلى العمل الفني 
نظرة خاصة؛ فالعمل الفني مكان محدد المساحة (اللوحة الفنية أو التمثال 
أو القصيدة أو الرواية)» فمن جانب يشغل العمل الفني حيزاً معيناً في 
الكون الفسيح, ولكنه من جانب آخرء وهذه هي خاصيته الجوهرية, يمثل 
في هذا الحيز الحدود حقيقة أوسع منه وأشمل هو العالم اللا متناهي. ويتم 
هذا التمثيل من خلال مجموعة من القواعد المتفق عليها ضمناً» هي 
التقاليد الفنية» وهذه القواعد هي أساس النظام المنمذج. فنجد مثلاً أن 
قوانين المنظور 6656م6150م في الرسم. تمكن الفنان من تمثيل العالم 
المحسوس بأبعاده الثلاثئة على قماش اللوحة ذات البعدين فقط. فاللا 
متناهي يصبح عند معظم الناس مكاناً متسعاً جداًء ومن ثم ترتبط كثير من 
القيم الجردة بإحداثيات مكانية محسوسة. 


؟ - المكان الحضري والمعماري 
ويبقى المكان مقولة عقلية قائمة في تأمل العلاقات بين الأشياء 
الخارجية» لكن نستطيع القول إن هذا المكان هو مكان جاء بفعل تأمل 


1۸ 


عقلي معرفي (أبستمولوجي)» لکن هناك مكان آخر هو إبداع عقلي ذو 
طابع عاطفي» إنه المكان المتخيلء أي المكان المرتبط بالخيال وقدرته 
الإبداعية على خلق عولم بديلةء يحاول من خلاها التعبير عن وجدانه 
وعواطفه ورغباته» هذا المكان المتخيل يقول عنه باشلار (إننا لا نعيش 
الصورة بشكل مباشر والواقع إن لكل صورة عظيمة عمق حلمي بعيد 
الغور يضيف إليه التاريخ الشخص لوناً خاصا)('). 


إن المكان ليس المكان العقلي الرياضي بل هو انعكاس صورة الأشياء 
المعاشة في ذات الإنسان الذي بدوره يعطيها صورة الأشياء وجدانية» وفي 
هذا يقول إدوارد سعيد أنه يصف "أي باشلار" فضاء المنزل-الموضوعي 
زواياه» وردهاته» نما يضفي عليه شعرياء ذات قيمة تخيلية أو مجازية. إن 
المكان هو انعكاس للذات وبعدها العاطفي وأثر هذا على المكان في 
الوقت الذي يظهر في المكان بمعناه العلمي العقلي متجانس متصلء وإذا 
ما بحثنا عن العلاقة بين السماء والأرضء لكانت تمثل المكان الذي شهد 
الحدث الأول, فهو مكان متخيل كل ما حدث فيه يحاول تكراره في أفعاله 
الطقسية أفعال البشر للسماء استمرارية في سيطرقا لكل ما يدور على 


' يوسف شلحد. بين المقدس عند العرب, ترجمة: خليل أحمد خليلء دار الطليعة » بيروت > ص 
۳ . 
1۹ 





الأرض» فهي المكان الذي يحل فيه الآلهة فهذه الآلحة هي الفاعل في 
الأرض ('). 


ولا بد أن يكون المكان الجغرافي محدداً ومعروفا وله اسم ومعنى من 
قبل امجتمع, وله خصائص وسمات عامة يتفق عليها الجميع» لتتغير تسميته 
من فضاء جغرافي إلى تسمية المكان الذي يفصله عن الفضاء الأكبر غير 
المتناهي. وجدير جرد التسميات التي وردت بالعربية لمفهوم المكان, 
وأهمها: (آينونة) آيان للكائن المكان. و(فضاء) فراغ ممتد. و(قار) ومنها 
استقر. وتعني الباقي الثابت العمق» ومنها وردت كلمة القرية التي تداوها 
القرآن الكريم أكثر من كلمة مدينة('). و(الحيز) هو المكان الذي يشغله 
الجسم. و(الخلاء) هو فراغ المكان المهجور. و(حدث) هي درجات 
التكوين والتحول للتعبير عن الفعالية. و(الأين) وتفيد الاستدلال على 
المكان. و(الجوهر كائن بالمكان وشاغل المكان (") وحري أن نشير إلى أن 
مفردة (طيب- طيبة) الواردة من اللغات العراقية القديمة, تعني المكان 
الأرضيء ونجد التسميه باقية في العراق (ميسان) وفلسطين وعاصمة مصر 


' الدكتور عامر عبد زيد - جماليات المكان في الخطاب الأسطوري في العراق القديم - منشور 
على الشبكة بتاريخ 2/7حزيران يونيو ۲٠٠١۷‏ 

" تناولت هذا الموضوع الاصطلاحي من جذوره السومرية والأكدية في كتابي (المدينة.. الإنشاء 
والإرتقاء)» حيث نجد أن قرية وردت 4" مرة في القرآن الكريم بينما المدينة ١‏ مرة. 

" مجلة العلوم والتكنولوجيا - الجزائر - وهران - المجلد ( 12 )العدد - (2 )العام 2007 م ع 
ت6 


القديمة, والتي انزاحت دلالياً إلى معان من أصل طيب الأرض وصلاحها 
إلى صاحب الذوق والتذوق والذوق الأخلاقي. 


لقد انشغل علم (الطوبولوجيا) بدراسة خصائص المكان من خلال 
دراسة العلاقات المكانية المختلفة كعلاقة الجزء بالكل وعلاقات الاندماج 
والانفصال والاتصال التي تعطي الشكل الثابت للمكان, الذي لا يتغير 
بتغير المسافات والمساحات والأحجام» وحسب رأي المعمار والمنظر 
النرويجي نوربيرج -شولتز Norberg —~Schulz‏ (1936-2000) فإن 
"العمارة ومنذ الأزمان البعيدة أسهمت في صنع معان الإنسان الظاهرة 
وبمعونة العمارة حصل على موطئ قدم في الفضاء والزمن» لذلك فالعمارة 
ترتبط بالمعاني الظاهرة". وأشار شولتز إلى فكرة روح المكان أو التموضع 
ال هندسي 1.001 7611115) ضمن الوصف الظاهراقٍ للمكان» وبأن الناس 
يكافحون لإعطاء أهمية للفضاءات من خلال حصولهم على موطئ قدم 
فيها وإمكانية الوجود» وأخذ شولتز فكرة الوجود 10771112 من مقالة 
هايدكر ""Heidegger‏ التي كانت بعنوان Building Dwelling‏ 
1 عضكاصنط1"" وربطها بفكرة الل أو التموضع Genius Loci‏ 
حيث يقول "إن الإنسان يوجد عندما يكيف نفسه مع أية بيئة» أو عندما 
يكتشف البيئة كمعنى, لذلك فالوجود يلمح إلى شئ أكبر من المأوى, إنما 
تتضمن بأن الفضاءات تظهر لتكون أماكن تعطي الإحساس بالعالم» 
والمكان هو فضاء ذو خاصية, وتميز روح المكان عبر العصور القديمة 
كحقيقة ثابتة يواجهها الإنسان في حياته اليومية". 


ال١‎ 


وبمكن أن تمتلك الأماكن خصائص كلية عندما تتخذ الأحداث ها 
مكانا فيه وعندما ترتبط المكونات المختلفة الواحدة بالأخرى بمدف كلي 
1٤‏ . وبكونه أكثر من الأجزاء المكونة ها وفي ضوء ذلك يتكيف 
المكان كظاهرة كليةء ولا توجد إمكانية التقليل من أية خاصية من 
خصائصه. دون أن تفقد شيئا من طبيعتها الثابتة(١).‏ 


إن جميع الأماكن ها خاصية تيز الشواخص التي ينبثق البعض منها 
من خلال أنغاط الإنشاء أو كما يراها الأنثروبولوجيون» من أنغاط الإنتاج 
والاستهلاك والتي هي في دورات متغير عبر الزمن. والناس يستلهمون 
خصائص بيئتهم التي تزودهم بالتوجيه والإحساس بالأمان. 


وقد ناقش شولتز 51112 بعد لينش 1:71 على أن جميع 
الحضارات أنظمة متطورة من التكيف» وها بنيات خاصة تسهل نمو الصور 
البيئية» وتستمد التكيف أو التوجيه من طبيعة الشواخص العطاة 
وامجتمعات البدائية, وحتى تفاصيل البيئات الصغيرة كانت معرفة وهادفة, 


أو ذات معنى " (۲). 


إن هوية المكان ترتبط بمفهوم المعنى» حيث ينل وظيفة أساسية 

تتضمن الإحساس بالمكان والتفاعل معه. وبأن التوجيه "مغل أحد مظاهر 

1 Meaning in Western Architecture Rizzoli,p5. New 

York, 1974-1979 

2 Genius Loci, Towards a Phenomenology of 

Architecture Rizzoli,p: 19-20. New York. 1980. 
۷۲ 


انتماء الإنسان إلى المكان» فهو يساعد على الحركة والانتقال والشعور 
بالوجود. وليحصل التفاعل بين المكان والإنسان يجب أن يكون الإنسان 
قادراً على توجيه ذاته عارفاً بان يكون في هذا المكان وأن توجيه الحركة 
يكون من خلال المسارات التي تنقله من وضع إلى آخر أي من مكان إلى 
آخر"(١).‏ حيث تمتلك الإمكانية في توفير المكان المناسب والذي عبر عنه 
بالموضع, وهذا لا بمكن أن يتحقق إلا من خلال المعاني ودلالاتاء كما أن 
القمارة تاريخياً ساعدت في إعطاء المعنى لوجود الإنسان وعساعدقا حصل 
الانتماء بين الإنسان والمكان والزمان (؟) 


والمكان المثالي هو ما بحقق للإنسان ما يحتاجه من حماية وسهولة حركة 
وسمات حمالية. وهذا ما سعت له العمارة والعمران» وهو جوهر الآصرة 
التي تجمعهما. ومن أجل فهم طبيعة تفاعل الإنسان مع المكان وسلوكه فيه 
يفترض فهم كيف وماذا يفكر الإنسان وكيفية إدراكه للأشياء الحيطة به بما 
يضفي بعداً لوظيفة المكان الخاص بالإنسان. وأمست علاقته بالمكان 
جدلية» وتكتنفها هواجس تتسم بالحميمية والعاطفة» حتى أمسى الإنسان 
بدون مكان» والمكان بدون إنسان أمراً عبثياًء يخلو من اللبابة. وبذلك كان 
المكان المسرح الطبيعي الجغرافي الذي يتعامل معه ويختلف الإنسان 


1 Meaning in Western Architecture Rizzoli,p23. New 
York, 1974-1979 
د.سعد الجميلي: مقال: إعادة تشكيل المكان في العمارة- منشورات كلية ا هندسة اجامعة بغداد‎ " 
ذ5.‎ 
رف‎ 


باختلافه ويتشابه بتشابمه. وبذلك أصبحت هويته هي محض شعوره بالفرق 


بين الذات والآخر. 


والعلاقة الجدلية بين الإنسان وبيئته المكانية ولدت النمط المعماري 
القادر على تحقيق التوازن المطلوب من جهة وفنية العمارة والتقنيات من 
جهة أخرى» حيث تعد العّمارة البيئة الطبيعية للإنسان» ففيها يولد 
الإنسان ويسكن وبمارس عمله وعباداته وعلاقاته الاجتماعية وفيها بموت, 
وهي بمذا المعيار ترافقه من المهد إلى الحد» وبذلك تشكل ضرورة حياتية 
وإنسانية يسعى ها الإنسان طائعاً أو منقاداً لتطلبات الضرورة» بمعنى أن 
الإنسان هو صانع بيته أو مهده ولحده المكاني. 


والعمارة والعمران أحسن ما يدلل على هوية المكان الإنسانيةء فإنهما 
ير مان ملامح حقب الإنسان وتطوراته. وشكل الزمان البعد الرابع المكمل 
لأبعاد المكان الثلاث؛ وهما المؤسسان لمفاهيم فكرية مجردة نحت في العادة 
نحو الدسبية بعيدة عن المطلق» بيد أنما متناوبة بين حركة وسكون بصيغ 
تفاضلية يحكمها نظام أمسى المعبر عن المنتج الإبداعي الإنسان المدرك 
بامحسوس والملموس. وبما يتعلق بالأزمنة فإن الزمن يُدرك "إدراكاً غير 
مباشر من خلال فعله في الأشياء فإن المكان يدرك إدراكاً حسياًء يبدأ بخبرة 
الإنسان بحسده: هذا الجسد "المكان" أو لنقل "مكمن" القوى النفسية 
والعقلية والعاطفية والحيوانية للكائن الحي, ليتعداه إلى أقرب مكان إليهء 


V٤ 


وهو الحيز الذي كتويه كالئياب, 09 إلى الغرفة, 09 الدار والحي والمدينة 
والوطن(١).‏ 


وبمكن أن نضيف لتلك التراتبية بعداً خامساًء وهو الموقف القيمي, 
الممفصل لطبيعة العلاقة بين الأزمنة والأمكنة ضمن سياقات الحياة 
البشرية» والمتعلقة بعلاقة الإنسان بالإنسان وكذلك بمحيطه المكان وإدراكه 
للزمان المعاش. وهذا الأمر يلاقي اليوم هوى وشغفاً عا ندعوه اصطلاحاً 
(العمارة البيئية أو الخضراء أو الاستدامة), وكلها تغل حدودا وضوابط 
نضجت من تراكم الدروس المعاشة والمرصودة» وانعكست بشكل ملموس 
من خلال نتائج وخيمة أوصلت الإنسان إلى أزمات وآفاق مبهمة ومواقف 
محرجة مع ذاته وعقائده. 


وفيما يخص العّمارة» فإنما حينما تفقد حس المكان فإنحا تفقد 
خصوصيتها وبالتالي أصالتها. وثمة جمالية متجذرة تقوم بين البيئة المكانية 
الحيطة بالمنجز المعماري» حينما تشكل بأبعادها الغلاثة انسجاما مع أبعاد 
العمارة» التي تمكث منهجا للتماه والموائمة مع المكان. وهنا نقف على 
جوهر الحالة الإبداعية» من خلال إدراك القوانين والنظم التي حكمتها 
وإيجاد الحلول التي تصنع أشكالا منسجمة مع هذا المكان بعدما تفكك 
إلى وحدات وظيفية لتجمع في مساحة أو فضاء في حيز المكان. حتى أن 
منهج العمل يوحي للمتأمل بأنه محض نظام في العلاقات بين الخطوط 
أ يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني - ترجمة: سيزا القاس مجلة ألف - ص ۷۹ - البلاغة 


المقارنة, عدد"- 5لّل 8 .١‏ 
Vo‏ 





والمساحات وتوازن بين الكتل والفراغات» وفلسفة ذلك المنهج هو 
التجريد والمنطق الرياضي. 


والعمارة جزء من العمران المنتمي بالاستقراء إلى المكان» وهو المسرح 
الطبيعي للبيئة» وهو الجغرافيا التي تسبق التاريخ» فالتاريخ تصنعه الجغرافيا 
والمعمار لاعب تاريخي متغير في ثابت الجغرافيا. وبذلك يتخذ المكان بعده 
المركزي في الذاكرة, كونه بؤرة إنتاج الصورء والرموز التي تكيف سلوك 
الأفراد. وطبيعة استجاباتم اللاحقة» وسطوة اللا وعي» حتى يجد نفسه 
هائما دون هدى بحنين مجنح إليه كلما أتيح له استذكاره» متخطيا كل 
معطيات زمنه المعاش في اللحظة» واكتسى لديه بحظوة وتبجيل وطأت 
القدسية» ووجدت صيغا شت للتعبير عنهاء ابتداء من مفهوم (أمنا الأرض) 
السومري» حتى مدن مقدسة وعمائر تحاط بإجلال وتفو ها النفوس كما 
مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرها. 


إن علاقة المعمار بالبيئة الق ولد ونشأ فيهاء تؤثر على اتجاهه 
المعماري وعلى تفضيله لانجاه ومنحى وحل وحتى طراز ولون دون آخرء 
التصميم. وإن الفكر المعماري والحلول التصميمية للمعمار هي نتيجة 
لتلك الحبكة من جذور وخلفيات ونوازع ولاوعي وعوامل تأثير متراكبة. 
ويبقى وقع التضاريس والبيئة أكبر الأثر على الاتجاه المعماري, بحيث تعتمد 
على إشارات ودلائل معمارية مهمة تلعب دوراً في تحديد وتحيئة المكان 
وتنظيم الحركة والاتجاهات والإطلالات والمناسيب ومديات واتجاهات 


ك7 


الرؤياء وحتى طبيعة العناصر الشاخصة والدلالات المميزة لطراز البناء 


وخاماته وتفاصيله. 


ولنأخذ مثال المدن الصحراوية التي تعتمد على التقارب في البنيان 
رغبة في زيادة التضليل والعزل بين المباني» وتشجيعا لحركة الهواءء وتعرج 
الممرات يراد منه حفظ برودة الحواء. وبقصد الحماية من قساوة البيئة الذي 
يضفي معالجات بصرية بعينهاء وأهمية التظليل وإضفاء هيئة وأشكال 
وألوان تتسق مع سطوة المكان» وتسبغ حساً جمالياً عادة ما يرد في مرحلة 
لاحقة لضرورة المواءمة المكانية. ويقوم الفنان في تلك المرحلة بعملية 
التفريغ الفني من خلال المواءمة وإزالة التعارضات المختلفة بين المثال 
المتخيل وذلك المنفذ على أرض الواقع. وكذلك تلعب البيئة الطبيعية دوراً 
في تحديد نوعية وطبيعة الغطاء النباتي في كل منطقة من المناطق والتي تعطي 
جواً وبعداً مهماً في تحديد شخصية المكان. 


إن الكتل والأشكال المعمارية هي لبنات عاكسة للتماهي بين 
الفضاءين المكاني والمعماري. لذا أمست الحيئة دالة تعبيرية عن الوظيفة 
والقصد النفسي المرتجى؛ فصرحية المعابد وفخامة القصور لا تقارن ببيوت 
العامة» أو أن تراكب البيوت التكعيبي على سفح ربوة وتبة» متداعيا من 
طبيعة المكان. وما له من أثر نفسي» والذي يتسرب ويخترق (لا وعي) 
الفنان المرهف» وهذا ما حدث مع (بيكاسو) حينما كانت قصبة ملقة 
الأندلسية مصدر إلهام, أنضج لديه الرغبة في إضفاء (تكعيبية) على 


أشكاله, فَعْمّد هذا التيار باسمه. 


VY 


وهكذا فإن مثلث الانسجام بين الإنسان والمكان والعمارة يتعدى 
الأشكال المعمارية ووظيفيتها أو جمالياتها إلى النواحي الفيزيائية والبصرية 
والنفسيةء وبذلك أمست العمارة إحدى دالات ضمن أخرى كثيرة تعكس 
الطابع الثقافي لشعب وثقافة بعينها. وهكذا تكرس المفهوم الذي يذهب 
إلى أن الإنسان يشكل عمارته» لكنها بالنتيجة تشكله وتؤثر فيه بعمق, 
وتدعى جدلية (الساكن والمسكون). 


والعمارة تشكل حضوراً مادياً ملموساً على عكس الفنون الزمانية 
كالموسيقى والشعرء بل تؤشر مادياً على حضور الإنسان ووجوده في 
المكان والزمان» وعلى المعماري إيجاد الشروط الموضوعية التي تضمن 
استمرارية العمارة في ترابط عضوي مع المكان كدلالة ولاء للتاريخ كي 
تكسب أعلى نسبة ممكنة من عناصر الخلود هذه العمارة التي لا يقتصر 
وجودها على أساس المهمة التي ستستخدم من أجلها فقط وإنما لتحقق 
فوق ذلك عمارة وفناً حمياة يرتبط بالجدور الحضارية لهذا المكان» وليس 
هندسة وخطط بيانية. فالمعمار كإنسان بمثل باعتداد وتواضع الخالق على 
الأرض» ومکنه أن يبعث الروح في المكان أو كيته, فالمعمار الذي لا ينطلق 
من شروط المكان البيئية والحضارية, يسئ للمكان أو يعبث به» ويزعزع 
أساساته الثقافية والمعرفية» وينزع عنه هويته. 


يقول المصري المرحوم حسن فتحي (۱۹۸۹-۱۸۹۹) على 
المعماري (التذكر أنه لا يبني في فراغ ولا يضع مبانيه في حيز فارغ كمجرد 
مخططات فوق صفحة خالية,» فهو يدخل عنصراً جديداً إلى بيئته التي 


VA 


وجدت في اتزان منذ زمن طويل» إن لديه مسؤليات تتعلق با يحيط 
بالموقع, وإذا تخلى عن مسؤليته وألحق الأذى بالبيئة» فإنه يرتكب جرعة 
بحق العمارة والبيئة)('). فلا بد للمعمار أن يتقمص الأنا المعماري 
والمفاهيمي والآخر القاطن الساكن في العمارة» وصولاً إلى هذا الجدل 
الخلاق 


إن لكل بناء لغته وإحالاته النفسية والوجودية» فالبيت مكان 
للأسرارء والحانة مكان للبوح و "الفضفضة". والمكتب أو المصنع مكان 
للدشاط والإبداع, والفندق مكان للراحة والاستجمام, والمطعم والوليمة 
تکریس للألفة الاجتماعية, والشارع والزقاق للمرور والألفة والتراحم 
والتجمل» والمعمار يصنع من هذا التنوع عوالمه في صيغ معمارية. فهو من 
يضفى على عمران الميدان والساحة العامة أهمية المعشر ولقاء العامة 
والخاصة وشعور التواصل والتواشج, والراحة والنزهة. مستحضراً في مخيلته 
ذلك التراكم في تطور وظيفة الساحة الذي تناغم مع تطور الإنسان وقيمه 
الثقافية والاجتماعية وتحول إلى مكان للاجتماعات والحوارات والخطب 
واللقاءات العاطفية والعابرة والانتظار والتأمل والشغف برصد الارة » أو 
حق فضاء للتعبير الفكري والتفريغ السياسي, وهذه كلها معطيات 
تصميمية للمكان. 


إن المكان يتبادل الأدوار معناء فهو مرة بداخلنا ومرة في خارجنا ورعا 


يتويناء ومن هذا التبادل تدشاً علاقتنا به من حيث ألفته أو عدوانيته, 


أ حسن فتحي - عمارة الفقراء - القاهرة .١9/6‏ 
۷۹ 


ويتلون هذا المكان بصور البيت أحياناً» وبصور الطبيعة أحياناً أخرى» مرة 
أليفاً ومرة عنيفاً. ولعل صورة البيت هي الأكثر حضوراً. حيث يتلون عبر 
إحالات الكهف والعش والقوقع والحار والسقيفة والقصر والعلبة والرحم 
وتتلون الطبيعة عبر أجواء مائية أو نارية» وأخرى ترابية أو هوائية» ومن 
خلال هذا التركيب الرباعي تتوالد أمكنة ضيقة أو فسيحة» أليفة أو 
موحشة» عذبة أو قاسية, لزجة, رطبة» أو متوهجة, جافة» وحارقة» أو 
باردة مظلمة» صامته أو صاخبة أو تصدح با الموسيقى أو يسمع فيها 
حفيف الشجر وخرير الماءء وتبقى الأشياء والأمكنة التي نراهاء هي نوع 
من المكافئ لإدراكنا الحسي, بعيداً عن حيزها المتغير في عمليات الإضاءة 
والظلال» فالمكان موضع ترتيب الأشياء المحسوسة "المادية" من أثاث 
ولمسات نحتية وإضافات نصبية وعناصر وظيفية ونوافذ وأبواب وتفاصيل 
مكانية وفراغ للحركة, فالمعماري الفنان هو القادر على جمع تلك 
التناقضات المكانية في عمل بصري هندسي موحد. 


نجد في كتاب (أماكن الذاكرة) 72620156 عل عتتاءز.] [es‏ الصادر 
سنة .1۹۹4٤‏ للمؤرخ الفرنسي بيير نورا 21616 110173 (م: باریس 
)١‏ مصدراً تنظيرياً في حقل الدراسات التاريخية حول مفهوم الذاكرة 
المكانية. حيث يتحدث بيير نورا عن ثلاثة شروط لإضفاء صبغة 
“الذاكراتية” على مفهوم جرد أو شيء حسي معين, وبناء عليه فيمكننا 
الحديث أيضاً عن ثلاثة أبعاد لأماكن الذاكرة: البعد المادي» والبعد 


الوظيفي, والبعد الرمزي. 


البعد المادي لأماكن الذاكرة لا يجب أن يحيلنا إلى أن هذه الأماكن 
تقتصر على أشياء ملموسة (قابلة للمس) ذات طبيعة مادية فقط 
كاللوحات الفنية أو كتب وغير ذلك: أحداث تاريخية حاسمة أو دقائق 
صمت لإحياء ذكرى شخص ميت تتوفر أيضا على بعد مادي جلي لأا 
- كما يعتقد نورا - عبارة عن “مقطع مادي” محدد من فترات ووحدات 
الزمن. كل هذه “التموضعات” تمتلك بعدا وظيفياء بمعنى أتما تُحقق أو 
تمارس وظيفة محددة ومضبوطة ضمن المنظومة الاجتماعية؛ لذا يتحتم على 
هذه التموضعات لكي تصل إلى مرتبة أماكن الذاكرة, أن تكون ذات بعد 
رمزي» أي حاملة لمعنى رمزي معين» وهذا يظهر بشكل جلي حينما تنتقل 
ممارسات أو أفعال معينة إلى طقوس محاطة بمالة رمزية» لتصبح حاملة لنفس 
الطبيعة الحضارية التي تمتلكها أماكن الذاكرة في مجتمع ما. 


لقد أصبح لكل مكان مديني ذكرى وصدى في النفوس مصدره حنين 
ماضوي للمكان يتداخل بين عاطفة الإنسان ومكان المدينة وأمكنتهاء 
ويبقى الاهتمام بالمكان فطرة حضرية مخالفة لفطرة البداوة. والشغف 
بالمكان والحنين إليه أو البناء فوقه أو تقديسه صفة حضرية وحضارية 
ميزت بين الثقافات الرملية والطينيةء وهذا ما ينعكس في شجون العمران 
والعمارة والفنون» كون العمارة مجسد للبيئة والنفس ومعشر البشر والأشد 
التصاقاً بطبيعة الحياة, والأكثر تغلغلاً بما. والأعمق جدلا مع الذات 
الفردية والجماعية. 


۸۱ 


مكان بين الحضر والبدو 


اضطلعت ظاهرة المدن والقرى الحضارية بالاستقرار والمكوث المكاني, 
ووقعت موقع النقيض من البداوة القلقة التي جعلت في حركتها الدءوبة 
حالة معاكسة للحضارة ومناقضة للبنيان والعمارة في المكان. وهنا نرصد 
أن تركيبة مجتمعاتنا في الثقافة العربية تتألف من ثلاثية البداوة والقرية 
والمدينة, لهذا رمت ها مسار تطور يختلف عن الغرب الذي كان ازدواجي 
التكوين» فبين قرية ومدينة, كان ثمة تناغم وشبه اندماج حتى أنه استطاع 
أن يحل إشكالية القرية ويلبسها ملكات المدينة بمقياس رسم أصغرء بالوقت 
الذي لم نستطع نحن ذلك» بسبب وجود بداوة تناكف وربما تبتز المدينة 
والقرية على حد سواء» وبمكن أن يكون عبدالرحمن بن خلدون -١97(‏ 
5 أول من انتبه إلى ذلك في تاربخه» وفسر كل أحداث التاريخ 
الشرقي بأنه صراع بين رمل ومدر (بدو وحضر). وربما يكون هذا سبب في 
تبني الغرب تأويلات الصراع الطبقي (الاقتصادي) في الداخل والقومي 
(العرقي اللسافي) في الخارج» بينما نحن تصارعنا بداوة وقرية ومدينة» أكثر 
من دول "قومية" على خلفيات عرقية, أو طبقات اقتصادية,» حيث كانت 
الأديان الشرقية قد أوجدت ها حل توفيقي مهادن, يقتفي الغيب ويؤمن 
بقسطاس مقادير الأرزاق السماوي» دون اعتراض أو امتعاض. 


وعلى العموم فإن الخطاب الإسلامي العام نحى نحو التجمع المكاني, 
ورفع مبدأ الحظوة للمدائن, وما الرسالة الحمدية إلا دعوة صريحة لبذ 
البداوة. وهذا ما نلمسه في القرآن الكريم في نقد للبدورالْأَعْرَابُ شد كُفْرًا 


AY 


وَنقَاقَا وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُوا حَدُودَ ما أَنرَلَ الله عَلَى رَسُولِه وال عَلِيمٌ حكِيم) 
۶/١‏ وه ەه 3 2000 ی نر ره َه 5 ده رر 1 
( )»أو (وَمن حَوْلَكُمْ من الْأغْرَاب متَافقُون وَمِنْ أَهْلٍ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى 
التقاقِ لا تَعلَمُهُمْ تحن تَعلَمُهُمْ سَْعَدَبْهُمْ مرن م يُرَدُونَ إلى عَذاب 
ر ۲ 
عَظیم) ( ). 


أو كما جاء في الحديث النبوي الشّريف: (لا جمعة ولا تشريف ولا 
فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع) (") بما يؤكد منهجاً داعياً إلى التمدن 
والتجمع الحضريء على أساس الحاجة الروحية.. ويرى المقدسي في تعريفه 
للمصر: (أنه كل بلد جامع تقام فيه الحدود وكله أمير ويقوم بنفقته ويجمع 
رستاقه) (*) وقد أورد الماوردي في (الأحكام السلطانية) أنه لا يجوز إقامة 
الصّلاة الجامعة إلا في "وطن مجتمع المنازل" وهو تحديد واضح لفهوم المدن 
أي المكان الذي يستقر به والذي يتوافق تماماً مع آراء المعجميين العرب في 
المدينة. 


وأورد الأمام أبو حنيفة النعمان» مشيرا إلى شروط إقامة صلاة الجمعة 
فيقول إن صلاة الجمعة إنما تخص جا الأمصار دون غيرهاء وأنه لا يجوز 
إقامتها في القرى والذي يعد تطوراً فريداً في فهم تعبير المدينة. وصنف 
المصر هو ذلك المكان الذي يوجد فيه: 


| سورة التوبة - الآية ۹۷ 
' سورة التوبة - الآية ٠١1١‏ 
٣‏ عبد الجبار ناجي: مفهوم العرب للمدينة الإسلامية - مجلة المدن الإسلامية, العدد ١4‏ - سل 
-١9484-‏ ص۳٥‏ . 
المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم - طبعة ليدن -١۹ ۰٩‏ ص7 4. 
م 





ويشير بذلك إلى أن الفقهاء المسلمين قد وصفوا عدداً من الخصائص 


والشروط التى بمكن الركون إليها في تحديد ماهية المكان وفيما إذا كان 
مدينة أو غير ذلك وتلك, وهي: 


.١‏ المقدرة البشرية والكثافة العددية. 
؟. وجود سلطة قضائية تقيم الحدود. 
١ .‏ 

۴. تطور عمرادي( ). 

وبالإمكان التوصل إلى جملة من الخصائص المشتركة لدى الفقهاء 
والجغرافيين العرب (أي ما يمكن قوله من الجانب النظري والتطبيقي) 
فالمكان الذي يتمتع بسمات: بلد جامع. وتقام فيه حدود. ويحله أمير . 
ويقوم بنفقته ويجمع رستاقه. فكل ذلك يجعله مدينة('). 


وجدير أن ننقل فقرة من تاريخ ابن خلدون تتعلق بأحداث لما دلاله 
بهذا الشأن» ذكر فيها: (ورد في صحيح البخاري من قول الحجاج لسلمة 
بن الأكوع وقد بلغه أنه خرج إلى سكن البادية فقال له ارتددت على 
عقبيك» تعربت» فقال لا ولكن رسول الله (ص) أذن لي في البدوء فاعلم 
أن الحجرة افترضت أول الإسلام على أهل مكة ليكونوا مع النبي (ص)» 
' عبد الجبار ناجي : المصدر السابق ص 817. 


' د. حيدر عبد الرزاق كمونة - المصدر السابق. 
A٤‏ 





حيث حل من المواطن ينصرونه ويظاهرونه على أمر ويحرسونه. ولم تكن 
واجبة على الأعراب أهل البادية لأن أهل مكة بمسهم من عصبية النبي 
(ص) في المظاهرة والحراسة ما لا عمس غيرهم من بادية الأعراب» وقد كان 
المهاجرون يستعيذون بالله من التعرب وهو سكنى البادية حيث لا تجب 
المجرة. وقال (ص) في حديث سعد بن أبي وقاص عند مرضه بمكة اللهم 
أمض لأصحابي هجرقم ولا تردهم على أعقابجم» ومعناه أن يوفقهم لتلازمه 
المدينة وعدم التحول عنها فلا يرجعوا عن هجرقّم التي ابتدأوا بماء وهو 
من باب الرجوع على العقب في السعي إلى وجه من الوجوه. وقيل أن 
ذلك كان خاصاً بجا قبل الفتح حين كانت الحاجة داعية إلى المجرة لقلة 
المسلمين. وأما بعد الفتح وحين كثر المسلمون واعتزوا وتكفل الله لنبيه 
بالعصمة من الناس فإن الحجرة ساقطة حينئذ لقوله (ص) لا هجرة بعد 
الفتح» وقيل سقط إنشاؤها عمن يسلم بعد الفتح» وقيل سقط وجوبما 
عمن أسلم وهاجر قبل الفتح» والكل مجمعون على أنما بعد الوفاة ساقطة 
لأن الصحابة افترقوا من يومئذ في الآفاق وانتشروا ولم يبق إلا فضل 
ائ ب وهو مجه" فقون الجاع ل ج ك اا 
ارتددت على عقبيك تعربت نعي عليه في ترك السكنى بالمدينة بالإشارة إلى 
الدعاء المأثور الذي فقدناه» وهو قوله لا تردهم على أعقاجم» وقوله 
تعربت إشارة إلى أنه صار من الأعراب الذين لا يهاجرون, وأجاب سلمة 
بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأن النبي (ص) أذن له في البدر» ويكون ذلك 
خاصاً به كشهادة خزبمة وعناق أبي بردة أو يكون الحجاج إنما نعي عليه 
ترك السكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط المجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة 


Ao 


بأن اغتنامه لإذن النبي (ص) أولى وأفضل فما آثره به واختصه إلا لمعنى 
علمه فيه)('). فجاءت التعاليم صريحة في نبذ العودة للبداوةء والحث على 
إنشاء الأمصار أو المدن وإقامة المساجد لإقامة الصلوات الجامعة» ليس 
إلا لنقل حالة التجمع البشري من حالة الموقت إلى الدائم» ومن البداوة 
والترحال إلى الاستقرار والحال» وهذا بحد ذاته إعلاناً صريحا لا يحتاج إلى 
تأويل» حينما سعى الإسلام إلى إرساء القيم الحضارية وتكريسهاء بالمقارنة 
مع غيره من الأديان والفلسفات التي غيرت صلب ووجه التاريخ. 


وبذلك تحقق للإسلام دعامة اجتماعية وسياسية منذ الحجرة في العام 
۲ م حيث أصبحت الأمة مجتمعاً تاريخياً مزوداً بدولة ومؤسسات وها 
أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية فقد (اتجه الخطاب القرآن في الأعم 
والأغلب. إلى شؤون الدنياء وتأسيس المدينة الإسلامية وتنظيمهاء وإلى 
التشريع للفرد وامجتمع في العبادات والمعاملات معا ('). وقد تشكلت 
السلطة الإسلامية في المدينة على ثلاث بنيات هي (العقيدة القبلية) 
بصفتها أصرة اجتماعية» العقيدة دينا وشعائر الاقتصاد. فاتجه التشريع الى 
النواحي العملية» فشرعت أحكام العبادات والجهاد وتنظيم الأسرة من 
زواج وبيان حقوق الزوجين والفرقة وأسباجا والمبراث وحقوق الورثة فضلاً 
عن الأحكام المتعلقة بالجرائم والعقوبات وأنواع المعاملات. ولم يترك 


أ عبد الرحمن بن خلدون - تاريخ المبتدأ والخبر - المقدمة - الفصل الرابع: في أن أهل البدو 
أقرب إلى الخير من أهل الحضر. 
' أركون. نج الفكر الإسلامي قراءة علمية؛ ترجمة هاشم صا بيروت» مركز الإنماء القومي 
٧: ۷‏ ص /1517. 

A٦ 


التشريع الإلمى جانباً من جوانب الحياة إلا جاء بتنظيم محكم دقيق له. 
وهكذا بدأ القضاء الإسلامي معتمداً على الد بع في القرآن والسنة, 


وأصبح الرسول (ص) أول قاضي يحكم بين الئاس فيما اختلفوا فيه (') 


فالمدينة بوصفها بناءً عمرانيا تمثل جسدا من خلال علاقتها بالواقع 
والحياة والتاريخ وإنما تنطوي على بنيات ثقافية وحضارية لا تنفك تؤثر في 
سلوكيات المجتمع, في رحلته من البداوة إلى العقيدة في صيرورتها الحضرية 
أي بوصفها مشروعا حضاريا ومدنيا في تأكيد على الكسب وهو انقلاب 
في الرؤية البدوية التي تمتهن المهنة, (فالأديان هي وسيلة مهمة من وسائل 
تنظيم الجتمع)("). فالواقع المعماري بوصفه منهجا يمثل استجابة حياة 
اليومية من جهة والتراكم الحضاري - الذي أفرز تلك التصورات عبر 
تحولات الكائن والمجتمع - من جهة أخرى. وهذا ما يظهر في العمارة التي 
هي منظومة من الاتصالات والتفاهم تنتقل فيها المعلومات من باعث 
يتمثل بالمصمم إلى متلق يؤدي دور المفسر الذي يقصد به النقد أو المعنى 
إذ لا توجد عمارة مجردة من معنى (") فإن الواقع العمراني يكون مرقناً بين 
الوسط المكاني واستجابته للمتطلبات الاجتماعية التي تكيف منهجه. 


'. د. عامر عبد زيد - مقال: الجذور الحضارية لمدينة الكوفة - موقع الحوار المتمدن - العدد: 
AY‏ - 11/6/۰0۷ 
'. جارلس ماج: الجتمع في العقل - ترجمة احسان جد الحسن» دار الشؤون الثقافية العامة 
بغداد, ۰ ۰۱۹٩‏ ص4 ۷. 
". العمارة وتفسيرهاء خوان بابا وبونتاء ت: سعاد عبد علي» دار الشؤون الثقافية, بغدادء 
5 ص۱۰-۸. 

3 


وبمكن أن نلمس انسجاماً في المفهوم والاقتباس بين الدين والمدينة, 
وجوهرها المشترك (العدل- القانون) الضابط للمصالح والضامن للدبمومة 
ودرء الفناء. وقد ورد الاصطلاحان من السومرية بمفردة (دي 101 ) التي 
تطورت ووطأت أزمنتناء با يؤكد الصفة الأولى ها في ثقافة الشرق القديم, 
وهي لم تشذ عنها في الإسلام, حينما جعلت المدينة الإسلامية مدينة 
للعقيدة والانضباط الاجتماعي والعمراني. وسبق أن ذكرنا مقولة 
الفيلسوف الألمايئى فلهيلم فربدريش هيغل )١831-1١117٠0(‏ معزياً 
أسباب نشأة المدن والعلاقة بين الجانب الروحي والمدينة ضمن اعتماده 
التاريخ الحضري في تفسيره للعمارة ذاكراً: (فمثلما حولت الزراعة الحياة 
البدوية إلى طراز من الحياة المستقرة والحضرية» فإتما ساهمت القبور 
والأضرحة وتبجيل الموتى» في جمع شل البشر وصارت» حت بالنسبة إلى 
أولئك الذين لا يعيشون حياة مستقرة لانعدام وجود الملكية عندهم, 
أماكن للاجتماع» أماكن مقدسة يذاد عنها ولا يراد لهاء مهما غلى الثمن 
أن تسقط في يد الغير)('). 


حتى إن فكرة المدنية عنت دائما العلاقة مع المكان» ضمن مجموعة 
من الفعاليات والممارسات والأنظمة والقيم والعلاقات والمظاهر التي يتم 
تبادها داخل هذا المكان, ورغم كل ما يقال عنها في سياق الحديث 
عن هذه المضامين والقيم والممارسات والخبرات» إلا أنما تبقى في الأساس 


' هيجل : المدخل إلى علم الجمالء ترجمة جورج طرابيشي » ط؟ . دار الطليعة للطباعة والدشر › 
بيروت 2 .١198٠‏ 
A۸‏ 





أشكالا ومظاهر, وهي التي تعبر عن وجودهاء وتقدم لنا المدينة في السياق 
الاستعمالي للأشكال التي تتأصل فيها النظم الاجتماعية والعلاقات 
الثقافية. والحاجات وقيم الرفاهية والمعيشة, مثلما تتبدى فيها مظاهر 
العمران الأنيقة.» بسماتما التي تؤكد هويتها وخصوصيتهاء وتحدد 
طبيعة نظام المنافع والحماية» مع وجود شبكات الخدمات والمتع 
والمواصلات والشوارع النظيفة, التي تؤمّن لسكانها خدمات سهلة ومريحة 
فضلا عن توفير منظومات عالية للخدمات الراقية التي تقدم نفسها دون 
تعقيدات وني أوقات لا تضع الناس أمام صعوبات تفادي آثارها 
وضغوطهاء وهو ما يعني ربط هذا التحول بتنظيم المدينة وتيسير خدماتا 
ضمن مشر عمران ينهي واقع (الترئف) الي تعان مده اليوم. 


ففي أزمّنتنا الحديثة» ولاسيما في النصف قرن الأخير حدث شرخ في 
المجتمعات الإسلامية بعد حقبة الاستعمار, أزم حدود الاحتواء والتداخل 
بين ثلاثية التجمعات (المدينة والبداوة والريف). ويفسر المغربي غد جابر 
الأنصاري مأزق المدينة العربية الإسلامية وعمقه جاء من جراء التعاكس 
المتمثل في حكومة البدو والمتريفين, ولا سيما ممن أتوا بعد الانقلابات 
العسكريةء التي دعيت "ثورات", كما الحال في جل الدول العربية ولا سيما 
العراق ومصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس والسودان والجزائر وموريتانياء 
بغض النظر عن كون السلطات السابقة كانت أصلاً متأتية من البداوة أو 
كانت أعجمية أو عربية (في الغالب تركية) كما حدث في مصر والعراق 


وسوريا. 


4 


حيث عادة ما تنتج المدينة الحضارة التي تتكرس بعد ثلاثة أجيال كما 
خبرنا بذلك ابن خلدون. بيد أنما تفشل في إنتاج السلطة» على عكس 
البادية التواقة للحكم والانقضاض لأسباب اقتصادية دون طائل؛ والتي 
تجد ها عادة المسَوغْ من خلال سنة الغزو والغنيمة أو حتى ذرائع الدين 
والعرق والأخلاق والأعراف. وأي ذريعة تجدها مناسبة في حينها 
للانقضاض واهيمنة. ونضرب المثل في سلطة العراق البعفية التي بارك ها 
وعاضدها الأمريكان في انقلابجم عام :.)١951(‏ ثم انتهت على أيديهم 
عام )١(5٠0٠‏ فكانت تمثل البداوة المتجذرة في نفوس أقطاجا القادمين 
من شال وغرب بغداد» حتى وجدت حجتها بالدفاع عن فلسطين 
والإعداد "لمعركة المصير". وتبرقعت بنفحات "الحداثة" وخلطته مع 
التحديث دون وعي» وبدأت ملحدة كافرة» وانتهت متدينة ورعة» واجتشت 
في مسيرتًا التطلعات المدينية التي مثلها بعض شواذ عناصرهاء وعبثت 
تباعاً بمقدرات البلد» من خلال نأي عن الكياسة في السياسة» فأشاعت 
أعراف البداوة وكرست القبلية وأججت التصنيفات القومية العرقية وفرقت 
الطوائف, وألغت المواطنة التي تكرّس روح المدينة» بعد أن قوضت 
بناء للدولة استمر منذ التأسيس عام ١47١‏ على يد المرحوم فيصل 
الأول لتنتهي بسقوط مدو وتركت وراءها تلالا من الحطام ومصائب 


١‏ هذا ما صرح به علي صال السعدي القائد البعثي من بيروت عام ١954‏ بأتهم (جاءوا بقطار 
أمريكي) وكان الغرض من إيصالحم محاربة الشيوعية الجامحة إبان الحرب الباردة وغلو لعبة الأمم. 
16 





ومموماء وديونا ومقابر والتزامات أضاعت فيه العراق إلى عقود طويلة 
قادمة('). 


وقد كرر الأمريكان الخطيئة عينهاء وسلموا العراق اليوم إلى سلطات 
ريفية متناحرة» ليتصاعد أوار التنافس بينها» حيث نلمس أن الكل يروم 
الاغتنام من المدينة واستغفال أو ابتزاز المنافس القروي أو البدوي» بالرغم 
من التبرقع بالتحاصص "الجنتلماني" الظاهري. ومن جراء ذلك ساد 
الإفساد وعم الخراب. وهكذا يبدو أن الغرب المتشدق بالدبمقراطية 
والمتمظهر بالمدنية. فضل أن تكون سلطاتنا دائما بدوية, كوا قابلة 
للابتزاز ومطواعة في التسيير وتمرير خطط التجهيل. وهنا نشير إلى أن 
البداوة الاجتماعية المتمثلة بشيوخ العشائر, كانوا قد تحالفوا دائماً مع 
رجال الدين وكبحوا بالخفاء كل تطلع للانعتاق والتحرر» وهم يعملون في 
الظاهر لإرساء الدولة لكنهم بالخفاء يقوضوفاء كوم أصحاب مصلحة 
بعدم وجودهاء كوا تسحب من تحت أقدامهم الوجاهة والحضوة 
والمكاسب العراض» فالمواطنة الحضرية وبال على كل دعاة التشرذم 
والتحاصص. بعدما يلجأ الإنسان للدولة بدل أن يلجأ لشيخ العشيرة أو 
رجل الدين. والأهم من كل ذلك أنهم متفقون على أن لا ضرورة لتطوير 
الوعي» وإن مكوث الجهل واستشرائه يسهل عليهم مهامهم؛ فحكم 
شعب جاهل أسهل من واع. وهذا ما نجد له سياقات كثيرة في التجهيل 


' بحت هذه الثيمة (صراع البداوات في العراق) في كتابي الذي أعددته تحت عنوان (علي الوردي 
والمشروع العراقي) - بغداد - دار ميزوبوتاميا ۲۰۰۸ .ودار السجاد .5١١١‏ 
۹۱ 





القسري للمدينة وخلطها عنوة مع القرية» حتى أمست حواضر مثل بغداد 
محض قرية متنتفخة سرطانياء تحكمهاً القبيلة وتؤرقها المرجعيات الطائفية 
ويتناطح أهلها على هدى (داحس والغبراء) أو (حرب البسوس). 


وهنا نستنتج وكما وضع ابن خلدون اليد عليهاء بأن البادية منتجة 
للسلطة أكثر من المدينة التي تجد نفسها عاجزة لكنها بالنتيجة منتجة 
للحضارة ومغوية للبداوة. بحدث الأمر رغم أن البداوة لا تقدم غلة 
للمدينة» على عكس القرية التي تصبح حديقة خلفية للمدنء تمدها 
بأسباب ديومة العيش» في معادلة فذة منذ أور وأوروك ولكش» وكم 
انشغل المخططون بقدر مساحة المكان الفلاحي خارج المدينة الذي يمكن 
أن تغطي غلتها حاجات سكانتما. وهنا نقع على أن هذه الضدية المدمرة 
بين السياسي “السلطوي” و”الحضاري” “الإنتاجي” في التكوين العربي هي 
الي صاغت روحية المدينة العربية الإسلامية المتلكئة. وتفسر خفوت 
المشاركة وظهور فلسفة الإنسان العام في الثقافة العربية والإسلامية, التي 
تشكل سببا من أسباب سيطرة البادية وخضوع الحاضرة “المدينة“ الأمر 
الذي لا يتيح لقوى الإنتاج الحضرية والمدنية التحول إلى عناصر مشاركة في 
السلطة العامة للمجتمع كما أتيح لقوى الإقطاع ثم البرجوازية المدينية في 
مجتمعات أوربا وبعض مجتمعات آسْيا ('). 


أ جمعة عبد الله مطلك - المصدر السابق 
۹۲ 


وهكذا أمست المدن العربية الكبرى مسميات أكثر منها حقيقة 
مجسدة» وهى الأقرب الى القرية المنفلته الخالية من "كبير" يرعاهاء وأخلاق 


حري بإعادة النظر اليوم بنظرية عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي 
الوردي ("17 ١946-1١91‏ الذي رصد "ازدواجية الشخصية العراقية" 
وعنت المعاناة المدينية والشرخ المؤلم الذي تعانيه وتئن تحت وطأته بين 
الانتماء لها من ناحيةء وبين الولاء لقيم البداوة من الناحية الثانية. 


وأهمية "نظرية الوردي" تكمن في أنما لا تنطلق من رصد الشخصية 
المدينية العراقية فقط. إذ أن الازدواج لا يتحدد بابن بغداد أو الموصل أو 
البصرة فقط, لأنه ينطبق كذلك على أبناء دمشق وعمّان والقاهرة وبيروت 
والجزائر ووهران والدار البيضاء وفاس» من بين سواها من المدن العربية 
التي لم تفلح الحياة في دواخلها من تنقية الإنسان المديني العربي من أدران 
البداوة المختفية في أعماقهاء والمتبرقعة بوسائل الحداثة الحياتية. 


إن الأدلة على ما نذهب اليه اليوم من توسيع وتعميم لنظرية 
(الوردي) على جميع امجتمعات العربية تأخذ مدياقا كاملة في تمرير الإنسان 
المديني في أغلب المدن العربية لأخلاقيات الصحراء وتسييده ها بدلاً من 
تسييد قيم الحاضرة والمدينة. هذه القيم الصحراوية تتجسد, ليس فقط في 
الاعتزاز والتباهي الذي يعكسه الإنسان المديني العربي بانتسابه للصحراء؛ 
بل كذلك في الاهتمام الذي يخص به سكان المدن العربية الألقاب 


۹۳ 


العشائرية والقبلية وحتى "العلمية" ضمن هاجس الاهتمام بالأشكال على 
حساب المضامين» والنسب بدل الحسب» وهي من بقايا سيادة روح 
القبيلة والأبوية في البادية وعصبياتاء الأمر الذي يدل على أن البادية هي 
التي تحكم المدينة في العالم العريي» وهذا وراء قيم الثأر والانتقام وغسل 
العار والاستخدام القسري المهين للمرأة ك ”ديّة” أو "غنيمة" أو كأداة 
لتصفية النزاعات القبلية ولتسوية الخلافات العشائرية والعائلية سارية في 
اجتمع إلى اليوم وني الغد!. 


وني سياق الشكلانية التي تفرضها العقلية البدوية نجد أن المدينة 
تتحول إلى محض نتاج مغامرات ومهاترات معمارية, ولا غرابة في أن نشهد 
انتشار الطرز الخلاسية "الشعبوية" المتراكبة دون ذوق مشذب ولا دراية أو 
دراسة جمالية؛ فالتناشز والاختيال الحجمي والفوضى اللونية والملمسية أمر 
طافح وظاهرء وهذا يحدث مع شيوع التقليد الأعمى على حساب سنن 
الابتكار والمنافسة على تقديم الأفضل. 


وهنا جدير أن نشير إلى أن الإدراك الجمالي لدى البدوي متدن كثيرا 
عن الحضري» وحري بأن نجرب بأن نهب بدوي وحضري نفس الأثاث, 
ونرصد كيف يتصرف كل منهما به فسنجد دون ريب الفوضى 
واللاعقلانية جلية في حلول البدوي التنظيمية للأثاث. ويمكن أن يكون 
هذا النموذج الحابط سببا في المبوط العام بالذوق. فالارتقاء بالإدراك 
والحس الجمالي يحتاجان إلى تحضير وتطوير وتشذيب وقذيب» وملكة حس 
وحاجة للتسامي» وإن الفوضى هبوط يسهل ممارسته على عكس الارتقاء, 


1٤ 


وهو ما يمكن أن يعم وينخر صلب الكينونة الاجتماعية» ويقوض 
مواصفات المكان الحضري. فبغداد ودمشق والجزائرء كانت أكثر جالا 
قبل العام ,١555‏ وحلول السلطات البدوية» والقاهرة والإسكندرية 
كانت حضارية ومترعة بالتنظيم قبل حلول (النوار) عام ٠۹ ٩۲‏ وطرابلس 
وبنغازي كانتا تتمتعان بسمات الجمال والذوق المدني قبل 1959..ا2. 
وبمكن تلمس المنتج البدوية في تسمية المكان للمقارنة بينها وبين المكان 
الحضري ضمن ما يدعى علم الاجتماع اللساني .(Sociolangustics)‏ 
فلنأخذ مثلاً في هذا السياق أسماء الأماكن في الجزيرة العّربية لنقارنها مع 
أسماء البلدات اللبنانية» وكل منها لما دلالات تستشف خارج إطارها 
المقروء. وتؤشر على درجات الحس الجمالي؛ ففي لبنان نجد تسميات: عين 
التينة - جبل الزيتون - عين الرمانة - عين الحلوة - برمانا - إقليم 
التفاح - نبع الصفاءء وني الجزيرة العربية نسمع: أم الجماجم - أم 
العقارب - أبا الدود - جفا ضب - أذن الحمار - أم الشفلّح - جَرَب 
- بقه - أم الحموشات.. اخ. 


من المعلوم أن البدو أو (أهل الوبر) كما يدعوهم البعض» لم تكن هم 
أوطان ثابتة بسبب تنقلهم الدائم وراء مصادر الماء والعشب» وكان ضيق 
أسباب الحياة في الصحراء حافزاً هذه القبائل المبتدئة على التنقل والتحرك 
كما كان سبباً في اعتزازهم بالعصبية التي أملتها الظروف الصعبة الحيطة 
بجم» وبفضل العصبية أمكن هذه القبائل أن تدافع عن كيانما والتغلب على 
غيرها لتضمن لنفسها مورداً حياتهاء ولذلك كانت حياة القبائل البادئة 


صراعاً دائماً. والصراع هجوما يتم بقصد الحصول على مزيد من الغنائي 
1° 


وللحفاظ على وجود القبيلة» وعملية الدفاع والهجوم تتطلبان التكتل 
والدخول في أحلاف مع القبائل الأخرى, وهذا عد قانون البادية الغالب 
وقوامه "أن الحق يقوم على القوة"» فمن كان سيفه أمضى وأقوى كانت له 
الكلمة والغلبة وكان الحق في جانبه )١(‏ هذا تحدد مكانة الشخص من 
خلال اضطلاعه بدور اجتماعي وحتى عندما يغدو سيداً تكون تصرفاته 
محكومة دوماً بقانون شرف الصحراء (القانون العرفي لدى القبائل). وكلما 
تقيد به أجاد أداء دوره بوصفه عربيا كاملا(" ). 


وإن سنن القتل التي أشاعها السياسيون البداة» هي ضمن سليقة 
تتحاشى وجود المنافس في الغلة, في حياة البادية ذات الموارد الشحيحة, 
فأمسى القتل أحد شروط الرجولة, ولذة لا تدرك. وهذا الأمر أفنى 
مشاريع بشرية واعدة وصاعدة في الجتمعات المدينية» كوا لم تكن تحمل 
تلك العقلية العنيفة التي جاء ا البدوي» ولاسيما أنه يدافع عن سلطة 
اغتصبها بالقوة2» لذا فإن خراب المكان الحضري معناه فقدان الأمن 
والأمان» وهو ما حصل. وكان ابن خلدون قد قال (لو أعربت خربت) أي 
لو حل الأعراب في المدينة فإاغم مصدر فسادها وسبب خرابها. 


أ جواد علي : المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - بيروت : 19108 ١‏ ط5 2 ج24 
ص۱۷۸ . 
" أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول - القاهرة : ١9514‏ - 
ص"١١1.‏ 

11 


وتكمن مشكلتنا اليوم أن الإنسان المديني العربي يفضل تصفية 
حساباته بنفسه لأنه لا يزال يشعر بحماية الجار وابن العم وأهل الطائفةء 
وهي الأهم من حماية الدولة المتمثلة بالقانون والجيش والشرطة. ويبرر(علي 
الوردي) هذا السلوك بأن غالبية المدن العربية كانت قرى لم تلبث وأن 
تضخمت على حساب جوارها الريفي لتضم الريفيين وقيمهم إلى دواخلهاء 
كي تخرج من ناحية ثانية “قرية منتفخة”. قرية يفضل سكانها تربية الأنعام 
على التعامل مع السيارة ووسائل النقل العام ويستبدلون الديوانيات 
بالنوادي(') ولا داعي لسرد عدد كبير من الأحداث الدموية التي عصفت 
عدن عربية بسبب تفضيل الإنسان العربي أدواته الخاصة, وهي عدالة 
البادية النابذة لمركزية وقانون الدولة والسلطة . 


وغير هذه وتلك وكما أسلفنا فإن البدوي يزدري المكان كونه يكبله 
عن الحركة والحرية في إيجاد البدائل الرعوية والإغتنام والسلب, والأهم أن 
سنن المدينة تعريه وتزدريه وتخرجه عن قانون الأخلاق حينما يسرق» بينما 
البادية تحميه بل تجعله بطلاً (عقيد) أو (نماب وهاب) أي سارق وكريم!ء 
ومحل اعتزاز قومه ونفسه. ولا نستغرب الهجومات والسرقات التي قام جا 
الجنود العراقيين على البيوت الآمنة المترفة في الكويت بعد الاحتلال البعثي 
للكويت, عام 416193٠‏ أو ما حدث بعد سقوط السلطة البعثية في 
نیسان أبريل ۲١ ٠۳‏ ودعوها الأمريكان ظاهرة (علي بابا)» التي لم تكن 
إلا مة طبيعية جيلين تربوا وسط الحاضنة التربوية السلطوية البدوية, 


' د. خد الدعمي من يحكم المدينة العربية؟- جريدة الصباح ٠۲-۰۷-۲۰۱۰‏ -بغداد 
۹۷ 


وأمست السرقة شيمة ومحل فخر. وهذا ما حدث تباعا خلال الحرب 
الأهلية (ه٠٠١-01)‏ التي دعيت "بالطائفية", حينما بدأت جماعات 
سنية فاقدة للسلطة والامتيازات السابقة قتل بعض الشيعة» فهاجمت جموع 
أحياء الفقراء (الشيعة) بيوت وأحياء الأغنياء (السنة) على تخومهاء بحجة 
"الحمية المذهبية"» لكن القبلية البدوية والنهب كانت متها الغالبة متبرقعة 


بالدين وهو براء. 


وهكذا فإن الخلل الحقيقي في عدم ائتمان الحل الغربي للتخطيط 
الحضري نجده هنا غوذجياً. حينما فشل مخطط دوكسياديس الأمريكي 
لتصميم مدينة بغداد في خمسينات القرن العشرين» حينما فرز الأحياء 
طبقياً» ولم يدر في خلد الرجل الغربي أنما ستكون فرصة للقصاص "الطبقي" 
خلال الانعطافات التاريخية والانكسارات الكبرى» وفرط العقد 
الاجتماعي» حينما تنقض جموع أحياء الفقراء بعقليتهم البدوية على 
المترفين المدينيين في أحياء الأغنياء (ورثة أجيال السلطات السابقة) فلا 
عقد اجتماعي ولا أمان أو استئمان في مجتمعات مازالت البداوة ترتع 


إن المكان عموما والمديني خصوصاً لا قيمة له في العقلية البدويةء لذا 
اختار الشعر والحداء (الموسيقي) كأسلوبين زمنيين للتفريغ الفني, لا علاقة 
له بالمكان مثل العمارة. وثمة بون بين أخلاقياته والحضرء ما يخلق التناشر 
الذي يخرب المكان المديني, كون قوانين المدينة نابعة من حاجة أهلهاء وهم 
مطبقين ها مدافعين عنهاء بينما لم يجد البدوي ضرورة لتطبيقهاء كوا لا 


۹۸ 


تخدمه وتدخله في نظام يزدريه ويعده دعة وترفا؛ فنظافة الشارع لا تعنيه 
البتة مثلاً. ونذكر قصة الأعرابي الذي دخل وتبول في مسجد الرسول 
الكريم (ص)» كونه يعتقد نفسه مازال وسط كنبان الرمل فلا وازع ولا رادع 
لممارسة تخص الحضر. 

ونجزم بأن تصفية العقلية الحلية من أدران ورواسب البداوة في 
النفوس» هو الحل لكثير من معضلاتنا في الثقافة والسياسة والاقتصاد, 
وهذا يحتاج إلى وعي وإرادة وتطبيقات قانونية تخلق حالات اجتماعية 


جديدة تسير بعيدا عما جلبته البداوة من وبال. 


18 


٣‏ المكان الحضري والتراث 
وشم 
٥‏ التراث السابق 


٥‏ مدائن الإسلام 


ه جذور المنهج البحثي للمدن 

0 تداعيات الحداثة الحضرية 

التراث هو الإرث الفكري الذي وصل إلينا بشكل مداميك متراكبة 
على مر العصور وما زال يرتع في كل ثقافة وبميزها عن سواها؛ فهو موروث 
من السلف للخلف حاضر وشاهد على عديد من الممارسات ومنها 
العمران والعمارة والفنون. وتبقى المدينة حافظته وحاضنته أكثر من 
البيئات الأخرى. 


والتراث مفهوم حدائي بالرغم من "سلفيته", فلم يتداول فيما دون في 
الحقب الماضية ومنها الإسلامية» التي وردت مرة واحدة فقط في القرآن 
الكريم بمعنى الميراث "وتأكلون التراث أكلاً لم" (') بمعنى ما يتركه الإنسان 
بعده» وهو يشمل الال والأحساب. وكذا الميراث الديني والثقافي 
المتشعب. ويعني وراثة العلم والفضيلة دون المال عند المتجردين من زهو 
الدنيا والزاهدين بما. 


أسورة الفجر - الآية9١‏ 


وأهم ما توارثناه عن الأسلاف هو التراث المخطوط بالأمس» 
والمطبوع اليوم والرقمي اليوم وغد. وقد تحقق من خلال ثلاثة عناصر: 
مواد ووسائل يكتب باء وأناس يعرفون الكتابة» وتراث فكري حرص 
الناس على تدوينه وتداوله, ليكون شهادة على حقبة ومنهج للتفكير, ينفع 
في تراكم الخبرة للبشر بغرض الارتقاء. 


ونجد في الشرق القديم أمكنة موغلة في القدم» مازالت حية تسكن, 
مغل أريحا وأربيل ونينوى وبعلبك والقدس ومكة المكرمة ودمشق وصنعاء. 
ومنها ما حال إلى أطلال مثل أور وأوروك وبابل وطيبة وبعلبك ومأرب 
ولبدة وقرطاجة وتيبازة وشرشال ووليلي» ومنها من نشط قبل حلول 
الإسلام بعدة قرون با دعي (مدن القوافل) مثل تدمر(باليرا) والحضر 
والحيرة والبتراء ومدائن صا التي لم بمكث منها غير حجارقا التي تدلل 
على مواضعها ونفحات الروح والعمارة والفنون في جنباتها. 


التراث السابق 


ويعد التراث المديني والحضري الموجود في المكان وثيقة مقروءة دون 
أن توصف في مدون» فهي ملموس» بمكن أن يخضع لمنهج التحليل 
والدّرسء ويكون مادّة وعلم متماهياً مع معطيات الحاضر التي أفرزت علم 
العمران» كونه ظاهرة لانعتاق الإنسان من التوحش للحضارة في المكان من 
خلال تغيير سماته الفطرية التي انعكست على الإنسان نفسه تباعاً. 
والبحث في ذلك التاريخ يغوينا إلى سبر أغوار المّون قبل وبعد علم 


الحفريات (الأركيولوجيا)(') الذي نشط في الغرب منذ ثلاثة قرون ولدينا 
منذُ قرنين» وقدم خدمات كبيرة للعلوم والفنون» وكشف الكثير نما يتعلق 
بالظاهرة العمرانية» وأثبّت أو دحض بعض الحقائق أو المبالغات التي وردت 
في الصحائف القدبمة ولا سيما في التوراة (العهد القديم) التي اعتمدها 
الغرب مصدراً فرداً في قراءة التاريخ من خلال هيمنة رأس الال اليهودي 
على الحياة العلمية والبحوث التاريخية في الغرب خلال قرون ما بعد 
النهضة (ق5١م).‏ ومن هذا المصدر غير الرصين استقث معلومات المدن 
حيثيات تاريخهاء حتى أن بواكير النشاط الحفري في الشرق القديم اعتمد 
بالكامل على الأسماء الواردة في النصوص التوراتية مغل أور وبابل ونينوى, 
وحتى سومر التي وردت بصيغة سهل (شنعار 021نط5 - وبالعبرية: ”«االاد) 
والتي يعتقد أصلها (شيني ناهاروت) أي النهرين أو من (شيني آرم) أي 
المدينتين أو من كلمة سومرو أكاد. 


وعلى أثر تقاعس الوعي في الثقافة العربية اليوم, يحدوا بنا تقليب كل 
معلومة تردنا من الغرب "بما بخص تراثنا على الأقل". فئمة خلط وتزوير 
وتدوير, قلبتها من الصالح للطالح ومن الحقيقة للأسطورة» وتركتنا رهائن 


أ علم (الأركيولوجيا 839 35126010) ورد من اليونانية من كلمتين الأولى (أرك- أرخ) وتعني 
تاريخ أو أرخ كما في العربية» والكلمة واردة من اسم القمر(أرخا) في اللغة الأكدية التي كانت 
تؤسس للتقاويم ومنها حى تسمية (أربحا- أريخا) وتعني مدينة القمرء ومنها استلت مجازا كلمة تاريخ 
و(لوجيا) وتعني علم. وقد ترجم إلى علم الآثار أو الحفريات, وكان يجد أن يرجع الى الأصل الأكدي 
للمفردة أي قبل الاقتباس اليوناني. 

1۰۲ 





للمراجعة الشاملة» التي سوف يصب في صالح تغيير مسار قراءة التاريخ 
المشكوك به. حيث يرد عند الغربيين أن أول من اعتنى بنشوء الحضارات 
هم الغربيون ونشوء المدن وتنظيمها هم اليونان التي وجدت في صحائفهم, 
رغم أن الحضارة الإسلامية من حفظت تاريخ اليونان الذي لم يجدوا جل 
نصوصه الأصلية('). ورغم أنما انطلت على مهزوزي الثقة بثقافتنا وتراثناء 
لكنها انجلت تباعاً. وذلك بعد صعود نجم علم الحفريات (الأركيولوجيا) 
الذي أثبت من خلال رقَمْ طيني مفخور 625166 مرقون حوالي العام 
٠‏ ق.م يحمل تخطيط مدينة نفر(نيبور) السومرية تبين الحالة 
الطوبوغرافية ومواضع الأسوار والمعابد والشوارع بمنهجية تقترب من مناهج 
الإسقاط والتخطيط المعاصرة. 


ونجزم أن لا يكون منتج كهذا دون منهج واع تحضيري وتنظيري. أما 
ذكر المدن وهيئتهاء فقد ورد من نفس المكان اهاب أو اقتضاب» لشرح 
حيثيات المدينة والموقف الروحي أو الاجتماعي أو السردي المتعلق 
بأحداث وأساطير كما في ملحمة كلكامش. ونجد في الملحمة تفاصيل عن 
حياة المدينة» وقد تبين اليوم أن كلكامش نفسه ليس شخصية أسطورية بل 
كان الملك الرابع لأوروك (الوركاء), وعاش بحدود العام ٠٠٠۰‏ ق.م, 


' أطلقوا على تلك الصحائف اسم ديفيري (1(01112651) وهي كلمة دفتر بالفارسية وعن الفرس 
أخذها العرب تباعا. 
1۰۳ 





وتشعب وتواتر تناقل قصته بمرور الزمن» حتى كتبت في أشور بعد ألفي عام 
0 

وني مصر القدبمة نجد أقدم المدن هي أبيدوس sءهلوطا۸A‏ 
(بالهيروغليفية: "أب- ب- دجو") وتقع غرب سوهاج وهي أقدم عاصمة 
لمصر العليا في تحاية عصر ما قبل الأسر الأربع الأولى» وتعود إلى حوالي 
٠‏ ق.م أي بعد أوروك بستة قرون. وثمة من بحث في الأصل 
السومري للحضارة المصرية ومنه سياق تأسيس المدن('). وتقع أبيدوس 
اليوم بين أسيوط والأقصر بالقرب من قناء ويطلق عليها العرابة المدفونة 
بجرجا وتبعد عن النيل ‏ ميل. وكانت مدينة مقدسة أطلق عليها الإغريق 
تنيس("). ويوجد با معبد سيقي الأول ومعبد رمسيس الثاني. وكانت 
المدينة المركز الرئيس لعبادة الإله أوزوريس. ويحج إليها قدماء المصريين 
لييكوا الإله أوزوريس حارس الحياة الأبدية وإله الغرب (*): كما الولولة أو 


' كشف عن كلكامش أول مرة حين اكتشفت مكتبة نفر (نيبور) ثم في مكتبة آشور بانيبال» ويبدوا 
أا أثرت على أساطير الدنيا ومنها الإلياذة والأوديسه لهوميروس, وربما هو نفسه (ذو القرنين) 
الوارد في الذكر الحكيم» وكلمة كلكامش مركبة (كول- كاموش) أي رأس الجاموس . 
" نجده في كتاب (الأصول السومرية للحضارة المصرية) لمؤلفه ل أ.وادل. 
" توجد في الجزائر مدينة قديمة وفيها آثار بقيت محتفظة بهذا الاسم» وتقع بين وهران والعاصمة 
الجزائر إلى الغرب. 
وهذا الطقس مطابق لطقوس البكاء (الولولة 5111328 )على تموز في شهر( أيلول) بالعراق 
القديم, الذي احتفظ بالتسمية الأولى بسبب هذا الطقس. وهو محاك لطقوس عاشوراء اليوم في 
نفس البيئة» ولكن البكاء على الإمام الحسين وتعزية الزهراء فاطمة (ع) بمكان عشتار. 

6 


المناحة على عشتار في الخريف (منها جاء أسم أيلول). واشتهر الكثير من 
ملوك المدينة برمسيس على اسم مؤسس الأسرة. 


وثمة أسماء مصرية ذات أصول عراقية مثل النيل الذي انحدر من 
قدسية الآهة (أنليل)» أو اسم مصر نفسها التي وردت بصيغة (مشر) في 
اللغة الأكدية ويعني البلد أو المكان أو حتى المكان المحصن الواقع بين 
أرضين ومكانين. ونجدها باللغة الأكدية = مصري , والآشورية = مشرء 
والبابلية = مصرء والفينيقية = مصورء والآرامية = مصروء والعبرية = 
مصراييم. أما مصر من في العربية» وجمعها "أمصار" تعنى المدينة الكبيرة. 
وتقام فيها الدور والأسواق والمدارس وغيرها من المرافق العامة (راجع 
المعجم الوجيز مادة م ص ر). 


ومن المدن الكبيرة التي تحمل اما شرقيا (أكدي أو كنعاني) هي مدينة 
طيبة وتعني (الأرض الطيبه)ء والتي عدها المصريون القدماء مع الشاطيء 
الشرقي من النيل دار الحياة ففيها يسكنون ويعيشون ويذهبون للتعبد في 
المعابد التي يبلغ عددها حوالي 2١4‏ ويطلق عليها اليوم الأقصر. ومن 
أشهر آثارها على الضفة الشرقية للنيل بمو الأعمدة بالكرنك الذي شهد 
تعديلات كثيرة عبر القرون قام بجا فراعنة كثيرون مثل حتشبسوت وتحمس 
الثالث ورمسيس الثاني وغيرهم, كما يوجد بجواره معبد الأقصر الذي بناه 
رمسيس الثاني. واسم (الكرنك) هو ظن المصريين سابقا بأنه (قصر 
الخورنق) الأسطوري» الذي حرفه الغربيون ومكثت التسمية هكذا. وجدير 
بالإشارة إلى أن الضفة الغربية للنيل عدت دار الممات» تبعا لغروب 


1۰° 


الشمس أو "مواقا" فكانوا يبنوا فيها قبورهم» ولم يبنوا بجا مدن للعيش. 
لذلك نجد وادي الملوك في غرب طيبة مع عدد قليل من المعابد. أما المعابد 
الكبيرة ومن ضمنها الكرنك فكانت في مدينة الأحياء على الضفة الشرقية 
للنيل. 


ومن النصوص المتعلقة بوضع المدن نقرأ في لقى حفريات سومر 
نصوص شعرية قديمة تعود إلى بدايات الألف الثالثة قبل الميلاد تصف 
أحوال المدن. نقرأ سرداً شعرياً يصف هجوم القبائل الگوتية (الكوشية أو 
الغوتية) المحمجية نحو العام ٠٠٠١‏ ق.م, والتي نزلت من شال شرق 
العراق عبر جبال زاگروس (الصغيرة)» واحتلت مدن الرافدين وعاثت بجا 
خراباً ولا سيما عاصمة البلاد (أكد). والتي لم يعثر عليها حتى اليوم 
ويمكن أن تكون تحت إحدى مدائن العراق الحالية. ومن سياق الوصف 
الوارد في النص نجد أن رجال الدين وكهنة المعبد الأكدي وقفوا إلى جانب 
المهاجمين الكوتيين "مثلما ديدن الاحتلالات". ونجد نصا يبرر موقفهم 
هذاء بما يكشف أمراً اجتماعياً جديرا بالمعاينة والعظة. ولنا أن نستقرئ أن 
الجهاز الكهنوقٍ كان قد تضرر من وجود حكومة مركزية فرضت مجموعة 
من الضرائب الالية ذات طبيعة دنيوية للصالح العام على حساب 
الضرائب الدينية التي كان يدفعها الشعب إلى المعابد على شكل "زكاة", 
وقرابين» ونذور» ومن هنا فقد تآمر رجال الدين» أو "بعضهم" مع أعداء 
البلاد من أجل أن تسترجع الطبقة الدينية دورها الطفيلي ثانية» في ظل 
دولة ضعيفة عسكرياً. فما أشبه الأمس باليوم. ويؤكد أنانية الإنسان 
وصراع القيم الحتدم داخله» وطفوح الحاجة لسطوة الإيمان والوعي وترويض 


١ 0 


الغرائز, التي أوجدتّا الفلسفات والأديان الإصلاحية. وني السياق نجد 
أحداث ذلك الاحتلال» نصاً: 


(إنليل). 


عسى أن يعود آجرك ملعونا من (أنكي). 


عسى أن تعود أشجارك إلى غاباماء ولتكن أشجارا ملعونة من 


عساك تذبحين زوجاتك بدلاً عن أكباش الفداء! عساك تذجين أبناءك 
بدلة عنها. 


فقراؤك؟ عسى الجوع يجبرهم على إغراق أطفاهم الأعزاء. 


يا أكاد, قصرك المشيد بالفرح عساه يتحول خراباً محزناً وحيث كنت 


تقيمين شعائرك. 


النعلب الذي يسكن الخرائب عساه يهز ذيله. عسى قنوات مراكبك 
لا ينبت فيها سوى الأعشاب الضارة, وعسى طرق مركباتك لا ينمو فيها 
سوى (القصب المسيل للدمع). 


وفوق ذلك, في مكان جر القوارب والرسو عساه لا يقدر إنسان أن 
يسير بسبب الماعز الوحشي والديدان والأفاعي وعقارب الجبل. 


وسهولك حيث تنمو النباتات المسرة للقلب عساه لا ينمو سوى ( 
قصب الدموع). 


يا أكاد» بدل مياهك العذبة الجارية عساها تجري المياه المرة. 
ومن يقول: (أريد أن أسكن المدينة) لا يجد مكانا صالحا للسكن. 


ومن يقول: (سأضطجع في مدينة أكاد) لن يجد مكانا صالحا 
للنوم(' ). 


ونجد من أقدم القصائد المعروفة في التاريخ المكتوب على لوح من 
الطين لعل كتابتها كانت جدود العام ۲۸٠٠١‏ ق.م يرثى فيها الشاعر 


"وا أسفاه! إن نفسى لتذوب حسرة على المدينة وعلى الكنوز 


' د. طه باقرء د. فوزي رشيد, د. رضا جواد هاشم- تاريخ إيران القديم- مطبعة جامعة بغداد- 


١ 
۱۰۸ 





وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على مدينتي جرسو "لكش" 
وعلى الكنوز 


إن الأطفال في جرسو المقدسة لفي بؤس شديد 


لقد استقر "الغازي" في الضريح الأفخم 

وجاء بالملكة المعظمة من معبدها 

أي سيدة مدينتي المقفرة الموحشة متى تعودين؟" 

وفي مسرح (لكش) المكاني؛ وني سياق سيرة ونصوص الملك "المعمار 

المستنير" (گودیا 62 الذي كان نفسه حاكم مجمع مدائن لكش 
[gas‏ بين أعوام (4 7١714 . 7١84‏ ق.م) وكان يكني نفسه (حمار 
الشعب) أي خادمهم. وقد عثر على تمائيله من الحجر الأخضر المائل 
للسواد "الديورايت" في مدينة گرسو 011501 المسماة (تلو) إدغاماً لكلمة 
رتل اللوح) القريبة من واسط الإسلامية» بعدما استفادت واسط من 
أنقاضها. وقد أسس لدولة سومرية جديدة بعد زواللها مع الأكدية على يد 
البداة الكوتيين. فقد قدم گودیا تمائيله للآهة ننکرسو (uیانعہ۸)‏ 
ووجدت في معبده» الذي ادعى أنه بناه بأمر من الآلحة, الذي ظهر له في 
المنام في صورة الطائر أنزو('), وخططه على حجره في أحد التماثيل التي 
يلاحظ أن إسقاطها يحاكي بالتمام المنهج الذي نتداوله اليوم في الإسقاط 


أ هذه نفس القصة الأسطورية التي يتداوها العامة في أكرا بالمند, عن أن تاج محل كان قد ورد بميئته 
هذه في منام الملك المغولي جهانكير» ووجد طفلا ضمن التبارين في التصميم الذي اختفى بعد أن 
عرض التصميم» الذي اتخذه الملك بعد ذلك. 

۰۹ 


المعماري» ونعدها ريادة سبقت اليونان بألفي عام على الأقل. وكتفظ 
متحف اللوفر في باريس اليوم (القاعة العراقية) على ثانية تمائيل لكودياء 
من ثلاثين له» بعضها مقطوع الرأس» وقد عبشت با أيادي الأزمنة 
والإنسان. أما التماثيل الكاملة فيظهر كوديا يضم كفي ذراعيه إلى صدره 
بوقار وسكينة, ويسدل رداء الرهبان المتواضع إلى قدميه دون صولجان 
وطقوس ملوكية» ويعتمر بعمامة دائرية واسعة مازالت متداوله في العراق 
حتى اليوم تدعى (الجراوية). كل ذلك شله مجموعة مدونات على رقم 
أسطوانية دعاها الحفريون (إسطوانات كوديا )Goudea cylinder‏ التي 
دون با أحلامه متضرعا أن تعينه الآلحة على أن يبني لفقراء تملكته مساكن 

ونظن أن تلك النصوص التراثية تعد باكورة التنظيرات عن المدن 
والعمائر في التاريخ البشري» ناهيكم عن مفهوم تدخل الدولة لمساعدة 
أصحاب الدخل الحدود لبناء مساکنهم. 


وكوديا يقابل تقريبا المعمار المصري (أمحوتب) (')» في زمن الملك 
زوسر (.*757ق.م - ١751ق.م)‏ من الأسرة الثالثة التي حكمت 


' يعد أمحوتب من أهم الشخصيات المعمارية في التاريخ» وكان وزير زوسر وحمل ألقابا منها ناظر 

القصر و(تي بي خرن سو) وقد قدسوه اليونان وعدوه إله الطب والشفاء نظرا لقوة معرفته في الطب 

والتحنيط والروحانيات. ومن أهم منجزاته ارم المدرج الواقع على مسافة ميل من جرف سقارة 

ليبتعد عن باقي المقابر» ويتكون من ست مصاطب غير متساوية وبارتفاع يبلغ 57 مترا ومكسو 

بحجر جيري أبيض, أما من الداخل فيتكون من شبكة ممرات ودهاليزء أما غرفة دفن الملك فبنيت 
11۰ 





مصرء والذي بنى ارم المدرج (للملك زوسر) في جرف سقارة» ويعد هذا 
الحرم القبر الملكي التذكاري الأول وأحد أقدم الأبنية الحجرية في مصرء 
وبني بعد اقدم زقورة في العراق بحوالي أربعة قرون (') وقد حاول عدد من 
الباحثين والمستشرقين الربط بين شخصية البي يوسف (ع) وبين "أمحتب" 
أو "الملك إخناتون". 


لقد حدث أن اقتبست التوراة (العهد القديم) بأمانة أو تحريف أو 
انحياز أو مبالغة الكثير من تلك المعطيات حتى أترعت بأخبار المدن» 
وأمست تحمل صفة القداسة تباعاً» بالرغم من ورودها من نصوص سابقة 
غير مقدسة. وبالرغم من ذلك فإنها حفظت الذكرى قبل أن تحل الحفريات 
الحديثة» التي كشفت معاوها الكثير من تراث المدن المكتوب» بالرغم من 
التناقض الصريح بين تواريخ العهد القديم والتواريخ الحقيقية التي أثبتتها 
بحوث الحفريات من خلال تجريب عنصر الكاربون 5 ©١‏ في حساب عمر 
الأشياء. 


ومن الأمور التي أثبتت هزاها نضرب مثل قصة هيكل سليمان في 
مدينة القدس (أورشليم)» والذي بنيت عليه اليهودية يقينا روحياء 
وتمخضت من جرائها وني سياقها الصهيونية اليهودية والمسيحية السياسية 


من الكرانيت والرخام . وهنا نرصد التشابه بين كلمة سقارة وزقورة وهو المعبد العراقي المدرج» فهل 
ثمة خيوط بالية تربطهما؟. 
١‏ أحمل شكا في أن تسمية سقارة واردة من كلمة (زقورة) ولاسيما أن الحيئة المعمارية للهرم المدرج, 
حاكية لشكل الزقورة العراقية» وهذا يحتاج الى بحث في الجذور المهاجنة بين العراق ومصر القديمة, 
الذي لا يستسيغه الغربيون كثيرا!. 

۱۱۱ 





(التوراتية) التي تروج ها اليوم. وذلك السياق التوراتي» أثبتت الحفريات 
اليوم نفيه» وليس له علاقة بمدينة القدس الفلسطينية البتةء وربما يكون في 
مكان آخر على المعمورة, ويحتاج إلى بحث وتدقيق ودحض, وثمة إشارات 
الى أن مسرح التوراة ا مكانن يقبع جنوب الجزيرة العربية وربما اليمن وليس 
فلسطين» ويذهب آخرون إلى أن مدينة سليمان تقع جنوب العراق (حوالي 
موقع واسط الإسلامية) سيراً على حقيقة وجود إبراهيم ويعقوب وقصة 
موسى وأساطير التوراة» وإشارة عن أن أبواب مدينة واسط انتزعت من 
تلك المدينة» ووظفت في بغداد العباسية المدورة» ثم قصور البويهيين في 
الشماسية ثم اختفت أخبارها. ناهيك في كثير من الإشارات الروحية الرامزة 
التي تحتاج إلى تأويل معمق له صلة بالمكان بحسب معطياته التي أملت على 
عقليه قاطنيه, وهذا يحفزنا إلى ترتيب الأمور بسياقاتها التاريخية بحسب 
معطيات العلم الحديث ولاسيما علم الحفريات (الأرخ- لوجيا)» لدشذها 
ونخلصها ما علق بما من الأساطير بحقيقة تراث المكان('). 


ويعد ما عثر عليه من مدونات تعود إلى بداية الألف الثاني قبل 
الميلادء ما وسع آفاق المعلومة عن التراث العمراني حيث حوت الكثير من 


' سبق ونشرت في مجلة عمران العدد۷» الصادرة في غزة - فلسطين بحثا عن (هيكل سليمان بين 
الأسطورة والحقيقة) وسأضمنه كتابي القادم (المدرك والمستدرك في تاريخ العمارة) بعون الله. وهنا 
جدير أن نشير إلى أن اللبناني كمال صليب طرح نظريته منذ العام ۱۹۸۳ بأن التوراة كتبت في 
جنوب الجزيرة العربية» وثمة رهط من الباحثين ومنهم العراقي فاضل الربيعي مستندا على بحث 
سابق» يثبت بالدليل وجود الأسماء والاماكن في اليمن حصراء أي دولة اليهود الأولى كانت في 
اليمن وليس في فلسطين كما يدعي الصهاينة. 

1۱۲ 


أسماء ملوك السلالات الحاكمة, وأخبارهم. ووردت المدونات والنقوش 
المصرية التي احتوت بيانات عن المدن» وما يتعلق بالصلات الحضارية 
والأحداث السياسية والعسكرية» ونجد من مؤرخي تلك الأزمّنة من أهتم 
بحياة المدينة واختص بأحداثها وسيّر ملوكها ورجالاقا ومنجزها العمراني 
إبان الحقبة البطلمية اليونانية» ومنهم بطليموس وبليني وإسترابون وديودور. 
ولم نعثر على مدونات الفلاسفة مغل أرسطوء, وأفلاطون في ذلك. 


وشاع في الغرب مصداقية مدونات هيرودوت اليونافي(') بما بخص 
المكان الحضري في الشرق القديم, وهو من رجال القرن الخامس قبل 
الميلاد. ووصف في كتابه مشاهداته» ورعا جمعها ضمن ما مع عن أخبار 
الرافدين('). ويذهب بعض الباحثين إلى أن الكتاب اليونان والرومان 
القدماء الذين شرحوا الظاهرة المدينية» استندوا فيما كتبوه إلى مؤرخ بابلي 
امه (بروسوس) أو امه البابلي (برشوحا)» من أهل القرن الرابع قبل 
الميلاد. ذكر أنه دوّن فيه أخبار ملوك وحياة الناس في بابل» نقلاً عن 
سجلات قديمة كانت في عهدته, حيث كان كاهن معبد (بل) في بابل» وقد 


' هيرودوت أو هيرودوتس 127727200120175 باللغة الإغريقية مركب من لفظين هما " : هيرا 
" الإهة اليونانية الشهيرة و"دوت" أو "دوتا" بمعنى أعطى أو أهدى فالاسم يعني هدية هيرا أو عطاء 
هيرا . عاش هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد 484) ق.م. - حوالي 4758 ق.م. في 
هيرودوت في هاليكارناسوس وهي إحدى بلدان جنوب غرب آسيا الصغرى (تركيا الحالية على تخوم 
أزمير). 

' اسمها اليوناني ميزوبوتاميا (021112م171650): وهي مركبة من (ميز) ويعني وسطء و(بوتام) وتعني 
الماء أو الأغار» وقد مكثت تلك التسمية متداولة في المدونات والمراسلات الغربية حتى بعيد 
تاسيس الدولة العراقية عام ٠۹۲۱‏ . 

1۳ 





أشار (برشوحا) إلى ذلك بقوله: إن كاهناً قدماً امه (اکسیسوتروسن)» خبأ 
في بعض ثنايا المعبد السجلات المسطر عليها تاريخ الخليقة» وأخبار الأيام 
الخوالي» وقد فقد هذا الكتاب» ولكن (يوسينوس) اليهودي. 
و(أوساسيوس) و(كليمنسوس) و(شنسليون) اليونانيين نقلوا عنه فصولاً 
عديدة. وقد استند (ديودور) الصقلي إلى (إكتازياس)» طبيب الملك 
(ارتخششتا) الثاني (ه.4 - ٠١۹‏ ق.م) والذي نقل بدوره عن الكتب 
الفارسية التي وجدها في القصر الملكي. وقد فقد هذا الكتاب أيضاًء ولكن 
(ديودور) نقل عنه فصولا عديدة أيضاً. 


مدائن الإسلام 


وني أزمّنة الإسلام كتب المؤرخون والرحالة والجغرافيون العرب عن 
المدن كابن الأثير» والمسعودي والاصطخري» وابن حوقل ولحمذاني 
والإدريسي والمؤرخون كابن خلدون وابن الأزرق والقزويني والفلاسفة 
كالفارابي. لقد تناولت المدونات المدينة من حيث تاريخها. مبرزة فعل العقل 
الإنساني في مسيرة حركة تطورها السياسي والمدني وبحثها من الناحية 
الجغرافيا والمكانية, والتارعخية, وغيرها من الأمور المتعلقة بمسيرتًا وتشكلها. 
وهنا نشير إلى أن كثير من أخبار المدن القديمة كان متناقلة شفاهياًء أو من 
شحيح ما دون أو من نصوص الكتب الدينية» لذا أترعت بالأساطير 
والأسماء المشوهة؛ لذا لا يمكن قبول كل ما دوّن في تراثنا واقتبسه وصنفه 
المستشرقون. وردده المستغربون وكرسته (المركزية الغربية)» فغمة أخطاء 
كثيرة فيما كتب عن الآخر المكاني. وحري إعادة اكتشاف والتحقق من 


NE 


كثير جما كتب ومقارنتها مع معطيات الراهن» ولاسيما الحفرية منهج 
استقرائي ينطلق من المفردات للعموميات» بعدما جربنا الاستنباط 
والشموليات التي أضاعتناء حينما أملينا حالة العموم على الفرد» بل غاب 
الفرد. وقدمنا الملوك والساسة وحقبهم وسلالاتهم على جهد الشعوب 
وخبراقاء لذا فكتابة التاريخ المديني يحتاج إلى الدقة في تقصي الجذور 
الروحية والاجتماعية واللسانية والعقلية للنقافات 


ونجد بواكير التدوين العمرانى قد وردت عند شهاب الدين أحمد بن 
د بن الربيع (ت ۲۷۲ ها -888 م) في مؤلفه (كتاب سلوك المالك 
في تدبير الممالك على التمام والكمال)('): و كتب هذا الكتاب للخليفة 
العباسي المعتصم بالله( ")» حيث وضع شروطاً لإنشاء المدن (ما يحب على 
من أنشأ مدينة أو اتخدّ مصر ثانية شروط)ء ووردت من التراث كذلك 
مؤلفات الماوردي: في كتابه (الأحكام السلطانية والولايات الديوانية), وكذا 
(كتاب السياسة) لابن حزم ثم ابن الأزرق في كتابه (بدائع السلك في 
طبائع الملك). ووثيقة ابن الرامي التاريخية (كتاب الإعلان بأحكام 
البنيان), وكتاب المقدسي (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم), وكتاب 
المقريزي (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار). وكتاب المقدسي 
(أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم)؛ أو كتاب ياقوت الحموي (معجم 
البلدان). 


' حقق الكتاب وطبع أول مرة في القاهرة عام ۱۲۸۰ھ 595١م‏ 
" استخلف بين أعوام (915-/1؟ ١ه ٤۲-۸۳۲‏ ۸م) 
11٥‏ 





وتردنا أخبار عبد الرحمن بن خلدون (۸۰۸-۷۴۳۲ھ 1١7‏ 
20 م) الذي نعده آخر مؤشر للصعود الحضاري الإسلامي» ولخص في 
كتابة (المبتدأ والخبر في أخبار العرب والبربر ومن عاصرهم من السلطان 
الأكبر), ولا سيما في جزءه الأول أفكاره حول منهجية قراءة التاريخ, 
ليس كأحداث وإنما متعمداً على مبدأ السبب والنتيجة أو العلة والمعلول 
الفلسفي. وفسر حركة الشعوب والدول بين شوطي البداوة والحضارة. ثم 
تطرق إلى نشأة المدن ومواقعها وتطورها بما أطلق عليه علم (العمران) 
الذي أمسى اليوم (علم الاجتماع - سوسيولوجيا). ومن آراء ابن خلدون 
في نشأة المدينة: (إن الدولة والملك للعمران بمنزلة الصورة للمادة» وهو 
الشكل الحافظ لنوعه وجودهاء وانفكاك أحدهما عن الآخر غير تمكن على 
ما قرر في الحكمة. فالدولة دون العمران لا تتصور, والعمران دوا متعذر, 
كما تقدم» وحينئذ فاختلال أحدهما مستلزم لاختلال الآخرء كما أن 


عدمه مؤثر في عدمه)(') 


بيد أن ابن خلدون أشار بعرفان لمصدر سابق ورده من الطرطوشي 
(أبو بكر جد بن الوليد ت ١٠هه‏ / ١١75‏ م) ولعله المفكر الوحيد 
الذي اعترف له ابن خلدون بالأسبقية والريادة» رغم نقده لمنهجيته في 
الوصول إلى نتائجه في كتابه (سراج الملوك). لقد أدرك الطرطوشي العلاقة 
السببية بين الظاهرة الاجتماعية والواقع السياسي وآثارهما النفسية 
والعقيدية والأخلاقية والتربوية» حيث ذكر (لا سلطان من غير جند, ولا 


' عبد الرحمن بن خلدون - المقدمة - ج۳ - ص .81١‏ 
۱٩١‏ 


جند إلا بمال ولا مال إلا بجباية (ضرائب) ولا جباية إلا بعمارة (إنتاج 


حيوي) ولا عمارة إلا بعدل» فصار العدل أساسا لسائر السياسات). 


ووجد في الترف والفساد والظلم علامة على التراجع» ففي السلطان 
الجائر تفسد البلاد والعباد وها كان العدل أساس الملك, ولا عدل إلا مع 
نظام» به يكون كبير الرعية أباً ووسطهم أخاً وأصغرهم ابناً كان لا بد من 
وعي هذه المعادلة(') 


ومن التراث نستقي رأي القزويني في شرح الجدوى من الاستئناس 
والاجتماع البشري في المكان ذاكرا: (إن الشخص الواحد كيف يتولى 
الحراثة فإنها موقوفة على آلاتما وآلاتما تحتاج إلى النجار والنجار يحتاج إلى 
الحداد وكيف يقوم بأمر الملبوس وهو موقوف على الحراثة والحلج والندف 
والغزل والدسج وهيئة آلاتًا فاقتضت الحكمة الإلحية الحيئة الاجتماعية 
وأهم كل واحد منهم القيام بأمر من تلك المقدمات حت ينتفع بعضهم 
ببعض فترى الخباز يخبز الخبز والعجان يعجنه والطحان يطحنه والحراث 
بحرثه والنجار يصلح آلات الحراث والحداد يصلح آلات النجار» وهكذا 
الصناعات بعضها موقوفة على البعض) ويذهب القزويني أبعد من ذلك 
حينما يبين الصفة العضوية للمدينة ونشوئها مثلما هي الكائنات» فكتب: 
(وعند حصول كلها يتم الميئة الاجتماعية ومتى فقد شيء من ذلك فقد 


' أبو بكر ند بن الوليد بن خلف المعروف بأبي بكر الطرطوشي فقيه مالكي أندلسي عاش في 
القرن الخامس الحجري - الحادي عشر الميلادي. وهذا ما ورد في كتابه (سراج الملوك في سلوك 
الملوك). 

YY 


اختلت الحيئة الاجتماعية كالبدن إذا فقد بعض أعضائه فيتوقف نظام 


معيشة الإنسان) .)١(‏ 


ونجد ما دونه ابن الطقطقي في العلاقة بين المدينة والسياسة» وهو 
صاحب كتاب (الفخري في الآداب السلطانية)(') الذي سماه ابن عنبه 
(منية الفضلاء في تاريخ الخلفاء), وأهداه ابن الطقطقي إلى أمير الموصل 
(فخر الدين عيسى بن إبراهيم) مع مطلع القرن الثامن المحجري الخامس 
عشر الميلادي» ليكون دليل عمل له في (الذكر الحسن)» إذا ما أراد مكانة 
كريمة في التاريخ أوجز فيه قوانين النشاط الاجتماعي - السياسي 
(العمراني) الناشئة عن صراع (تنافس) ديني - اجتماعي لا خشية منه إذا 
جاء توافقياً متسامحاً. وصراع (تنافس) قومي - عقيدي (عقلاني) على 
قاعدة (اختلاف أمتي رحمة), يعترف من خلالها بحق الاجتهاد والتنوع 
وتعدد سبل الحقيقة بين العلماء. والصراع الإيجابي عنده, هو صراعاً 
تكاملياً يؤمن بأن لا إزدهار عمراني من غير تكاملية قوة (السيف والقلم) 
و(إرادة المفكر مع السياسي) فبغير وحدة (سلطة السياسة وسلطة القلم) 
لا سبيل إلى التقدم» مثلما على الحاكم أن يسوس الرعية بالعدل فلكل 
صنف مكانته وطريقة سياسته. وقد ربط السياسة بالأخلاق وبالعقيدة 
الدينيةء كما حذر من عدو الحاكم الذي يشعر بالظلم مع أن الواجب على 
الراعي خشية الله قائلا: "متى ما عرف الناس» أن الأمير يخشى الله أمنوه 


' زكريا بن د القزويني - آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني 
"هو صفي الدين خد بن تاج الدين الحليء ت ۸۷٠۹‏ / ۹م 
11۸ 





على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم" وتعاونوا معه» ووثقوا بقراراته واطمأنوا 
إلى أجهزته وعدالته, وليتجنب الأمير خلق الأعداى فليس هناك من خطر 
على العمران (من عدو ظلمته). 


ونجد ابن الخطيب الغرناطي من دون بالعمران ('): وهو صاحب 
كتاب (نفاضة الجراب وعلالة اغتراب) وقد قتل في سجن تلمسان لتأليفه 
كتاباً في التصوف تحت عنوان (روضة التعريف بالحب الشريف) بعد حياة 
سياسية وعلمية مشهودة في الأندلس» انتهت إلى محنته التي وثقها لنا 
صديقه الحميم (ابن خلدون)» فكان الأقرب إلى مزاج هذا المفكر 
العمراني. وشكى الأندلسي من خلال كتابه المذكور أهوال الاغتراب حتى 
انعكسّت ظروفه السياسية والاجتماعية على أرائه العمرانيةء العلمية 
والعملية. 


6 


وقد أكد على أهمية الاعتبار من وقائع التاريخ وحوادثه سلبها 
وإيجاجما. لمن وعى خبر السابقين. التعقل وتحقيق العدالة والمساواة هي 
الطريق السليم إلى الحياة الدنيوية المعتدلة. الدرس العلمي والعملي الأكبر 
في علم السياسة والحياة الاجتماعية» حيث يذكر: (إذا رأيت الأبواب 
مهجورة والدسوت لا مؤملة ولا مزورة والحركات قد سكنت فكأن لم 
يسمر سامر» ولا فى ناه ولا أمر آمر ما أشبه الليلة بالبارحة والغادية 
بالرائحة» والويل الويل لمن بذر أمانة الله في المساقط العقيمة» وطوبى لمن 
عرف المصير وغامض الزمن القصير, في اكتشاف غّة, أو تخليد منقبةء 


اهو لسان الدين مد بن عبد الله قتل سنة 5/ا/ا ه / ١۳۷١م‏ 
۱۹ 


بعد أن شبه إيقاع العمران مثل حال همس النهار ف(تطلعها من المشارق 
نيرة» وتلعب بما مستقيمة ومتميزة (السمت) ثم تذهب غائرة متغيرة, 
السابق عجل وطبع الوجود مرتجل والحي من الموت وجل والدهر لا معتذر 
ولا خجل)( ). 


ونجد كتابا بخص مادة المكان الحضري عنوانه (تحفة الألباب ونخبة 
الإعجاب), وجمع بين الحقيقة والخيال» تركه أبو حامد الأندلسي الغرناطي 
٠١8.١ ھ٥٦‎ ٥- ۷۳(‏ -.07١1م)المولود‏ في غرناطة, والمتوفي في 
دمشق» واشتهرٌ برحلاته التي بدأها سنة ۸١٥ھ‏ 4١١١م‏ إلى مصر ثم 
إيابا إلى وطنه برحلة أخرى سنة ١١هه‏ ۷١١۱م.‏ وزار بغداد وعاش فيها 
أربعة أعوام ومكث في الموصل منذ العام /لاههه 57١١م‏ وكتب عنهاء 
وزار إيران ووصل إلى بحر قزوين وكتب عن مصب نر الفولكاء وقام 
بثلاث رحلات إلى خوارزم. ولأبي حامد كتاب آخر هو (المغرب عن بعض 
عجائب المغرب) كتبه في بغداد» وهناك كتب أخرى تنسب له لكنها 
ليست من تأليفه مثل: (عجائب المخلوقات وتحفة الكبار في أسفار 
البحار). وني سنة ٠‏ هه 17١١م‏ دخل أرض البلغار أي بلاد شال بحر 
قزوين» وبعد ذلك بخمسة عشرة عاما زار باشغرد أي هنكاريا أو الجر 
حاليا. وكان بملك منزلا فيها بحسب روايته. وني هذه المدينة تزوج ابنه 


أد. علي حسين الجابري علم العمران عند ابن خلدون والدلجي - بين المنهج العلمي والرؤية 
النقدية - قسم الفلسفة - كلية الآداب الجامعة المستنصرية العراق - مداخلات ندوة بيت 
الحكمة - تونس ۱۳/ ۱۸ مارس 5.٠١5‏ 


حامد بسيدتين من تلك البلاد وأقام بجا بصفة دائمة. وفي سنة 4 ههه 
8م عاد أبو حامد إلى بغداد حيث نزل مرة أخرى في ضيافة الوزير 
العباسي ابن هبيرة. وفي غضون هذه الإقامة الف للوزير كتابه (المغرب عن 
بعض عجائب المغرب) ومن الطريف أنه أطلق على الألمان اسم (نمس- 
نمش) واقترنت بالنمسا بالتسمية التركية والعربية» وهي تسمية أطلقتها 
الشعوب السلافية عليهم وتعني الأبكم. ولم يكن أبو حامد الغرناطي 
جغرافيا أو عجائبيًا ولا رحالة فحسب» وإنما موسوعياً. ووضع قدامة بن 
جعفر المعايير التي تبين السبب في نشأة المدن وذلك في إطار فكري واسع 
بين منزلة الإنسان بين المخلوقات ويرتبط بطبيعة الإنسان وهي تعكس 
إدراك معايير الكثافة السكانية في المكان, وتنوع النشاط الاجتماعي 
واختلاف الطبقات وضرورة وجود السلطة التي تنظم وتسوس هذه الهيئة 
الاجتماعية. 


وثمة كتب في التراث الإسلامي تبحث في الظاهرة العمرانية من وجهة 
نظر فقهية أكثر منها عمرانية أو معمارية كما هو الحال مع كتاب (الإعلان 
في أحكام البنيان) لمحمد بن إبراهيم اللخمي المعروف بابن الروميء المتوى 
عام 74 ه ۱۳۳۷م وكذلك كتاب (أعلام الساجد بأحكام المساجد) 
محمد بن عبد الله الزركشي 5-1١/41(‏ لاه ٤٤۱۳۹۷-۱۳م)‏ ويتعلق 
ما اجتهده الفقهاء بشأن المساجد دون الإشارة إلى عمراتما أو عمارتًا. 
وهكذا فإن كتب التراث لم تختص بثيمة المكان حصراًء ويحتاج الأمر إلى 
بوث تشتمل شطط ما كتب وتحلله وتؤسس لفهوم المكان الحضري من 
الناحية التطبيقية. 


۲۱ 


ونجد أن بغداد أخذت نصيبها الأوفر من الوصف في مدونات 
التراث. حيث يذكرها اليعقوبي بعد أقل من قرن على تأسيسها: (وإنها 
ابتدأت بالعراق لأتما وسط الدنيا وسرة الأرض» وذكرت بغداد لأنها وسط 
العراق» وأعمر مدينة في الأرض والمدينة العظمى التي ليس لما نظير في 
مشارق الأرض ومغارجاء سعة وكبرا وعمارة» وكثرة مياه» وصحة هواء). ثم 
يتحول إلى خصائل أهلها: (فليس عالم أعلم من عالمهم؛ ولا أروى من 
راویتهم» ولا أجدل من متكلمهم, ولا أعرب من نحويهم, ولا أصح من 
قرائهم, ولا أمهر من متطببهم» ولا أروع من زاهدهم» ولا أكتب من 
:ول إفتها ين مستبي :ولا الع ام طني سولةا ماين 
شاعرهم) ('). 


وتغزل بجمال بغداد الشعراء حتى البدوي علي بن الجهم حينما 
وصف عيون الها بين الرصافة والجسر. وهنا نشير الى أن اليعقوي ذكرها ب 
(سرة الدنيا) وأطلق عليها (أم الدنيا)» وهي تسمية كانت تتمتع با بابل. 
وهكذا ومثل بابل سابقتها أديرت الخلافة من بغداد. وانصبت إليها 
الثروة» وصارت مركز الفكر والعلم» ورسمت ملامح حضارة وثقافة إسلامية 
تقع محل فخر القاصي والداني. 


وني نفس السياق يؤكد لنا (فيليب حتى) منزلة بغداد ذاكراً: ظهرت 
هذه المدينة إلى الوجود. وكأنما خلقت على يدي ساحر» فخلفت في 
عظمتها ومكانتها المدائن وبابل ونينوى وأور وغيرها من عواصم الشرق 


'أبو العباس اليعقوبي - كتاب البلدان. 


القديم, وباتت ها مكانة ورواء لا تضاهيها فيهما أيّة مدينة أخرى في 
القرون الوسطى .)١(‏ ونجد شهادة مُتأخرة يسوقها لنا السويدي إنكمار 
كارلسون عن بغداد قال فيها: (في الوقت الذي كان فيه أهل شال أوربا 
يهيمون على وجوههم من سطوة الهمجية, ويكتسون جلود الحيوانات, 
كانت بغداد بين الأعوام ۲۳۲-٥٥٦ھ‏ .ه/ا-كره؟١م‏ مركز العالم 
المستقطب وكانت تنعم بحضارة مزدهرة متطورة)("). 


وكان اختيار موقع بغداد عجيبا ولم يقع من فراغ مكاني بل وجدت 
مدينة بابلية على تخومها تعود إلى حوالي ٠٠٠ ٠‏ عاما قبلها لكن لا بد من 
الإقرار بأن اختيارها جاء بإهام وفطنة» حيث أرق تاريخ المكان صراع 
دهري بين نينوى الدجلوية وبابل الفراتية» فكانت الغلبة لواحدة على 
حساب الأخرى» حتى تأسست حاضرة بغداد التي لم تكن لا دجلوية ولا 
فراتية» ورغم قربما من دجلة لكن ماءها بأت من الفرات» فكتب الله أن 
تکون حاضرة وسطية حت اليوم بعدما تأسس العراق الحديث شه 
وجنوبها بأبعاد متساوية تقريبا. وقد أثر تصميمها تباعاً على منظومات كثير 
من المدن حتى في أوربا العصور الوسطى ولا سيما مدائن الإقطاع المدورة. 
وانعكّسن رخاؤها وبذخها الأمْر في مدائن الإسلام مثل سامراء وفاس وقلعة 
بنى حماد ومدينة الزهراء, والأخيرة شطحت بعيداً عن الزهد والمباشرة 
الذي طبع المدن الأولى الإسلام. 


'فيليب حتى - إمبراطورية العرب ص 47 4 . 
'إنكمار كارلسون- سفير السويد في تركيا - مقتبس من كتابه (الإسلام وأوربا) الصادر في 
والقاهرة 9426 -١‏ ترجمة بإشراف ”مير بوتاني. 

۲۳ 


لقد عربت بغداد الفكر. ونقلت التراث الآرامي الوارث لنتاج الشرق 
القديم الحضاري» مع اقتباسات لبيبة مكملة وليس أساسية من كل التراث 
القديم الذي أثرى التجربة وأجلى الصورة وكاملهاء ولم يشكل جوهرها كما 
يشيعه بعض المستشرقين, ثم أخذت تباعا تخلق لنفسها خصوصية عربية 
إسلامية, كان للأرث التراكمي الحلي وتجارب المهاجرين لهاء "ولاسيما 
النخب". الدور الفعال في ارتقائها. 


ومن المدن التي تراكبت تراكمياً في نفس المكان هي الفسطاط في 
مصر (وتعني الخيمة) وصفها المقريزي بأنما مدينة كبيرة في غاية العمار, 
والخصب. والطيب والحسن» فسيحة الطرقات» قائمة الأسواق. نافقة 
التجارات» متصلة العمارة, لأهلها همم سامية» ومنها خرجت الفتوح نحو 
الغرب» وانتشر الإسلام» وتعمّقت الثقافة العربية الإسلامية» ولم تزل حتى 
غلبت الدولة الفاطميّة. فأحرقها شاور الوزير الفاطمي سنة ٠٦٤‏ ه 
8 م بعد عجزه عن الدفاع عنهاء وأفنى أهلها الغلاء والبلاء (') 
ويصف الرحالة التجيبي القاهرة فيقول: "وهذه المدينة المحروسة المكلوءة 
هي الآن قاعدة الديار المصريّة, وأمّ مدائنهاء ودار إمارتّاء وكرسي مملكتهاء 


'أحمد بن ركريا المقريزي- الخطط - ج١-‏ ص١٠٤٠‏ 
€ 


وهذه المدينة المعزية كاملة الأسواق. عظيمة الترتيب» تشمل من المخلوق 
57 1 
على عدد لا يحصيهم إلا خالقهم ورازقهم( ). 


وقال ابن خفاجة مخاطباً أهل تلمسان» وقد أعجب بحسن مدينتهم: 
ما جنة الخلد إلا في منازلكم وهذه كنت لو خيرت أختار 
لا تتقوا بعدها أن تدخلوا سقراً فليس تدخل بعد الجنّة النار 


بأربع فاقت الأمصار قرطبة منهن قنطرة الوادي وجامعها 
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة والعلم أعظم شيء وهو رابعها 


وقال يوسف بن عبد المؤمن أمير الموحدين يصف قرطبة: إن ملوك 
بني أمية حين اتخذوها حاضرة مملكتهم لعلى بصيرة: الديار المنفسحة 
الكبيرة» والشوارع المتسعة, والمباني الضخمة المشيّدة, والنهر الجاريء 
وامهواء المعتدل» والخارج الناضرء والحرث العظيم» والشعراء الكافية. 
والتوسط بين شرق الأندلس وغريما (') وقال المقري نقلاً عن الحجاري, 


'القاسم بن يوسف التجيبي السّبتي المتوفى سنة 730ه الموافق لعام ١78‏ م. ورد ذلك في كتابه 
(مستفاد الرحلة والاغتراب). تحقيق وإعداد عبد الحفيظ منصور - الدار العربية للكتاب - تونس 
- ه/اوام. 
"د المنوني- حضارة الموحدين ص ۳ه - الدار البيضاء: دار توبقال للدشر - الطبعة الأولى 
8م. 

٥ 





يصوّر قرطبة حاضرة الأندلس: كانت منتهى الغاية» ومركز الراية, وأم 
القرى» وقرارة أولي الفضل والتقى» ووطن أولي العلم والنهى» وقلب 
الإقليم» وينبوع متفجّر العلوم, وقبة الإسلام وحضرة الأمام, ودار صوب 
العقول» وبستاك 2 الخواطر, وخر درر القرائح, ومن أفقها طلعت نجوم 
الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنفر, وجا أنشئت التأليفات الرائعة» 
وصئفت التصنيفات الفائقة. ووصف الحميري مدينة بلرم بأتما قاعدة جزيرة 
صقلية ومدينتها العظمى» وهى المدينة المسماة بالمدينة حسب ما عناه ابن 
رشيق في قوله في ذكر هذه البلدة: 


أخت المدينة في اسم لا يشاركها فيه سواها من البلدان والتمس 
وعظم الله معنى ذكرها قسماً قلد إذا شئت أهل العلم أو فقس 


ووصفها الإدريسي قائلا: المدينة السنيّة العظمى» والحلة البهيّة 
الكبرى» والمنبر الأعظم على بلاد الدنياء وإليها من المفاخر النهاية 
القصوى. والمياه بجميع جهات المدينة مخترقة, وعيوتها جارية متدفقة, 
وفواكهها كثيرة» ومبانيها ومتنزهاتها حسنة» تعجز الواصفين وتبهر عقول 
العارفين وهي بالجملة فتنة للناظرين. وكتب ابن الأزرق في (من بدائع 
السلك في طبائع الملك) عن التدرج في الرخاء والجدب للأماكن» وقارن 


بين فاس المزدهرة وتلمسان الأقل شأنا مثلاً في نفس البيئة المغاربيةء 
eS‏ 55 5 1 
وقارب بين إفريقية (تونس) وبرقة (ليبيا) الأقل عمرانا( ) 


ونجد تحاليل لبيبة للحالة النفسية والاجتماعية لسكان المدينة وردت 
لدى ابن الأزرق» حيث أشار إلى أهمية الرخاء في الانعكاسات النفسية 
للسكان» وكيف أن العدل والإحسان ومكارم الأخلاق تلعب دوراً جوهرياً 
في ديمومة الحياة وهنائها وأن العدل يحافظ على العّمارة, ولا جباية إلا 
بعمارة ولا عمارة إلا بعدل» وني (السياسة) بالعدل عمرت الأرض وقامت 
الممالك على مبدأ أن العدل أساس الملك. وقد نبه إلى أن فقر الناس يحول 
إلى الخصامة والتفرقة بينهم وتعاسة طباعهم ('). 


ويمكن تلمس الأمر اليوم بالمقارنة بين مدينة مترفة مثل دي وأخرى 
عالم النفس الروسي بافلوف بقرون, الذي أقام تجاربه على الغرائز» ومنها 
انعكاس الحموم والقلق النفسي على التعامل بين شرائح الخلق. 


ونجد شطط النصوص الى بمكن أن نشل مادة في معرفة أحوال 
المدن وأبعادها مثل ما ورد عن الراغب الأصفهاني حيث نقل تساؤل 
الحجاج لابن القرية عن أحوال المدن: "صف لي البصرة" قال: "حرها 


' ابن الأزرق مؤرخ وفقيه وشاعروعلم إجتماع ومنظر لتاريخ المدن أندلسي (۸۳۱ . 9ه 
٤۹٩۰-۹‏ ١م)»عاش‏ أخر أيام الوجود الإسلامي في الأندلس. 
' ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك - تحقيق د. خد عبد الكريم. نشر الدار العربية 
للكتاب. ۱۹۷۷- ج۱ صه؟5. 

۷ 


شديد وشرها عتید» مأوى كل تاجر وطريق كل عابر".. قال: "فواسط". 
قال: "جنة بين حمأة وكمأة". قال: "فالكوفة"؛ قال: "نقصت عن حر 
البحرين وسفلت عن برد الشام فطاب ليلها وكثر خيرها"؛ قال: "فالشام"؛ 
قال: "عروس بين نسوة جلوس أطوع الناس للمخلوق في معصية الخالق". 
قال: "فخراسان"؛ قال: "ماؤها جامد وعدوها جاهد بأسهم شديد وحرهم 
عتيد". قال: "فكرمان"؛ قال: "ماؤها وشل وتمرها دقل وعدوها بطلء إن 
قل الجيش ما ضاعوا وإن كثر جاعوا". قال: "فأصبهان"؛ قال: "في 
حاضرة من الأرض زائغة من الطريق الأعظم". قال: "وأحسن الأرض 
مخلوقة الري (طهران) وأحسن الأرض مصنوعة جرجان» وأحسن الأرض 
قديمة وحديثة جنديسابور وهو شر البلاد". 


ودخل بد بن عبد الملك الزيات على المأمون فقال: "صف لي 
أصبهان وأوجز" قال: "هواؤها طيب وماؤها عذب وحشيشها الزعفران 
وجبالها العسل» إلا أنما لا تخلو من خلال أربع: جور السلطان وغلاء 
الأسعار وقلة مياه الأمطار". فأطرق ساعة, وقال: "لعل تجارها مرابون 
وقراءها منافقون". وقال المأمون: "صف لي فارساً"؛ فقال: "فيه من كل 


وسئل أعرابي عن شهرزور فقال: "إن رجاها لتوق وعقاربما لبرق أي 
شائلة أذناجا". وقال في بغداد: "هى الشمطاء الحرقة والعجوز التدللة 
والعمياء المتكحلة والشلاء المختضبة, هواؤها دخان ونسيمها صدام» 


تنقبض فيها أيدي المستغنين وتصغر أنفس المفضلين» تجارها أسد مفترسون 
N 2 ٠. 5‏ 
وصناعها لصوص مختلسون, جارها حاسد ومزاجها فاسد"( ) 


وثمة أخبار المشتغلين بمواقع المدن وتخطيط المكان هندسيا في التراث, 
كما مدينة البصرة 84 ١ه‏ 55 م والكوفة “١ه‏ ۳۸٦م‏ » باكورتا 


الإسلام الحضري خارج الجزيرة على يد أبي الحياج الأسدي. ثم ورد اسم 
الحجاج أي أرطأة مخطط مدينة بغداد المدورة عام © 4 ١ه‏ 537لام. 


ونجد كذلك سيرة أولاد موسى بن شاكر أيام الذروة الحضارية في زمن 
المأمون العباسي('), حيث سمى الفكر التخطيطي وورد في أخبار تخطيط 
مدينة سامراء عام 4ه - caAT<‏ التي خطط مسجدها الجامع 


ومنارتها (الملوية) دليل بن يعقوب الكوفي النصراني. وظهرت في الأندلس 
طبقة من مهندسي المدن, منهم 0 بن عبد الرحيم المازني الغرناطي» 
صاحب كتاب: (تحفة الألباب ونخبة الإعجاب) الذي نشره المستشرق 


الفرنسي (كبربيل فران) ("). 


الراغب الأصفهانق-المصدر السابق. 
' هم خد وأحمد والحسن .أولاد موسى إبن شاكر العالم الذي مات عام 589ه . ١۸۷م‏ وترك 
أولاده يرعاهم المأمون؛ وكلف إسحاق بن إبراهيم المصعبي بالعناية بمم. كان أكبرهم أبو جعفر ج 
عالماً بالندسة والنجوم و"المجسطي" ؛ وكان أحمد متعمقاً في صناعة الحيل (الهندسة الميكانيكية) 
وأجاد فيهاء وتمكن من الابتكار فيه ؛ أما الحسن فكان متعمقاً في الحندسة. توفي أكبرهم سنة 
١‏ امم وهاه 
" خير الدين الزركلي - الأعلام م" ص١٠٠”.‏ 

۲۹ 


وجدت عند زيارتي لمدينة ورزازات المغربية لوحات تبين المسافات مع 
مدن القوافل ومنها مثلاً بينها وبين تمبكتو مسيرة 7ه يوما (). وقياس 
المسافة بالأيام أو الفراسخ (الفرسخ حوالي سبعة كيلومترات) تقليد قديم 
ورد ذكره في كتب التاريخ بأن ثمة إشارات كانت تكتب على أبواب المدينة 
تبين المسافات التي تفصلها عن المدن المشهورة» فقد نقل ياقوت قول 
الأصمعي: مكتوب على باب سمرقند بالحميرية: بين هذه المدينة وبين 
صنعاء ألف فرسخ» وبين بغداد وبين إفريقيا ألف فرسخ. وبين 
سجستان والبحر مائتا فرسخ (') ووضع أبو العباس السفّاح علامات 
الأميال على الطريق بين مكة المكرّمة والكوفة» وذلك ليتسنى للمسافرين 
معرفة المسافة التي يقطعونها أثناء سيرهم (") 


ونذهب إلى أن تراث الشرق القديم شكل أحد مناهل خطط العمران 
الذي تصاعد في الغرب لاحقا؛ فكانت الخطط الشريطية أو الشبكية بزوايا 
قائمة (رقعة الشطرنج) والدائرية ذات التقاسيم الشعاعية الحلقية» نماذج 
وردت من عمق تاريخ المنطقة في أور وبابل وطيبة وبعلبك, والمدن في أوربا 
أقامها الأتروسكيون (١2ءءu٣٤۴).‏ ويعود أقدمها إلى المائة التاسعة قبل 


رعا يتسائل البعض عن ترقيم المسافات بين المدن اليوم» وهو تقليد غربي جاء من فرنساء حيث 
تضع أمام بوابة بلدية كل مدينة حجرة تنعت بداية المسافة منها وإليها. 
'ياقوت الحموي- معجم البلدان مه -ص4 ١١‏ 
"إبراهيم الشريقي - التاريخ الإسلامي- ص ١١7‏ 
۳۰ 


الميلاد. وهؤلاء شعب رحلوا من الساحل الشامي في القرن الثاني عشر قبل 
الميلاد» وتكلموا هجة سومرية مُتأخرة» وأن روما ومدن إيطاليا نفسها كان 
قد أسسها هؤلاء القادمون مع من الشرق القديم. حيث أسسوا روما عام 
٥‏ ق.م» في سهل لاتينا كقرية زراعية تطورت تباعا لتصبح أكبر وأشهر 
مدن الدنياء ومازال اسسمها "روما" يحتفظ بدلالات لسانية قدية» حيث 
يذكر السوري عامر رشيد مبيض بأن اسمها يحاكي اسم حلب والتي كان 
امها القديم "أرمان"» وتعني تجسيداً وليس مجازاً رامي الصاعقة (أبو رمانة) 
ومنها جاءت تسمية "روما" ويدل على الآلهة حدد (هدد)» وهو بعل 
الكنعاني أو أيل الأكدي أو (اللّه) العربي. وصفته ضارب البرق كما "رامي 
الرمان"؛ وجالب الغيث ومسير السحب"('). وورد هذا الإله حتى عند 
شعوب الشمال باسم أودين» صاحب المطرقة, وجالب المطر. 


وتكمن الحقيقة أقدم من ذلكء وتقبع الى الشرق» حيث أن (حدد) 
أو (هدد) هو إله سومري» وكان يلقب ب (رمان) وهي تقابل كلمة 
(الرحمان) العربية» حيث يذهب في هذا السياق الباحث العراقي الدكتور 
بماء الدين الوردي الى أن كل أسماء الله الحسنى وردت من صفات لآلحة 
سومرية, وهي كلمات مصدرها تلك اللّغة. كتب بماء الدين الوردي الذي 
اغترب في المغرب مؤلف (حول رموز القرآن الكريم) ۱۹۸۳ ونشر 
معجما عن مقابلات للكلمات السومرية والأكدية والعربية عام 2١995‏ 
وكتاب عنوانه (قوم نوح) وهو تفسير لآيات القرآن بحسب المعطيات 


' ورد ذلك في كتابه (قلعة حلب عرش التاريخ) الذي صدر العام .۲٠٠۹‏ 
1۲۱ 


الحفرية من رقم طينية وأختام تعود حتى الألف الرابع قبل الميلاد» ومنها 
مفلا العشرون ألف رقما طينيا التي وجدت في مدينة تقر (نيبور) (قرب 
عفك» وال توي نفاضيل من الحياة الفكرية والاجتماعية السومرية» قبل 
أن کف كز مكنية | اسن امان ق فهر بسهال ارق 


وأكد الوردي أن كل ما ورد في القرآن الكريم يجد له سنداً في تلك 
الآثار المكتوبة» ولا سيما قصة الطوفان» وكذلك أسماء الله الحسنى التي 
وردت في الإسلام وهي محض أسماء تداوها السومريون فمثلا كلمة (الجبار) 
أصلها (6121) الإله الثور و(البديع) أصلها (83201) وهو الإله حيا إله 
الماء العذب ويعني البادئ الأول أو المبدع و(الملك) أصلها (نعلتله1/1) 
إله جهنم و(المؤمن) أصلها (10121]) ويعني السيد المعظم. واسم الرحمن 
يعني القوة لأن (22حخ1) السومرية تعني إله قوة الرعد والعواصف 
والأمطار والفيضانات. 


ويورد الوردي أن ورود هذه الكلمة تكرر في الذكر الحكيم /اه مرة 
كلها بمعنى القوة» ووجدنا من خلال بحثنا بالصدفة كلمة (ساتاران) أي 
الساتر أو الستار حين (إن- ون) صفة التعريف في الأكدية, والكلمة 
كانت تعني لدى السومريون (الإله الشافي). ويرد في ترجمة ملحمة 
كلكامش التي كتبها المرحوم طه باقر الكثير من الإيحاءات التي يمكن أن 
تحاكي مفاهيم فلسفية وردت في القرآن الكريم, مثل نوح القرآن أو "أوتو 
- نابشتم" البابلي. 


أما اليونان فجاءت مساهمتهم مُتأخرة في تقادم البناء المكاني» ونشأت 
مدنهم بليس أقدم من القرن العاشر قبل الميلاد» وهي (كورفو)(')» ونجد 
أن ما طبقوه تخطيطياء ودعى لاحقا (رقعة الشطرنج) ابتداءً من القرن 
السادس قبل الميلاد والتي فحواها تقسيم أرض المدينة إلى مربعات 
ومستطيلات من خلال الشوارع المتعامدة, وما هذه الخطة إلا اقتباس 
لبيب من منهج مصري قديم وجد في كل طبقات المدن العمالية والملكية, 
أو من بابل الأولى السومرية العائد إلى الألف الثانية قبل الميلاد. 


ونذهب بالنتيجة إلى أن مدن الإسلام لم تأخذ من الغرب طرائقهاء عا 
حملته من جذور محلية أكثر منها اقتباسات من أثينا وروما وبيزنطة البعيدة, 
كما أشاع ذلك بعض المستشرقين ورددها المستغربون؛ فمدينة بغداد 
المدورة لم تكن بدعة بقدر كونما استرسالا لحل عمراني محلي ارتضى الحل 
الدائري بمسالك حلقية وشعاعية تجسدت في أور وأربيل والحضر والكوفة 
قبلها. وواءمت حلول رمزية ووظيفية قديمة, قابلة للتجديدء وسبق أن 
اقتبستها حتى فارس المتاخمة. ونجد أن جل مدن العراق الإسلامية تقبع 


' وتقع هذه المدينة على الساحل الشرقي جزيرة كورفوء ضمن شبه جزيرة عريضة ممتدة في البحر 
الأيون» وتبعد عن البر اليوناني مسافة ١‏ كيلومتر. ويعود اسم المدينة (202152)) إلى اللغة 
الإيطالية كتعديل لللفظ اليونان القديم كوريفو (120/م160), والذي يعني (القمة) إشارة إلى 
القمتين التي تقع بينهما المدينة واللتين شيدت عليهما قلعتا المدينة. أطلق هذا الاسم لاحقاً على 
كل الجزيرة لتصبح معروفة كجزيرة قرفس في كل اللغات الغربية.أما الاسم اليوناني للمدينة (كيركيرا) 
)K6K714(‏ فهو يعود أساساً إلى اسم الجزيرة القديم, والذي يعود بحسب الأسطورة الإغريقية 
القديمة إلى الحورية الجميلة كوركيرا (2608:1/712) ابنة أسوبوس إله الأخار الإغريقي» والتي خطفها 
إله البحر بوسايدون (بو صيدون)» وقدم ها هذه الجزيرة كهدية. 
۲۳ 





فوق مواقع آثارية أقدم مثل الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسامراء 
والموصل. 


وقد اطلعت شخصياً خلال عملي في كلية الآثار والتراث بجامعة 
الكوفة على طبقتين لمدينتين إحداها بابلية وأخرى آرامية مسيحية تقبع 
تحت آثار الكوفة الإسلامية وحوت 5 ١‏ كنيسة, با يعني أن الأثر الأقدم 
سير الأثر الأجدد لتنظيم الموروث المكاني, ولم نجد تأثيرا رومانيا أو يونانيا 
أو فارسيا أو هنديا أو صينيا على المدينة الإسلامية» على الأقل في البؤر 
الحضارية في العراق والشام ومصر. 


لقد اهتم مخططو المدن» ومهندسو العمارة» بأغاط الحياة المكانية, 
وتأثيرها على عمارتًا من ناحية الموارد والتموين ووفرة مواد البناءء وظهرت 
فلسفات شتی دارت في كنفها نظم تخطيطهاء وحملت أبنيتها الملامح 
المعمارية لما؛ فنرى المدينة الإسلامية الأولى تميزت بزهدها ومباشرتًا 
ووظيفيتها وعضويتها وبساطتهاء مثل يغرب ومكة, ثم تعقدت مفرداتًا 
تباعا كما في البصرة والكوفة وبغداد والقيروان وفاس والقاهرة. وتطورت 
مع ذلك الصعود والتعقيد طرز العمارة التي حملت تواريخ حقب ودويلات 
سياسية وإقليمية مختلفة. 


وفي أوربا أريد للمدينة أن تكون سليلة الحضارتين الإغريقية ثم 
الرومانية» فمدن العصور الوسطى التي مثلتها عمارة عصر النهضة ثم 
الباروك, ثم مدن القرن الثامن عشر والمدن الصناعية الأولى في القرن 


۳٤ 


التاسع عشر والعصر الحديث» وتلتها فكرة مدن الحدائق الإنكليزية, 
وغيرها من المدن التي ظهرت في القرن العشرين, وكلها نتاج ثقافات 
وفلسفات ونظريات عديدة استرسلت من القرية الفلاحية والمدينة التجارية 
والسياسية. 


تداعيات الحداثة الحضرية 


تصاعد الاهتمام باقتصاد المكان خلال القرون الثلاث الأخيرة 
وظهر علم وطبقة من علماء الاقتصاد تعاملوا مع المدينة بشكل كلي مرة 
وجزئي أخرى؛ فمن الناحية الكلية تبنوا ما عرف باقتصاديات المدينة» ومن 
الناحية الجزئية تبنوا ما عرف باقتصاديات القطاع, كالقطاع الإسكاني, أو 
السياحي» أو الصناعي, وما شابه ذلك. وشارك علماء الصحة والبيئة في 
موضوع المدينة» فخصصوا دراساتهم وركزوها على بيئات المدن. وصنفوا 
نتائجهم تبعا لما تحمله كل مدينة من مظاهر الصحة البيئية» ووضعوا الخطط 
التنفيذية لمعالجتها أو تنميتها. 


وإذا كان للمؤرخين والجغرافيين في التراث دور بارز في موضوع المكان 
المديني» فإن دور الآثاريين المتأخر يزداد أهمية, فيما يقدمونه من نتائج 
علمية» تضيء كثيراً من الجوانب الخفية التي روى بعضها المؤرخون, 
وتناقش القضايا التي طرحت حول موضوع أصل المكان خلال عصوره 
المختلفة. وبفضل جهودهم تعرفنا على حضارات وثقافات والمواقع 
والأوابد والمعالم الأولى والمتأخرة 


حري بنا سبر آراء أحد الداعين إلى إعادة إنتاج المكان التراثي 
بمنهجيه محافظة وأساليب تخطيطية حديثة» وهو المصري حسن فتحي 
(۱۹۸۹-1۸۹۹) الذي ربط جماليات المكان الترائي بقدرته على سد 
احتياجات اجتمع اليومية» من خلال تداول خامات بيئية رخيصة وفعالة. 
وذهب إلى أن لو طبق ذلك فبعد بضعة أجيال من العلاقة اللصيقة 
الفاعلة بين الجتمع والعمارة فإن الباني سيتم تطويعها لشكل امجتمعات, 
طبائعها وعاداهًا وسلوكياتا وأمزجتهاء كما أن فتحي يرى أنه ثمة حاجة 
للتواصل الحضاري بين الأجيال المتعاقبة في المكان التراثي, كي يبقى حيا 
متناقلا وحفوظا في وعاء اجتماعي يستفاد من تجارب من سبقوه زمانياً في 
المكان. 


وقد دعى فتحي المعماريين للنظر مليا في التراث المكان با يمكنهم 
من المساهمة في تطوير مجتمعاتهم وبعث القيم الأصيلة فيها. وحث على 
عدم الاستدكاف من التراث أو ازدراء مفرداته, ومحاولة الرصد بوعي ثاقب 
للجوانب الإيجابية الخفية في عمارة التراث» ومحاولة توظيفها وإحياءهاء 
وبذلك يقسم التراث المكاني إلى نوعين من المنجز المعماري: الأول هو 
العمارة الشعبية (ع617اءع2216 10112) والثانية هي العمارة الأكادعية 
أو الاختصاصية .(ع11]60]117ع2 ctsعArchit)‏ وني الحقيقة فإن فتحي 
يشعر بأن العلاقة بين المعماري والبناء وصاحب العمل أو "الزبون" أو 
"القاطن" يجب أن يعاد إرساء دعائمها من جديد با يحقق فائدة باستخدام 
طرق البناء التقليدية» وهذا يعني "إعفاء" المعماري المعاصر من مجموعة من 
المهام التي تسلّمها من "البنّاء" التقليدي دون داع. وهذا يظهر الأهمية التي 


١75 


يوليها فتحي في فلسفة الفكر النظري في تطوير دور المعماري في عملية 
البناء والإحياء التراثية؛ فتوظيف عناصر التراث يجعل الإقدام عليها من 
أهلها وارد ومشجع» ويتم الأمر من خلال التأهيل المهني المنظم للبنائين» 
الذين جدير بتذكيرهم بطرائق البناء التراثي التي أعدمتها الحداثة. والأهم 
هو إقناع الناس والمستفيدين من سلامة وسلاسة الحلول التراثية لبناء 
المكان.. وقد كتب فتحي عن تجربته في قرية القرنة: "من البداية حتى 
اللحظة الأخيرة كنت دائم التعلم» أغير وأبدل وأطور تصاميمي المعمارية 
لجعلها أكثر ملائمة للعائلات التي ستقطنها"('). وهذا ما نعانيه عند 
الأكاديميين الذين استسهلوا الحلول, وم يوائموها مع الطلب الخاص 
للوحدة السكنية» وكأنهم يبيعون المخططات على الناس دون وازع 
أخلاقي, وها نحن نجني نتائجها اليوم بفوضى المكان المبني. 


يحتار اليوم» الكثير من المعماريين والمدشغلين بالبحوث» ولا سيما 
المشتغلين في مجال علم النفس والسلوك البشري في نظرية (الحتمية 
السلوكية) والتي تفترض أن تغير البيئة المبنية سوف يؤدي إلى تغير السلوك 
البشري» وععنى مبسط تفيد هذه النظرية بأنه باستطاعة المخطط أو 
المصمم أن يُعَد تصميماً معيناً لمبنى أو حي سكني بحيث يغير هذا التصميم 
أو التخطيط من عادات وتقاليد وسلوك ساكنيه أو مستخدميه بعد 
استخدامهم هذا المنشأء ولا نبالغ إذا قلنا أن تغيير صفة المكان المؤثرة 


' حسن فتحي: الطاقات الطبيعية والعمارة البيئية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 
33۸۸ 
۳۷ 





على السلوك هي قمة النجاح أو الفشل للأداء المعماري, فلو افترضنا 
تطبيق هذه النظرية على الوضع العمراني والمعماري في مجتمعاتناء سوف نجد 
أن هذه النظرية قد تحققت في أمور معينة ولم تتحقق في أمور أخرى 
فالمجتمعات العربية قبل نصف قرن كانت بسيطة ومتجانسة» ولكن مع 
نزعات التحديث التي جلبتها السلطات بدون وعي قد غير النمط 
التقليدي لطراز المباني وغير معه الكثير من القيم والمعاني الرمزية التي كانت 
مخرونة ضمن نظام التخطيط العمراني والمعماري الترائي,» وذلك بقفزات 
وليس ضمن مراحل تطورية متوازنة وتراتبية بين التراث والحداثة» الأمر 
الذي أدى إلى أن يفقد اجتمع العديد من السلوكيات التي كانت تبدو 
معادلة ومتزنة وإنسانية أكثر من اليوم. 


لقد حدث ازورار كبير في تصميم البيت الحداثي, واختفى الفناء 
الداخلي من مساكننا والذي كان بمثل مركز الحركة الرئيسة للبيت وقلبه 
النابض حينما تفتح الغرف عليه ومنه تستمد الضوء والمواء والحيوية وروح 
الحركة للساكنين والاتصال بالعالم الخارجي. وفي ذلك راحة وطمأنينة 
للساكن. وحل محل ذلك أسلوب الصناديق أو الكتل المتضامة بسقوف 
متوازية والمنفتحة نحو الخارج» بما اضطر الناس أن جأوا إلى الأسوار العالية 
لتأمين الذاتية» وهو الأمر الذي أدى إلى حجب الضوء والحواء عن غرف 
الت حن أمست الطريقة الوحيدة للمحافظة على الخصوصية هي 
الإغلاق الدائم لنوافذ الغرف. وهذا مثال بسيط لما سببه تغير فراغ تراثي 
واحد ضمن فراغات المسكن المتعددة التي لو شملناها لوجدنا مدى التأثير 


الكبير الذي لحق بمساكننا. إن هذا التغيير أدى إلى تغير كامل في حياة 
7۸ 


ساكني المنزل وانعدام الألفة بينهم وبين منزهم» وأدى إلى اختلال 
الوظائف. وتداعى إلى خلخلة في توزيع الفراغات والعناصر للمبنى ومن ثم 
وظائفه التي تشيع الألفة والتواصل (') حتى لنجد الأبناء المختلين في 
حجرهم العلوية» لا علاقة لهم بعوائلهم, ومنقطعين إلى عام الإنترنت 
الافتراضي الذي عزلهم وغير من سلوكهم الجمعي» وحد من دفء 
مشاعرهم وتواصلهم المرتجى مع الأهلء ثما جعل البيت أقل حيوية وأكثر 
مللاً لساكنيه» نما أدى إلى ظهور جيل منطو على ذاته ويفتقد إلى التواصل 
ومجهولاً حتى من أسرته. وهذا ما جعل المفاجآت تتواتر في الأسر من 
تصرفات أبنائهم» وبذلك أوجدت الحداثة مكونات لفراغات جديدة أقل 
ارتباطا بحياة الساکن وتقاليده وعاداته وحيويته 


لا مناص من طرق (السياسة العقارية) التي وردت مع علوم الحداثة 
العمرانية» والأسباب الكامنة وراء ارتفاع سعر الأراضي وابتذال مراكز 
المدن التاريخية وازدياد الكثافة السكانية عن طريق المجرة من الريف إلى 
المدن, التي ازدادت على أثرها الكثافة البنائية والتطاول في لبان نما 
أحدث خللا في التركيبة المعمارية والسكانية والنفسية» ونتج عنه 
اضطرابات في شبكات الخدمات, ونشوء الأحياء الطرفية والعشوائية, 
وشق الشوارع السريعة التي قطعت أوصال المدينة ولم تحل الإشكال 
ا مروري» وهذا وراءه شيوع نموذج دبي (السنغافوري). وثمة عتب على دولنا 


' مقتطف بتصرف من لقاء مع الدكتور خالد بن عبد العزيز الطياش - كتبه علي الرويلي - جريدة 
الرياض 
۳۹ 





الغرية التي لم تستثمر في هذا المجال الخلاق, أما الدول المعتاشة على المعونة 
الخارجية فإنها مضطرة لقبول الكثير من تلك الحلول» حينما وضع شرط 
ابتزازي هو ضرورة إعدادها للمخططات المدينية التي خضعت لسطوة رأس 
المال لدرء مشاكل عاجلة لا تستطيع الأجهزة الحلية مواجهتها بإمكانياتًا 
الفنية أو المالية المتواضعة. وهنا اكتمل النصاب في قبوها بإملاء العون 
ا لخارجي» والذي يزيد من اتكالية وكسل الأجهزة الحلية المناط بها وضع 
حلول واقعية للمكان. وهنا تكمن أهمية إرساء أسس نظرية مكانية 
متكاملة تتضمن المجتمع والاقتصاد والسياسة والبيئة والتخطيط الحضري» 
غرضها ومحورها وغايتها الإنسان. 


ولا بد من طرح حقيقة تحول المكان إلى سلعة تجارية أي تابع ومسير 
من خطط بيانية تتعلق بالسوق الاقتصادية وأسواق الال والمؤشرات... 
الخ. وهذا ما أثر على الرؤية التخطيطية والتصميمية للمشاريع الإسكانية 
التي تتبناها الدولة كوا تحمل مفاتيح الحل» وكون الإنسان لا يستطيع أن 
يقيم مسكنه لوحده» وهذا أمر قديم طرقه أحد ملوك سومر يدعى (كوديا 
(Goudea‏ حاكم مدائن لكش حوالي العام 10۰ ق.م» ورام أن يبني 
لذوي الدخل المحدود مساكن» وتضرع للآهة من أجل مساعدته. ثم تبناها 
في الحداثة السويسري لیکوربوزییه )۱۹٩٩-۱۸۸٩(‏ وأوردها في كتابه 
(نغو عمارة )vers une architecture‏ الصادر عام ۰۱۹۲٦‏ بما دعي 
مساكن .(11100]) وهي مساكن ذوي الدخل المتوسط. ومازال قائما حاجة 
الدولة لحل أزمة السكن الناتجة عن تدفق الأيدي العاملة من الأرياف إلى 
المدن ولا سيما الصناعية بغرض تحريك عجلة الاقتصاد» وتداعى الأمر إلى 

١5٠ 


خلق معطيات جديدة تشكلت منها آليات مستجدة للعملية التصميمية 
للمباني السكنية» سرت على هدى فكره إنتاج عمارة اقتصادية بالدرجة 
الأولى لا تحمل في مضمونها أبعد من ذلك فيما يعرف بالنموذج المتكرر 
للوحدة السكنية عم10067م » والذي يعتمد في غالبية الأحيان على 
الارتفاع الرأسي لهذه الوحدات, وذلك زيادة في الاقتصاد في المكان 
الذي يشح ويكلف. 


والخصر ذلك النموذج في البداية على ذوي الدخل المحدود كما عند 
لیکوربوزیيه› لکنه سرعان ما عم وشل هيع المستويات الاجتماعية 
والثقافية» وأصبح السمة الغالبة على الطابع التخطيطي للمشاريع 
الإسكانية. 


لقد وضع هذا التوجه الاقتصادي في العمارةء إنسانية المجتمع تحت 
طائلة الإحصائيات البيانية التي ترصدها اقتصاديات الدول والمصارف, 
كما انعكس بدوره على طبيعة المناهج الدراسية للمدارس المعمارية التي 
غاب عنها على أثر ذلك» المعنى المقصود من العمارة ومفهومها الحقيقى 
الذي يسعى لإيجاد مكان صا لمعيشة الإنسان» وغابت من وراءه الهوية 
الثقافية والانتماء. والخصوصية الاجتماعية والمعاللجات البيئية التي كانت 
تبحث فيها العمارة التقليدية وتؤكدها من خلال نتاجها المعماري 
والعمراني, ما ترتب عليه حدوث خلل وتدهور في سلوكيات اجتمع وقيمه 
الأخلاقية وأصبح كل أمر مستساغ ومبرر وقاعدة تحكم المفهوم العام 
للحياة» كما اتسمت العملية التصميمية التي حكمها الإبداع بالجمود 


١١ 


والتكرار والسؤم» وتحول المعمار إلى حالة تطأ الطغيان بالقرار على حساب 
الناس ضمن أحجية احترام حدود الاختصاص وسط جهل الناس. وقد 
كرست هذا المنحى اينات الاستشارية الحندسية التي تسير على هدى 
الاقتصاد والربح المقاولاتي. 


وكحالة اجتهادية للخروج بالعمارة من هذا المنزلق انصرف بعض 
المعماريين إلى البحث عن بدائل تصحح المسيرة وتكون أكثر قرباً وارتباطاً 
بالواقع المكاني. ويعيب على هذه التوجهات أنما ركزت على التعامل مع 
الشكل كتعبير ثقافي. ومع المواد الحلية كحل اقتصادي» ومع الخصوصية 
البصرية كاعتبار اجتماعي. ولكن مشكلة الإنسان ظلت عالقة, فأزمة 
السكن تزداد استفحالاً. والهوية تمعن في الاغتراب وسلوك الإنسان 
يتمادى في وحشيته والعمارة ترتدي خلة أخرى غير خُلتهاء وبين هذا وذاك 
تقف مجتمعاتنا محتارة وعاجزة وتبحث عن عمارة تخرجها من الفوضى 
والاغتراب الذي أشاعته الأبراج الزجاجية وعلب الكبريت التي يحشر بجا 
الناس. وغابت الطبيعة والتواصل البشري والشغف بمفردات المكان الذي 


يوازك المادة بالروح. 


لقد أمسى الشارع محض سلسلة من الأسوارء لا يؤمه الناس ولا 
يجمعهم وينزع العدوانية منهم على مبدأ (عدوك من تجهله), فحد التخطيط 
الحديث من ظواهر التواصل الاجتماعي المتداعية إلى راحة النفوس 
وتسامحها. فقد تجزأت لحمة النسيج العمرانن للحي وتباعدت المساكن عن 
بعضها ومعها تباعدت العواطف والعلاقات الإنسانية التي كانت تربط 


١١ 


الجيران ببعضهم وتجعل منهم أسرة واحدة يواسون بعضهم في جو من الألفة 
وامحبة والعشرة تساعدهم على تخطي هموم ومكابدة الحياة. وكل تلك 
التغيرات في إزاحة وتبديل التراث المكاني, لم تجد البديل الحداثي الأحسن 
منهاء بما فاقم الهم وجعلنا في حيرة من أمرنا. 


الفصل الثاني 


المكان والروح 


.٤‏ عاطفة المكان 
ه. قدسية المكان 


5.إعمار المكان في الإسلام 


:. عاطفة المكان 


لقد فطر الإنسان على الشغف بالمكان, ولا يحكم على سلوك 
الإنسان إلا من خلال تواجده في مكان بعينه» وأن جل مفاهيم الإنسان 
الأخلاقية» والنفسية والاجتماعية وحتى الفكرية, لا يعبر عنها إلا تعبيراً 
مكانياً صرفاً. وعلى هذا فهو خير معين للإنسان إذ أنه يمده بتصوراته 
ومفاهيمه. كما أنه يشكل له "وبخاصة للمبدع" حلا مريحاً وراسخاً إذ 
ينقذه من السقوط في السطحية ويساعده في عنونة الأمور وتعريفها 
وإنسابما إلى أصوها. 


ونمة شغف وتوجه الى المكان الجماعي لدرء الوحشة التي تأت 
بالتوحش» ففطر الإنسان "مثلما بعض الكائنات" على أن يكون 
اجتماعياً» فأمست ضمانته وأمانه ضمن الجماعة في مكان جامع يشكل 
مهبط عاطفة جوهرها مصلحي وتشعباتًا روحية وخيالية وتأويلية وتطبيقية 
شتى» فقد رصد ابن خلدون ذلك الشغف بالتجمع الذي يحتاج إلى مكان 
مجسد وكتب: "إن الاجتماع الإنساتي ضروري ويعبر الحكماء عنه. 
فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في 
اصطلاحهم» وهو معنى العمران وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه 
على صورة لا تصح حياتًّا وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته, 
وما ركب فيه من القدرة على تحصيله, إلا أن قدرة الواحد من البشر 
قاصرة عن تحصيل حاجاته» ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة 
الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له 


١ هع‎ 


وهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف, 
وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء 
جنسه؛ فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا 0 يكمل وجودهم 
وما أراده الله من إعمار العام بحم واستخلافه إياهم» وهذا هو معنى 
العمران. ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العام 
بحم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض'(١).‏ 





وهنا نرصد أن البيئة تكون ذات معنى عندما يبدأ الإنسان يشعر 
بالانتماء إليها كما يرتبط الإحساس بالمكان بمفهوم الانتماء «Belonging‏ 


' . عبدالرحمن بن خلدون-تاريخ المبعدأ والخبر-المقدمة. 
١5‏ 


والانتماء حسب تعريف نادية لوفيل "1.0711 772012" بأنه "طريقة تذكر 
وبناء الذاكرة الجمعية للمكان" والانتماء إلى الخصوصية الحلية 10211697 
يستدعي أو يثير فكرة الإخلاص أو الولاء إلى المكان, والولاء 1092167 
يعبر عنه من خلال التاريخ الشفهي والمكتوب. والقصص والأساطير 
والإنجازات الدينية والشعائر أو الأضرحة والإنشاءات المقامة كمتاحف 
ومعارض, ولحد الآن يعرف الانتماء بشكل أساسي من خلال الإحساس 
بالتجربة التي تسهم في صياغة الأفكار المستلمة من محيط المكان(') 
وحساب كيفية تكوين هكذا ولاءات تم صياغتها من خلال الصلة الوثيقة 
بفهم الموية التي تمتد إلى جانب التجارب الفردية والحنين إلى الماضي الذي 
يعود لخصوصية المكان. والانتماء "يجب أن يرى كطريقة للتذكير" و"كأداة 
لإنشاء الذاكرة الجمعية للمكان الحيط" (۲). 


ففي جدلية (صناعة المكان) فإن الإنسان يتشبث بالمكان الذي هو 
فيه لأنه يصبح جزءا لا يتجزأ منه. عندها يتعانق الزمان والمكان في وجود 
ذلك الإنسان. كما أن ذلك المكان لا يساوي شيئا دون الذكريات التي 
ارتبطت به. ونلمس الكثير من أخبار الهجرة وال هجير وعاطفة طافحة تغمر 
صفحات قصص التاريخ. حيث تذكر التواريخ عن النبي خد (ص) حينما 
اضطر للهجرة والخروج من مكة التي كان له فيها شغف» حيث استدار 
إليها حزينا وقال فيما قال: "إنك خير أرض الله وأحب الأرض إلى الله 


١ Schama,1995; Tilley, 1994 
2  Coccerton,1998;Fentress &Wickham, 1994 
1۷ 





ولولا أن أهلك أخرجون منك ما خرجت" (') ونجد قول رسول الله (ص): 
لولا حب الوطن لخربت بلاد السوء. وقيل: بحب الأوطان عمارة البلدان. 
وقال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم قنوعهم بأوطانهم لما شكا عبد 


رزقه. 


وقبل لأعرابي: كيف تصبرون على جفاء البادية وضيق العيش؟ قال: 
لولا أن الله تعالى أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع 
العباد. وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن. وقيل: لا 
تجف بلداً فيه قوابلك وأرضاً تملكها قبائلك. وقيل: احفظ بلداً رشحك 
غذاؤه وارع حمى أكنك فناؤه. وقيل: ميلك إلى بلدك من شرف محتدك. 
قال حفص الطائي: رأيت جارية تقود عنزاً. فقلت: يا جارية أي البلاد 


أحب إليك؟ فقالت: 
أحب بلاد الله ما بين منعج 
بلاد بما نيطت علي تمائمي 
وأنشد ابن الرومي: 
ولي وطن آليت أن لا أبيعه 
عهدت به شرخ الشباب ونعمة 


فقد ألفته النفس حت كأنه 


' الإمام أحمد - المسند - رقم ۱۸۲٤١‏ - دار إحياء التراث العربي بيروت : 


^۳ 


وأول أرض مس جلدي ترابما 


ولا أن أرى غيري له الدهر مالكا 
لما جسدٌ إن بان غودر هالكا 


6ھ / 





وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا 
إذا ذكروا أوطانهم ذكرقم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا 

وقال الشريف الموسوي: وينقل أنه لما أسر سابور الفارسي ببلد 
الروم» قالت له بنت الملك وكان قد مرض وعشقته: ما تشتهي؟ قال: 
شربة من ماء دجلة وشمة من تراب اصطخر؛ فحملا إليه فبرأً. واعتل 
أعرابي فقيل له: ما تشتهي؟ قال: حسل فلاة وحسي قلاة. وكان من عادة 
العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تراب بلدهاء فتنشقته عند 
نزلة أو صداع. 

وتذكر التواريخ عن عاطفة عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) (ت: 
۲ هھ أكتوبر (aVAA‏ بعدما ترك أرضه هارباً من مجزرة العباسيين عام 
9م .هلام مخلياً أرض الفرات» ومولياً وجهه شطر الأندلس» حيث 
يرد عن سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة ٠٠‏ 4ه: أن كان بقرطبة 
جنة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية» وكان فيها نخلة أدركتهاء ومنها تولدت 
كل نخلة بالأندلس. قال: وني ذلك يقول عبد الرحمن الأموي: 
یل أنت غر ة مني في العَرْب تائئَةٌ عن الْأَصا 
فابكي وَل تب 4 : 2 عَجمَ اء 4 طب د ع ك ا 
لَوْأَنَهَاتبْكِي إذا لَبَكَتْ ما القراتِ وَمَنِتَ الئخا 
لكنها ذهلت وأذهلني ‏ بغضي بني العباس عن أهلي 


١4 


ومن شعره أيضاً في الحنين للمكان الماكث في الشرق» حيث لا 


يدخر عاطفة, منشداً: 


أيها الراكب الْميَيَم أرضي أفْرٍ من بعضي السلام لبعضي 
إن جسمي كما علمْت بأرض وفؤاديكما عملت بأرض 
فُدَّر الي بيبساففترققا وطوى البِينُ عن جفون غمضي 
قد قضِى اله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي 

ولا عجب في تلك الشجون أن يحن الشاعر إلى أول منزل وإلى 
الديار في العهود الخوالي. ونجدها مادة محببة في السرد الروائي كما في رواية 
(مائة عام من العزلة)» حيث يهفو قلب العقيد أورليانو بوينديا 
Aurelian0o Buenda‏ إلى ماکوندو 0200ع7/12 (هذا العقيد هو واحد 
من أبطال أشهر رواية نرية في أمريكا اللاتينية (') ولا عجب أن يكتوي 
فؤاد باسكوال دوارق 1013166 23561131 (بطل رواية عائلة باسكوال 


دوارق بالشوق إلى قريته الصغيرة ب: باداخوص 2822302[02 وهو على 
وشك مغادرة غاليسيا 621112 إلى أمريكا اللاتينية(") 


وبمكن إرجاع استخدام مصطلح "المكان في العمران" في الحداثة 
للمنظر وال معماري الأماني (جوتفريد ىر( Gottfried Senıper‏ 


' هذه الرواية للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيث وصدرت سنة ١951‏ 
" هذه الرواية للإسباني كاميلو خوسي ثيلا وقد صدرت سنة ٠۹٤٤‏ 


YO: 





بعينه» وتبقى المواد والأشياء الأخرى ثانوية بالمقارنة في تحديد الفضاء من 
حولنا؛ لذا فإن "الجدار هو العنصر المعماري الذي يعبر شكلياً ويصنع 
المكان الحدد". وكأن الرجل في ذلك فسر مفهوم الإحاطة بالشئ أو المكان 
من مصدره العربي» الذي جاءت منه كلمة (حائط) و(إحاطة) و(محيط) 
و(حوطه)(') و(دوار)(')..ا2. 


ومن الواضح أن فكرة (سمبر) عن الفضاء الحدد (الحاط)» ذات 
جذور فلسفية متأثرة بالألمابي (هيغل 1آءععء721 ١٠1/17١831-1١)ءالذي‏ 
كان يرى "التحديد" جزءا من القصدية المعمارية متأثراً في ذلك بالمباني 
الدينية القوطية وناقدا العمارة الكلاسية التي عد متها الأساسية هو 
التكيف مع هدف مدد يجعل من توائم المبنى بين داخله وخارجه» مع 
الغايات المرجوة أمراً محتماً. وكأن هيغل أعاد مفهوم (المندسة) في العربية 
الذي يرد من الحندية (السنسكريتية)» واستعارته العربية من الفارسية, 
ومعناه تحديداً: "الحدود أو المكان الحدد". ونظن أن كلمة حد وهند 
وبالإنكليزية 120©: من أصل لساني مفاهيمي (أبستمولوجي) مشترك 
أقدم. 


ونجد أن جُل المفاهيم الفلسفية نسبها الغربيون عنوة الى أصل يوناني» 
وكان هيغل ورعيل الفلاسفة "التنويريين"» من ابعدع ما دعي تباعاً (الظاهرة 
أو ا معجزة اليونانية), وعدوها المغال الأرقى لمرجعية حضارية أوربية وليدة 


أ هو اسم القرية في بعض جهات الجزيرة العربية كما (حوطة بني تميم بنجد. 
" هو اسم القرية في بعض جهات الغرب العربي 
١١‏ 





تبحث عن جد روحي تنتمي له» حتى لو كان واه ووثني وطارئ ومشكوك 
به. وحدث العكس في الثقافة العربية حينما تخلى أصحابحا عن منتج 
الشرق القديم الحضاري في العراق والشام ومصر وشمال إفريقياء بحجة أنه 
(جاهلي) أو (وثني), رغم هلامية تلكما الاصطلاحين. ونلمس في الغرب 
إعجاب مبطن بمواطن الحاضرة اليونانية رغم وثنيتهاء وهي تبحث ها عن 
الخلود وحياة ما بعد الموت, الذي ما توقفت فكرته عن مداعبة الإنسان 
منذ هاله الموت ووقف حائراً أمام لغزه» وطفق يتساءل عما إذا كان ثمة 
شيء ما بعده. وربما كان ذلك الهاجس مصدر قلق الإنسان قبل شيوع 
الفلسفات والروحانيات» وحتى قبل انبلاج الأديان الموحدة التي تحدثت 
عن البعث والما وراءية» والجنة والنارء كإجابة بتلميح وتصريح عن 
تساؤلات الموت والخلود, وملأت فراغا روحياً وأجابت على التساؤل 
الأزلي المؤرق» والذي أنتج ملحمة كلكامش قبل ألفي عام قبل ظهور 
اليونان الحضاري وليس المكان. لقد كان اليونانن يعد بقاءه في هذا الكون, 
بعد موته» يتأمن عن طريق بقاء مدينته واستمرارها؛ لذا تولدت عاطفة 
أساسها مصلحي» با دفع اليوناني يضم جهوده الى جهود كل البنائين» 
سواء أكانوا معماريين أو حرفيين فنيين أو عمالاً يدويين أو حتى ممولين أو 
متفرجين مشجعين» ليؤمن للمدينة رفعة وقوة وديمومة تتحقق بفضل فخامة 
وصرحية المباني وقوتاء ورصانة جغرافيتهاء ومكانتها التي تتبوأها في الحياة 
اليومية للجماعة, وما يترتب على غايات إضفاء السمات الجمالية على 
المدينة نفسهاء التي كانت ساحاتها وأسواقها (الأغورة), تمذل مسرح الحياة 
أكثر من فضاءات البيوت. 


وبعد قرن من هیغل» ورغم أن الفيلسوف (سمبر) لم يفصل كثيراً فكرته 
التي رأى فيها المكان كأساس جوهري في العمارة إلا أن تأثيره على مؤيديه 
ومعارضيه كان كبيراً في بداية القرن العشرين. ورما يكون الاتجاه الآخر هو 
النظر للمكان على أنه حالة عقلية بحتة وهو اتجاه أثر ني العّمارة خلال 
عشرينات القرن العشرين؛ لكنه يعود إلى الأفكار التي طرحها (كانط 
K٣‏ ). في كتابه (نقد العقل الحض) الصادر عام ١۱۷۸ءم.‏ ومع ذلك 
فإن أفكار (كانط) عن المكان لم تصبح مؤثرة حتى تطورت نظرية "التقمص 
العاطفي" 181115217 عام ١۱۸۷م‏ عندما قام الفيلسوف (روبرت 
فسكر) +ع1ء:1715 Robert‏ بالكتابة حول إمكانية ربط التقمص العاطفي 
بالعمارة وأن الحساسية الجسدية يمكن أن تعبر عن معاني الشكل. لقد أكد 
(فسكر) أن أفكاره استقاها من دراسته للأحلام» وكيف يستجيب الجسد 
لتأثير الأحلام في حالات معينة(١).‏ 


نجد أن الأحياز المكانية تتراتب في الأهمية تبعاً لوظيفة كل منهاء 
وطبيعة علاقة الفرد بجا من شدّة أو ضعف. فالمكان الحبب لشخص بمكن 
أن يكون ممقوتا لآخرء فبين الحنو والعاطفة والترتيب» أو العدوانية 
والتخريب للمكان كان صراع البشر الأزلي. ولعل هذا ما يفسر قلق 
الإنسان وخوفه على المكان إذا حصل له تمديد؛ كونه تحديدا لكيانه 


: . د.مشاري النعيم - مقال المدينة والأدب - جريدة الرياض - السبت-8 4-١‏ -7/8 4 اه 
١67‏ 


وهويته وإطاره الذي لا يكون إلا به فالمكان ونخاصة الأليف كالبيت هو 
كناية عن الذات وكذا المدينة )١(‏ 


وربما انحدر الأمر من الحيوانية الكامنة في عمق الإنسان» حيث نرى 
بعض الحيوانات شغوفة بتثبيت حيزها المكاني من خلال ترك إدرارها أو 
غائطها او لعاجا.. الخ لذلك فأي عدوان يتعرض له المكان ولا سيما 
الحضري والمديني, فإنه يعد عدواناً على الذات, باعتبار أن "تصاعد العدوٌ 
یکمن في انتقال من المكان الرمز للأنا البيت» إلى الأنا ذاتَا(؟) . ولا أدل 
على ذلك من تلك الحروب الشرسة التي تخاض من أجل اغتصاب الأمكنة 
أو بغرض استرجاعها عند الحيوان والإنسان على حد سواء. فتحارب 
الألمان والفرنسيين قرنين ونصف على مقاطعة الألزاس واللورين» وكان 
آخرها الحربين العالميتين العبثيتين» وشنوا حروباً قومية أشعلت النار في 
أركان الأرضء وأزهقت في الحرب الثانية فقط, ”5 مليونا من البشر. وبعد 
تلك النزعة الرعناء جلس الفرقاء, واتفقوا أن تكون (ستراسبورج) عاصمة 
لمقاطعة وسطية بين فرنسا وألمانيا متهادنة في مشروع وحدة أوربية قَبِرَ في 
حيثياتحا المشروع (القومي) الذي كان حلقة وصل بين همجية الرعاة 
وتشدق بأعراق وألسنة وعقائد, من أجل الاستحواذ على المكان. لقد 


.١‏ ترد البلاد والمدينة بصيغة (بيت) باللغة الآرامية (النبطية)ءوهي لغة العراق والشام وبعض 
الجزيرة العربية, ثم حدث أن أقتضبت بالباء فقط ووردت في بداية سلسلة مدن كثيرة مثل بغداد 
وبعقوبة وبصرة وبدره وبيروت وبيسان.. اح. 
' د/ سامي أسعد: مفهوم المكان في المسرح المعاصر, مجلة علم الفكرء مج 23١8‏ ع4: 21588 
ص ٩٩‏ . 

١6 





حدث هذا بين قومين ادعوا الحضارة والوعى ومن أثر "الأنوار 
"enlightenment‏ فما بالنا بالشعوب البدائية. وما نملك إلا أن نعذر 
(ال حوتو والتوتسي) في مذابح جرت على مكان رواندا وبوروندي وسط 


إفريقيا. 


0 4 


والأمر ينطبق على الصراع بين العرب وإسرائيل الذي تحول من 
مشروع استيطاني لليهود هرباً من الظلم والفرز والشمولية والبرد الذي 
عانوه في أوربا ولا سيما الشرقية» ليتحول إلى صراع مصيري على حدود 
من المكان, ثم إلى وجود وفخر أمة ودين وثقافة, مازلنا منذ ثلثي قرن ندفع 
ثمنه غالياً. ومن الطريف في هذا السياق أن إسرائيل التي بحنت دائماً عن 
ذريعة تؤسس من ورائها دولة في فلسطين, كانت قبلهاء وبعيد مؤتمر بازل 
بسويسرا عام ۱۸۹۷ تبحث عن أي مكان بديل» فكانت الأرجنتين 
وأوغندا وسيبيريا وجنوب إفريقياء وحتى جنوب شرق العراق (بين الكوت 
والعمارة): لكن وقع الاختيار في حينها على نيوزيلندا النائية لتكون الوطن 
البديل. ولكن الاعتراض الأكبر جاء من طرف حراس التوراة وعتاة 
الصهاينة, اللّذِين لم يتنازلوا عن شغفهم بالقدس ومكاتها ومكانتهاء ووطء 
حتى حجارتا (التي تنز حليباً وعسلاً), فوجد الحل من خلال اتفاق وسطي 
بأن تحمل حجارة مقطوعة من مقلع للأحجار يقع على أطراف القدس, 
ليبنى بجا البرلمان (الكنيست) في أوكلاند عاصمة نيوزيلنده. وهكذا حملت 
الحجارة الحاملة لعاطفة مجنحة ورحلت عبر عباب البحر إلى نائي الأرض»› 
وشيدت جا بناية أريد ها أن تكون تحمل عاطفة المكان المقدس» لتصبح 


بالنتيجة بلدية مدينة أوكلائد Auckland Town Hall‏ »التي تحمل 


أحجارها وبرج ساعتها وطرازها الفكتوري المتأخر. وأحجية (وعَد الرب). 


ولا يمكن أن يدرك ما سر تلك العلاقة الحميمة والعجيبة بين الناس 
والأمكنة التي نشأوا وترعرعوا فيها؛ حيث تتفجر هذه العلاقة حامية عند 
اقتحامها والمساس بقدسيتهاء وحنيناً عند النأي عنها (مرض الوطن 
»)h0mesic)‏ وهذا ما عانيته خلال غربتي التي تعدت الأربعة عقود. رغم 
أن اغتربت منذ سن السابعة عشرء وبمكن اقتضابما بسبعة حاذفا الطفولة» 
لكنها مكثت الأهم عن كل الأمكنة. 


وتقكث أسماء الأمكنة التي انتقلت إلى الناس من آبائهم وأجدادهم 
عزيزة على أسماعهم. وهنالك من يقول أن العلاقة بين المكان واسمه 
كالعلاقة بين الجسد وروحه. وتتحول الأسماء عبر مئات السنين وربما 
آلافها إلى علاقة روحية فيعز عليهم تغييرها. فتتغير لغة اجتمعات والدول 
والأوطان لكن الأسماء القديمة للمدن والقرى والأحياء تبقى. وأحياناً تتغير 
معالم المكان ويتغير شكله لكن اسمه القديم المتوارث يبقى مهيمناً. وحتى لو 
كانت أسماء الأمكنة غير مستحبة ومستساغة في اللّغة المعاصرة» تبقى 
متداولة على شفاههم. ففي دمشق ثمّة حارة صغيرة تتفرع عن منتصف 
شارع الملك فيصل في حي العّمارة بقيت تدعى حت منتصف الخمسينات 
"حارة الزبالين"» ثم عمدت محافظة دمشق إلى تجميل اسمها فدعتها (جادة 
الشرف الأعلى)» لكن ورغم مضي نصف قرن, بقي الاسم القديم هو 
الأشهر. ولماذا نستغرب» ففي باريس يوجد سوق لا يزال يدعى حتى الآن 


١65 


بسوق القمل (5ع0110 2112 عطاء3/2) وهو مكان تباع فيه الحاجيات 


بالرخص. ولم تلجأ بلدية باريس إلى تغيير هذا الاسم "الفولكلوري"(١).‏ 


وني بغداد ثمة محل مرطبات افتتح عام ۱۹٠٦‏ في شارع الرشيد, 
يدعى (شربت زباله)» مقترن باسم الرجل الذي افتتحه» ومازال أحفاده 
مصرين على مكوثه, والناس يعتزون بنوعية ما يقدم من عصائر» رغم وقع 
التسمية المقزز! 


ويمكن رصد فرق بين الذاكرة الفردية والجماعية للمكان, ونجد 
سياقات لبيبة ساقها المؤرخ الفرنسي بيير نورا ۲۲٣e‏ 11012 (۲) في 
كتابه (أماكن الذاكرة ) والذي يعد مصدرا تنظيريا في حقل الدراسات 
التاريخية في فرنسا حول مفهوم الذاكرة الجمعية ذاكراً: (كثر الحديث في 
عصرنا حول الذاكرة الجمعية» وهذا مرده أصلاً إلى غيابما المطلق؛ أي أنه لم 
يعد هنالك وجود لشيء يحمل هذا الاسم...). ومن ذلك ركز نورا في 
دراساته حول ماهية الذاكرة الجمعية على ما عده المقابل الحسي هاء وأسماه 
ب:(أماكن الذاكرة)» وهذا التعريف الواسع للمفهوم, جعل العديد من 
النقاد يطرحون تساؤلات مشروعة حول كيفية فصلها عن غيرهاء وتعريف 
نورا يجعل الظواهر الثقافية المرتبطة "عن وعي أو دونه" بالماضي المشترك 
وبالهوية القومية مجتمع معين كأماكن للذاكرة أمراً ممكناً. 


' نقولا الزهر- مقال: الأكثر خلوداً علاقة الناس بأسماء أمكنتهم - موقع الحوار المتمدن - العدد: 
- 3/۹/۰1 . 
mémoire ) 7 vol. 1994-Paris Y‏ عل Nora Pierre(Les Lieux‏ 


\o¥ 


وتتجلى أهمية نظرية أماكن الذاكرة بكونما مثال معقول للبعد 
التنظيري للكتابة "الذاكراتية" والتي يتم فيها الربط بين التنظير التاريخي 
للذاكرة وبين التصورات الكلاسيكية للماضي المهيمنة على الكتابة 
التقليدية والنمطية للتاريخ(') 


لقد قال الفلاسفة بأن الإنسان محض عقل والملائكة روح والحيوان 
غريزة» ومعيارية قوة الإنسان تتعلق بقدرته على كبح الغرائز وسطوة العقل 
للتمايز عن قرينه الحيوان» بيد أن ثمة غرائز غير واعية جماعية ندعوها 
(السليقة أو الغريزة الجماعية)(")ء والتي تكتنفها الكثير من الشجون, با 
يتعلق بتوقها لأمكنة بعينها ورغبتها الغيبية بالحجرة, با يتكرر بأشكال 
وصيغ اختلفت في الحقب وتوحدت في المنهج» وبالنتيجة صنعت أحداث 
التاريخ "المعيارية" الثابتة, بما نعنيه بمفهوم "التاريخ يعيد نفسه". وحري 
طرق الجانب النفسي الغريزي أو الحيواتي با ينساق مع ما ندعوه (اللا 
وعي) في الطبيعة البشرية» كما في إيحاءات عالم النفس الروسي بافلوف, 
والتي فسر با الظواهر الاجتماعية العائدة إلى غرائز ثابتة تحملها الجماعات 
مثلما الأفراد والتي يحاول الإنسان تحاشيها لمقتضيات التصنع العقلان أو 
الاستخفاف بسطوقاء بسبب هيمنة "العقلانية المادية" في الحياة الحديثة. 


' زهير سوكاج - مقال أماكن الذاكرة - منشور على موقع دروب الثقافي. 
' هذا المفهوم أطلقه عام النفس السويسري(يونغ)» وأخذت تعني رد الفعل المباشر للجموع في 
جميع الحضارات . 

10۸ 


ونجد للحيوانية أو سطوة الغرائز عند الكثير من الطيور التي تسلك 
مسالك أهلها عابرة للقارات» برحلات الحجرة المضنية نحو أماكن بعينها 
رغم أنما تفقد خلال هجيرها حوالي 0۳١‏ من عددها. وكذلك الأسماك 
ابتداءً من الحيتان وانتهاءً بسمك (سلیمان 50102102) احير للألباب» 
والذي يجد نفسه عند الكبر مسجى على ركوب الأهوال والخوض في رحلة 
مضنية تعاكس تيارات الأنمارء مجازفاً ومجتازا جنادل وشلالات وأخطارا 
محدقة تؤدي إلى هلاكه. ليصل إلى المكان المتفق عليه داخل حساباته 
الغريزية» ليضع بيضه ثم ينتحر غير عابئ بما يؤول إليه مصير بيوضه» وكأنه 
مطمئن في أنه أدى ديناً للمكان. وعاد إليه بعد معاناة» وترك سره في 
البيض بما يضمن تكرار الظاهرة من بعده دون تبدل. 


وإذا دققنا النظر في طباع بعض الجماعات أو الشعوب التي سارت 
واستمرت على ما يشبه سجية الحيوان وإملاء "اللا وعي" في مغامرات 
الحجرة التي لا تجد تفسيرا عقلياء بعيداً عما يحكم خوالجها الفطرية الواردة 
من السلف للخلف دون عناء أو إدراك. وبمكن أن يدخل في هذا الإطار 
فكرة ابن خلدون في تفسيره لحركة التاريخ بشوطيها بين مكاني البداوة 
والحضارة, وما يترتب عليها من التغيرات بين البيئتين» حيث جُبل البداة 
على اجتياح الحواضر والمدن الواقعة على تخوم بيدائهم» حينما تسنح لهم 
الفرصة, ثم يتحول هذا الإنسان بعد ثلاثة أجيال» ومن جراء سطوة المكان 
الحضري الجديد إلى إنسان مخالف لسجية أجداده» فيتبدل طبعه وذوقه 
وينخرط في ترف المدينة ودعتها! 


لم أدرك بعد أو أجد المبرر الذي جعل الناس اجر طواعية وكأها تتبع 
الحدس المكانى وتسير على هدى مجالات مغناطيسية كما الطيور أو 
الأسماك في هجرقا؛ فقد تلمست أن أهل شرق أوربا تواقين للهجرة نحو 
غربماء وأن أهل شال أوربا تواقين للهجرة نحو جنوبماء والغربيون عموما 
لديهم شغف بالرحيل نحو الشرق حتى أن الاتجاه أسموه تشريق 
(0112620)»على عكسنا الذين تقنا للهجرة للغرب حت أنه لدينا 
(غربة واغتراب) المتأتية من الاتجاه. وربما يوحي لنا الأمر أن المجرات من 
الجزيرة للمغرب لم تأت في أزمنة الإسلام بل سبقتها بعصورء وربما أكدت 
هذا الحدس الفطري وغير المدرك. وقد لمسنا توق لدى "المغاربيين" بالهمجرة 
نحو الشرق كما صوفية الأندلس. والأمر عينه لدى بداة شرق آسيا 
بالمجرة نحو الجنوب» وعلى العموم نجد تواترا بالبيئات المكانية يلف العالم 
في كل القارات» بوجود صحار على تخوم الوديان اليانعة» فأمست قبلة 
أهلها وقطب بوصلتهم في الحجرات والمجومات» وهذا هو ديدن حراك 
التاريخ برمته. 


وخلاف ذلك نلمس أن أهل الطين والمدر أكثر شغفا وثبوتا وحنينا 
على المكان من أهل الرمل والبادية, ولا يبرحوها إلا مكرهين. وسمعت من 
بعض الإسبان بأن العرب جاءوا لجزيرتهم (إيبيريا) عطشى وبحثاً عن الماى 
وحينما وجدوه بنوا حضارة, وتناسوا أن ثمة إسلام نشأ على فر النيجر 
وكامبيا مثلاء ولم تنشأ حضارة كبيرة مثلما في الأندلس التي لم ولن تبني غير 
حضارة المسلمين» ويبدو أن الأمر ليس مناط بانسياب الماءء بل بانسياب 
العقول والإدراك ليكرس الأخلاق» ضمن أسباب متشعبة لتحضر المكان. 


11۰ 


وبالرغم ما يعزيه المنظرون في أسباب المجرات الكبرى إلى الحلال 
الخصيب في العراق والشام كما الأكدية والأمورية والكنعانية؛ ثم الآرامية 
والكلدانية» والتي توجتها المجرة العربية المقترنة بدشر الإسلام» إلى جدب 
الصحراء والجفاف الطارئ أو الزيادة والتكاثر, لكننا نعدها إحدى مات 
حركة غريزية للهجرة تقمصت من سكن الجزيرة العربية. والأمر عينه ينطبق 
على الرعويين البداة لدى شعوب أخرى مثل بدو آسْيا درءا هجوم التتر 
والأتراك والمغول والحون. بني سد (سور الصين العظيم) ليمنعهم من العبور, 
فاتجهوا مكرهين نحو الشرق» فعاثوا به تخريباء ثم هدأ هياجهم بعد التهامهم 
الأخضر واليابس ونعدها إحدى تجسيدات تلك النزعة التي أرقت 
الشعوب الطينية المستقرة. وإذا أفلح الصينيون في درئها لحين» لكن ممالك 
الشرق لم تتعظ. ونجد من أحفاد هؤلاء الغزاة اليوم شعوب الأتراك 
والأذريين والمنغار وبعض البلقانيين والفنلنديين وبعض سكان البلطيق. أما 
في الشرق القديم فقد كان أكبر دالاتما غزوات الكوتيين والعيلاميين 
والكيشيين والفرس» وني عهود الإسلام كان سقوط بغداد على يد المغول 
عام /85؟١م,‏ الذي ختم خمسة قرون من الصعود الحضاري لبغداد, 
وتسنى له أن يمتلك زمام أمور المند إبان الدول الغورية والغزنوية والمغولية 
لقرون» وني فارس إبان الدول السلجوفية والإيلخانية والتيمورية والصفوية 
والقجرية. 


ونجد على مر التاريخ ترادف الرحيل إلى وادي الرافدين من طرف 
سكان المضبتين الإيرانية من الشرق والعربية من الغرب والجنوب» وكل 


منهم وجد ما يبرره کل مرة» ومكث الأمر حىق اليوم, حيث يجازف 
5١‏ 


الإيرانيون من أجل ولوج العراق» ومبررهم زيارة العتبات المقدسة» ومن 
الممارسات التي تبنوها أنهم دفنوا موتاهم على ضفاف الفرات تبركا بعشتار 
في القدم م ماني البابلي بعد الميلاد(' )» وني عصر الإسلام بسبب وجود 
قبر الإمام علي بن أبي طالب» ثم ابنه الإمام الحسين (ع). 


وسيجد سكان الحضبة الإيرانية مبرراتهم دائماء في شغفهم بولوج 
الوادي الأخضر الذي اكتسى "قدسية" في غريزتم الجمعية. وقد ترتب 
على ذلك جل أحداث التاريخ. ويمكن رصد نزعة الصراع بين من سكن 
مكان هضبة فارس ومكان هضبة الأناضول» فكانت حروب المقدونيين 
ضد الأخمينيين» ثم (الفرثيين والساسانيين) ضد الرومان والبيزنطيين» ثم 
تلاها في أزمنة الإسلام بين السلاجقة والبويهيين والعثمانيين والصفويين ثم 
القجريين» واليوم بين تركيا وإيران بصيغ مبطنة, وسيستمر إلى ما شاء الله. 
ونلمس اليوم منافسة بين عرب الجزيرة وإيران» بذريعة (طائفية)» وأصله 
فطرة جمعية أو سليقه تاريخية, تحاول أن تجد لها مبررا وتأويلا كل مرة!. 


وكما أسلفنا فإن سكان شرق أوربا تواقون غريزيا للهجرة إلى غربما في 
حالة فسرها البعض هروبا من طغيان الشيوعية» وطمعاً بمغريات الرفاهية 
الغربية. بيد أن الأمر استمر حت بعد جيل من زوال الشيوعية في 


' ماني بن فاتك البابلي الآرامي الذي عاش في العراق (71- ۲۷۷م) وهو داعية وفنان رسام 
نسب لفارس عنوة وكان قد دعى لدين مهادن عرفافي(غنوصي). وعومل أتباعه كزنادقة في العصر 
الإسلامي» وانتشر دينه من الصين حتى غرب أورباء ومكث في فرنسا والبلقان حتى قرن مضى. 
وقد أعدمه بمرام الثالث الفارسي ۲۷۷م » وترك كتابه الديني (ماني نامه). 

1۲ 


تسعينات القرن العشرين. وعلى غرار ذلك نجد شعوب الشمال 
"الإسكندنافية" تنزع للرحيل نحو الجنوب با يوصلهم إلى عام الشمس 
والدفء ولديهم في ذلك صولات؛ فقد جاءت شعوب اللومبارديين 
والقوط والنورمان والجيرمان والوندال وحتى السلافيين تماهياً مع تلك 
السليقة بجنا عن الدفء, وعلى هدي (السليقة التاريخية). 


ومازال أهل إسكندنافيا يفضلون أصقاع الجنوب حتى الفقيرة منها 
على بلدانهم المترفة اليوم. وبمكن أن يكون المشروع الصهيوني للسكن في 
فلسطين يسري عليه الأمر عينه في بحث يهود الشمال (الإشكناز) عن 
دفء أرض الجنوب, هروبا من روسيا وبولونياء بجنا عن الدفء والشمس 
للشرق أو سيراً تحت إملاء (سليقتهم الأزلية)؛ ثم تذرعوا وتبرقعوا بحجج 
واهية التبس فيها المقدس والمدنس» وعزوها إلى (وعد الرب) ونجزم أن 
الرب برئ من كل ذلك !. 


لقد عكف الباحثون في تنظيم المدن على تغيير الإطار الفيزيائي 
للمكان من أجل إيجاد فضاء ملائم تتناسب معطياته المادية مع مختلف 
الأفعال والوظائف التي يرومون ممارستها؛ فتغاضوا عن شخصية ذلك 
المكان وأثرها على السلوك الجمعي للأفراد» حتى أتت التغيرات مجانبة 
للغاية المرجوة منهاء فتكون انعكاساتها سلبية في تنظيم الحيط» لتفقد 
المكان وظيفته وأهميته في تركيب عناصره العمرانية. وهذه الشخصية 
تشكل عبر الزمن ذاكرة المكان, ويبقى أثرها ساري المفعول في تحديد ماهية 


11۳ 


الفضاء ورسم معالمه. فهل للمكان ذاكرة يا ترى» تستأثر بشغف الإنسان 


وتؤثر عليه رغم زوال الإطار الفيزيائي أو تقادمه؟ 


وتوصل العلماء إلى أن الإطار الفيزيائي للمكان له تأثير نفسي 
وسلوكي على الفرد؛ فإذا كان هذا الإطار هو الإسقاط المادي للمقومات 
المعنوية, فإن تأثيره لا يختلف عنهاء وردة فعله تكون متجانسة» وطبيعة 
مقوماته تُشْكُل شخصية المكان وروحه. ووجدنا خلال استقرائنا لمعطيات 
تاريخية واجتماعية أن المكان رغم اندثار إطاره الفيزيائي والمعنوي إلا أنه 
مازال يؤثر في الضمير الجمعي للأفراد» ومازال يحدد سلوكهم. الشيء 
الذي جعلنا نتيقن أن المكان له ذاكرة تبقى حية رغم زواله» وهي مستمدة 
من قوة الحضور العمراني والمعماري داخل النسيج القائم؛ فكل الدشاطات 
والأعمال التي تجري داخل الحيز وتتكرر فيه تصبح خاصية من خصائصه. 
وتُشْكُل مع مر الزمن ذاكرة المكان. وثمة رغبات لا تدرك داخل النفس 
البشرية للحركة والتنقل داخل المكان. حيث نجد عرفاً صينيا مازال متداولا 
حتى في الحداثة, حيث تترك الأرض المخصصة لبناء بعينه أو لمشروع قيئة 
عمرانية أو حديقة عمومية لحركة الناس» على سليقتهم لمدة من الزمن, 
ويرصد بعدها الأثر الذي يتركونه على سطحها من خلال اختيار العابرين 
الفطري» الذي يتعلق باختصار المسافة أو تحاشي نقاط بعينها في الموقع, 
وهذه المعطيات ترسم بعناية» ويأخذها المعمار بالاعتبار في الحبكة 
التصميمية للمشروع, بما يقرب التخطيط للحالة الروحية غير المدركة 
بقوانين المادة وطرائق الإسقاط التي يمن عليها الخطوط الناظمة. 


1٤ 


إن قوة التلاحم بين الفعل وإطاره الفيزيائي تعطي شخصية لذلك 
الموقع, بمتد تأثيره على مستعملي المكان مدة زمنية طويلة» وكلما كان 
التغير في إحداهاء كان أثره واضحاً على العنصر الثائ. فتغير الإطار 
الفيزيائي بدرجة ماء يؤدي حتما إلى تغير السلوك داخله» وكذا فإن تغيير 
العادات والتقاليد والأنشطة داخل الحيز مدعاة إلى تغيير إطاره الفيزيائي. 
فنجد مثالا أن اتساع الطرقات بمحاذاة الساحات يفقدها خاصية 
الاجتماع؛ ويضيف في نفس الوقت خصائص أخرى للطرق إلى جانب 
وظيفة المرور. وإذا أحيط مسجد بشوارع سريعة كما حدث في بغداد 
(مسجد أم الطبول) المبني عام ۱۹٦٤‏ فإنه يفقد جوهره بالتواصل مع 
الحي المطوق له والمتواصل معه» وبني من أجله. 


لذا فإن لكل معلم ذاتيته المكانية المتعلقة بوظيفية وسياقات التواصل 
معه. التي تؤثر حتى على ملكاته التصميمية» فمنائر المساجد وبرج الساعة 
في البلديات ومحطات القطارء لا يمكن ان يوضع عبثاء ولا بد أن تحقق 
موقعا يشكل غاية منظور شوارعي» ليلعب دور شواخص الاستدلال 
المكاني. 


إن إجراء التغيرات على المكان المديني دون دراسة معمقة وشاملة, 
قد يفقده وظيفته» ويجعل منه مكانا غير صالح للاجتماع والمعيشة. وهذا ما 
لمسناه في كثير من المدن التي سعى المسؤولون الإداريون فيها إلى تغيير 
مركزها وبؤرها الحيوية» التي جاءت فطرية ووظيفية» وإنشاء مراكز جديدة 


وفق أغاط معمارية وعمرانية جديدة فجاءت النتائج مخيبة للآمال» حيث 


١16 


فقد المركز الأول حيويته ونشاطه» وسعت ذاكرته في تحديد السلوك وطبيعة 
الدشاط» حيث ل يستطع المركز الجديد أن يؤدي مهمته كونه فاقدا 
للذاكرة, إذ لم يلاقح بين الوظائف والأنشطة الجديدة والأطر الفيزيائية 
المشكلة نحيطه. ومن ثم فقدت المدينة توازتها ووظيفتها وأمست جسداً بلا 
روح. 


وبذلك تبقى ذاكرة المكان جوهر تجانس الفضاء والمدينة. وإن أي 
تخطيط لا يأخذ بالاعتبار مجموعة الحقائق المتراكبة من الحس الفردي 
والجماعي سينتج عنها فضاء غريب يساهم في تركيب عمراني لتجمعات 
شبيهة بالمدن, لكنها بعيدة كل البعد عن روح المدن شكلاً ومضموناً 
وشتان بين البناء وروح العمران. 


وهكذا يبقى المكان دوماً يعبر عن أصالة المنتج العمراني والمعماري 
والفني وعنوان انتمائه. ويتحول المكان إلى رمز يخفي المباشرة» ويسمح 
لفكر المبدع الحضاري أن يتسرب من خلاله وتعد المدينة قابرة للبداوة أو 
التريف في الحياة البشرية بما تحمله من ذاتية عقلية وتعكسه من أزمات 
نفسية واجتماعية. للمنتقلين من واحدة للأخرى» الذي يتم في العادة من 
بيئة البداوة باتجاه بيئة الحضر, ونادراً ما يحدث العكس. وهكذا تشكلت 
فكرة الخوف باهواجس والوساوس في الأماكن اللا مألوفة أو نتيجة 
لتصورات مبهمة يحملها البدوي والريفي عن المدينة» وهي فكرة أملتها 
الذات الساذجة وأطرها الاختلال النفسي» حتى أن أمكنة المدينة ومعالمها 
كالشوارع والجدران العالية والأضواء الخاطفة للبصرء أضحت أشباحاً 


١11 


خيفة» ومصدر إزعاج وقلق للذات» بل والشعور بالتيهية والعدمية» وهذا 
كله ناتج عن نزعة الخوف اللاشعوري؛ فالخائف» ولا سيما المصاب ب 
(البارانويا) يعاني من تميؤات لصور وخيالات عجيبة. والنفس القلقة تقع في 
العادة تحت صدمة واقع انفعالي غريب ومخيف. ولذلك فحس الضياع 
والخوف يبقى ملازما هاء ما دامت ملازمة لهذا المكان الذي تجهل معالمه, 
وما دامت غير مُدركة له كما هو في الواقع» يضاف إليها تلك اللامبالاة 
التي يقابل جا الوافد من قبل أهل المدينة» والتي تجعل منه تواق لرد 
الاعتبار لنفسه حينما تحين له الفرصة. وهذا ما حدث مع الطبقات 
السياسية القافزة إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية (تدعى لدينا 
ثورات)» والتي مارست جلها انتقاما من المدينة وأهلهاء بما يوحي بالضغينة 
الكامنة من ترسبات الصدمة الأولى» ولا يدركها حاملها. وحدث هذا على 
الخصوص في الأنظمة الشمولية» ولمسناه شخصيا في سلطة البعث في 
العراق التي جاءت من بادية شاها (قرية العوجة في تكريت)» والسلطة 
الشيوعية في رومانيا التي مثلها طاغيتها نيقولاي جاوشيسكو, القادم من 
قرية (سكورنيجيشت). والسلطتان أذلتا بوعي أو دونه بغداد وبوخارست» 
وتاقتا لإزالة ميراثهما بصفاقة؛ فابتلى جا الإنسان والمكان والزمان(') 


لقد مثلت العمارة الحضارة ضمن تصانيف الفنون» كوا فنا مكانيا 
بينما الشعر مثل البداوة كونه فنا زمانيا لا يحتاج لرواسي وشواخص. 


' لقد بحننا في تلك الظاهرة وأودعناه كتابنا (العمارة الإسلامية.. سجالات في الحداثة)- بيروت 
8 تحت فصل (العمارة الشمولية.. صروح فرعونية تذكر بأزمنة الطغيان)ء والتي نعدها تداعي 
هذه الظاهرة النفسية. 

1۷ 


وبالرغم من تماهي العمارة والشعر في كثير من الوجوه كحالتين مجسدتين 
للفنون. أما المدينة فتبقى مكانا للحضور والتغاقف. وللشاعر رؤى أخرى 
عن المكان تختلف عن المعمار» حيث لا يمثل له مجرد أبعاد وامتدّادات 
هندسية أو طبيعة بيئية يستطيع الإنسان أن يألفها أو يأمن إليها بسهولة, 
عن طريق التعود والتكرارء بل هي قبل كل شيء تلك المساحة التي 
يؤطرها الإحساس والشعور الإنسائ. فالذات تعترف بالمكان, ولكنه 
اعتراف لا منطقي» نابع من الذات أساساًء ومرتأي لرؤيتهاء ذلك لأن 
العمارة منهج منطقي وعقلي ولا سيما في الجانب الميكلي» والشعر لا 
يستسيغ التماس مع المنطق أو العقلانية كونه يصحيه من غفوته الحالمة 
(الميلانكولية) وعاطفته الجياشة, فعادة ما يقولون بأن "الشعر" نابع من 
نفحات الروح» وما المنطق إلا من سطوة العقل المجرد. وهذا يقحمنا في 
جدلية كون العمارة هندسة أم فناء ويكون محكها وشروطها ومعياريتها 
المكان. فما المكان في الشعر إلا موضوع» تضاف إليه الذات بكل 
محتوياتهاء وبذا نستطيع الجزم أنه لا وجود "في الشعر" للمكان الموضوعي» 
لأنه إن هو إلا مكان منظور إليه بعين الذات» مُدرِك إدراكا كليا ومعقدا 
في الآن نفسه. موحداً بما أو منفصلا عنهاء وبالتالي أليفاً لديها أو معادا 
ها('). 


' دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر - قادة عقاق - دراسة في إشكالية التلّقي 
الجمالي للمكان - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - : 2001 


11۸ 


وم يكن هناك من تميّرٍ واضح لدى الذات الشاعرة بين أشكال 
الأمكنة واتجاهاتها وأحجامها وطبيعتهاء إلا بقدر ما تحسه وتشعر به فيهاء 
وبقدر ما يجلب انتباهها فيه فالعالي أو المنخفض, والمنفتح أو المغلق, 
والمقبب أو المستطح., وغيرهاء ليس ها من دلالة ثابتة عند عموم الشعراء, 
إلا بقدر ما تضفيه خصوصية الذات عليها من مشاعر وأحاسيس» مريحة 
أو متوترة. وينتفي في ذلك المكان الموضوعيء ولا يبقى إلا المكان النفسي» 
وهنا مكمن الصعوبة في دراسة المكان لدى شعرائنا المعاصرين تحت 
دلالات محددة, وبخاصة بالنسبة لدراسة تطمح لأن تشمل أطول فترة 
ممكنة لظاهرة الشعر المعاصر؛ فاستقصاء النصوص ذات الطابع المكان› 
توحي بوجود تهايز كبير بين شاعر وآخر, وتجعلنا ندرك أننا بإزاء تجليات 
شت لظاهرة واحدة هي روح العصر المبنية على شروط البيئة الجغرافيا 
والطبيعية التي تحتويهم(') 


وة آصرة بين الألسنة والأمكنة فاللّغة تكسب المكان خصائص 
فيزيائية ومجردة في آن معا. هذا من زاوية النظر إليه على أنه عنصر شكلي 
وتشكيلي في العمل الفني» ويتبدى هذا بصفة خاصة على المستوى 
النحوي من خلال استعمال ظرف واسم المكان, التي تتحدد عبرها تجربة 
الشاعر الكلية مع المكان ورؤياه فيه. فالمكان لا يتُشَكُل حضوره في النص 
الأدي إلا من خلال عناصر اللّغة التي تشكل "مجتمعة بناء بديلا فنيا عن 
المكان الموضوعي» وتَجلّي حسي وذهني له. بسبب تلك الخاصية المزدوجة 


' يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي» ص /51. 
۹ 


التي تمتلكها اللّغة ذات الطابع الجمالي, إذ أن لما بعد يربط بين الألفاظ 
وأصوها الحسيّة. كما أن لكل لغة نظاما من العلاقات التي تعتمد على 
التجريد الذهني (') . 


وهذا الأر يجعل من المكان المديني كتصوير لغوي حسّي» يسمو إلى 
تكوين عام من العلاقات الدلالية المتلاحمة» التي تتجاوز سطح الوجود 
وقشرة الواقع الخارجية, فاتحة بذلك مجالات أكثر رحابة من خلال عملية 
استقطاب طبقات هذا المجالات وصورها الدلالية,» على نحو يمكننا من 
خلاله إدخال هذا النوع من التصوير الحسّي للمكان. ضمن الرأي القائل 
بأن لمجال هو الذي يارس الكلام والحضور, وإن حضوره هذا مُتَضّمَن 
ومتضمن في قاعدة الرسالة أقوى نما هو في فحواها("). 


ويعد المعمار المدرك الأكثر لفحوى ومغزى التراث» حتى أكثر من 
الشاعرء الذي يتعامل مع لغة وطروق وبحور وتفعيلة شعرية, يتهاجن في 
كنفها التراث والمعاصرة أحياناً. لذا فإن صناعة المكان "التراثي" من وجهة 
نظر المعماري هي إعادة إنتاج للذاكرة على أن المشكلة تكمن في أن ذاكرة 
المدينة ليست ما ننتجه من أمكنة بقدر أن نشعر به. لذا استوجب هذا 
الإدراك من المعمار أن يتعامل بمسؤولية وجدية عالية مع منجزه» كونه 
يشكل تراثا لقادم الأيام» مثلما أصبح منجز الأمس تراث اليوم. 


أ اعتدال عثمان - جماليات المكان, الأندلس في الشعر العربي الحديث الشعر ومتغيرات المرحلة- 
ص ١ه‏ - دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد ١9/5‏ 
1 أكرم اليوسف- الفضاء المسرحي دراسة سيميائية- دار مشرق - مغرب - دمشق ٠۹۹ ٤‏ 

1۷۰ 


والمعمار يصنع الإحساس "باحلية" بينما الفرد العادي الذي يسكن 
تلك الأمكنة, ويصنع الحلية التي تتُشْكّل داخله والتي نمت عبر تاريخه 
الشخصي وليس تاريخ امجتمع العام. ومفهوم "احلية" معماريا بحسب 
التسمية الإنكليزي 715 الذي يعني في كثير من القواميس 
"الحدوث أو الحياة بشكل طبيعي في بيئة محددة". 


كما أن المرادف لهذا المصطلح هو كلمة 11126 التي تعني "امتلاك 
خصائص محددة منذ الولادة". فهل المعمار يا ترى لديه القدرة على إنتاج 
أمكنة تملك خاصية الحلية المحضة, وهذا محك يهاجن بين الخيال والمنطق 


وهناك من يتعامل مع المكان المعماري بسطحية شديدة, تحول من 
خلاها المكان إلى مجرد منتج مادي عابرء بينما الحقيقة هي أنه عندما يولد 
المكان يبدأ تاريخه» ويصبح له سجل بمكن الرجوع له بعد ذلك. إن ولادة 
المكان هي ولادة حقيقية للذاكرة. إن البحث عن ذاكرة المكان معمارياً 
وتصميماً هي نوع من السراب» يرتبط بالهوية التي يصعب افتعاها أو 
اقتناصهاء وهذا يقودنا إلى سبر عمق التراث وتحديد ماهيته وقيمته, الذي 
اختلف بشأنه الفرقاء. 


كتب الصديق السعودي الدكتور مشاري النعيم: نحن المعماريون 
نصنع الأمكنة لكن المكان نفسه يتجاوز التعبير الحسي ويتحول إلى عنصر 
تجريدي في الذاكرة حسب رؤية من يمر به ويعيش به» فلا يوجد مكان يعني 


1۷۱ 


للجميع نفس المعنى ولا يوجد شكل يمكن أن يتطابق رأي عدد كبير من 
الناس حوله. لكن دون شك هناك أمكنة وأشكال تثير الذاكرة الجمعية 
ولكن بتفاوت. عندما يكون التصميم المعماري مرتبطاً بلوعة غياب 
الذاكرةء وبالرغبة الشديدة في استعادتما بصرياً يصبح التصميم هنا مثقلا 
بالمسؤولية» وتتحول العمارة إلى أداة إنتاج لا منتج ثقافي حر. 


لوعة الغياب كانت قد جذبت العديد من المعماريين لاستعادة التراث 
وبأسلوب سطحي كما أنما حولت العَمارة العربية كلها إلى عمارة ترائية 
تبتعد كثيرا عن الحاضر والمستقبل وتقدم منتجاً معروفا سلفاً. الذاكرة 
الغائبة كانت سبباً في "غربة الماضي" التي يعيشها البعض هذه الأيام وهي 
السبب التي تجعلنا نتجه للخلف بدلاً من الأمام. رعا يصعب التفكير في 
حل لكن هذا الغياب يصنع خوفا دائما من المستقبل يصعب التخلص 
منه. أفكر دائما في العالمين اللّذين يعيشهما كل عربيء عالم الماضي المثير 
المبهر الغامض الذي يظهر دائما على أنه عام إيجابي يخلو من كل إخفاقات 
الحاضرء الماضي الذي يمكن السيطرة عليه وتشكيله حسب الحاجة بدلاً 
من المستقبل الذي يبدو مظلما. لوعة الذاكرة هي غياب كامل لحاضر 
المدينة وهذا بحد ذاته يبعث على اللوعة('). 


١4881١ د. مشاري النعيم - ذاكرة المدينة لوعة الغياب ولذة الحضور- جريدة الرياض- العدد‎ ١ 
؟-الرياض‎ ١ . 8 بتاریخ 76- نیسان أبریل‎ 


۷۲ 


ولطبقات الوعي موقف مختلف في إدراك المكان بحسب سن الإنسان» 
فزمن الطفولة مثلاً زمن ممتلئ لا يعرف معنى الفراغ, فالكون يملا آناه, 
وآناه تملا الكون, وهو بمذا مكتفٍ بذاته, ومكتفٍ بالطبيعة كما هي 
كائنة. وشعوره كله مركز في اللحظة الحاضرة لا يبغي "بل لا يدرك" سابقاً 
ولاحقاً زمنياً لها. والطفولة بمذا الحس الأبدي المتسامي فوق الزمن قادرة 
على أن تمد الإنسان المحبط بسند روحي بمكنه من مواجهة بؤس حاضره. 
وهكذا فالأمكنة في الطفولة أجمل منها في مراحل العمر المتقدمة, وإدراك 
الطفولة لجمال مفردات المكان أكثر عمقاً من مراحل العمر الأخرى. وربما 
كان هذا كافيا بأن عشرة أعوام من عمر الإنسان كافية بأن تصنع في 
داخله عاطفة خاصة تمكث عالقة في بواطن نفسه لا يدرك فحواهاء ويحتاج 
إلى بوح بذكراها وتحليل مكنوفاء وهذا ما بمكن أن يشكل مفتاح شغفنا 
وعاطفتنا المتأججة لمدينة الطفولة. 


وعواطفنا في حقيقتها جزءٌ من الأجهزة التنظيمية الحيوية الضرورية 
لبقائناء ولهذا السبب نجد أا في أجزاء مختلفة من العام وعبر ثقافات 
نتلفة, تير بمنتهى السهولة. ومن المؤكد أن هناك تعابير مختلفة واختلافات 
في الشكل الدقيق للمنبّهات التي يمكنها أن تستحث عاطفة عبر الثقافات 
وبين الأفراد. وقد اتم الغربيون "أهل الشرق" بالنزعة العاطفية العالية, 
وعزاها المتفذلكون الى ارتفاع حرارة بيئاتنا التي انعكست على طبيعة تلك 
العواطف» ومن التجربة نقر بأن الطبيعة البشرية تحمل نفس الفطرة 
العاطفية حتى في الأصقاع الصقيعة» ويبقى الفرق في إظهارها وطقوس 
ممارستهاء ونحن في الثقافة العربية مبالغون بعواطفنا عموماً مثلما حال 

¥۳ 


الكثير من المبالغات على منهج (الإفراط والتفريط), وثمة ثقافات محلية 
عربية أكثر تطرفاً بإبدائها وممارستها وأخرى أقل من ذلك. 


والشىء الذي يثير العجب هو التشابه وليس الاختلاف. هذا 
التشابه هو الذي يجعل العلاقات بين الثقافات المختلفة مكنة, وهو الذي 
يتیح لفن والأدب والموسيقى والأفلام وحق طرز العمارة والفنون أن تعبر 
الحدود. 


إن الوظيفة البيولوجية للعواطف ثنائية: الوظيفة الأولى هي إنتاج رڌ 
فعل خاص للحالة الستجئة.. على سبيل المثال» قد يكون رد الفعل لدى 
حيوانٍ ما هو الهروب أو الجمود أو مهاجمة العدوٌ أو الانهماك في سلوك 
ممتع. أما لدى البشر, فردود الفعل هي نفسها أساساً, ولكتها تُضبَط, 
كما نأمل» باستدلالٍ وحكمة أعلى. الوظيفة الحيوية (البيولوجية) الثانية 
للعاطفة هي تنظيم الحالة الداخلية للكائن الحي بحيث بمكن أن يتهيّأ لردٌ 
الفعل الخاص» على سبيل المثال تزؤد شرايين الأرجلء في حالة المروب» 
بتدفق زائد من الدم كي تحصل العضلات على المزيد من الأكسجين 
والگلوكوز» وني حالة الجمود في المكان يتم تغيير إيقاعي نبض القلب 
والتنفس. هذا السبب» نجد أنه بالرغم من الاختلافات اللا محدودة 
الموجودة عبر الثقافات؛ وبين الأفراد» وخلال كامل الحياةء إلا أننا نستطيع 
أن نتوقع أن ثمة منبّهات معينة ستنتج عواطف معيّنة ولا سيما منبهات 
مفردات المدينة والعمارة من جراء الإحساس بالفراغ وتراتب الأشكال 
والضوء والظل والملمس. 


VE 


فالعواطف تكيفات مثيرة للاهتمام تعد جزءاً لا ينجرّأ من الآلية التي 
شظم بها الكائنات الحية بقاءهاء وهي بمثابة مكوّن أساسي عالي المستوى 
لآليات تنظيم الحياة. يحب أن تتخيّل هذا المكوّن كما لو كان محشوراً بين 
عَدَّة البقاء الأساسية (أي تنظيم الأيض, المنعكسات البسيطة» البواعث 
النفسية, بيولوجيا الألم واللذة) وأجهزة الاستدلال العالي» ولكته لا يزال 
جزءًا من التسلسل الحرمي لأجهزة تنظيم الحياة. عند الأنواع الأقل تعقيداً 
من البشرء وعند البشر شاردي الذهن وسارحيه أيضاً. فان العواطف نتج 
فعلاً سلوكاً معقولاً إلى حدٍّ كبير. وتعد العواطف جزء من التنظيم متجانس 
الاستقرار وهي على استعداد لتجنب فقدان السلامة الذي هو منذرٌ 
بالموت أو هو الموت نفسه» وعلى استعداد أيضاً لدعم مصدر الطاقة» أو 


المأوى» أو اجدس. 


وكنتيجة لآليات التعلّم القوية مغل التكيّف, فان جميع أنواع العواطف 
تساعد في نحاية على ربط التنظيم متجانس الاستقرار و"قِيم" البقاء 
بأحداث وأشياء عديدة في التجارب الذاتية. ولا بمكن فصل العواطف عن 
فكرة المكافأة أو العقاب, اللذة أو الألم, الدنوٌ أو التراجع» الفائدة أو 
الخسارة الشخصية. حتماً لا يمكن فصل العواطف عن فكرة الخير والشرٌ. 

قد يتساءل المرء بشأن فائدة مناقشة الدور البيولوجي للعواطف في 
نصّ مكرّس لموضوع الوعي والملموس المكاني المعماري. فلا بد من الفقه 
بحقيقة أن العواطف تزوّد الكائنات الحيّة آليا (أوتوماتيكياً) بسلوك موجه 
للبقاء. وني الكائنات الحية المجهّزة للإحساس بالعواطف. أي لامتلاك 


Vo 


المشاعر» يكون للعواطف أيضاً تأثير على العقل, بينما تحدث في المكان 
والزمان الحاليين. ولكن في الكائنات الحية المجهّزة بالوعي» أي تلك القادرة 
على معرفة أا نمتلك مشاعر, فإنَّ مستوى آخر من التنظيم يتم بلوغه. 
يتيح الوعي للمشاعر أن تعرف» وبالتالي هو يعرّز تأثير العاطفة داخلياً. 
ويجيز للعاطفة أن تخترق عملية التفكير من خلال الشعور. 


ويتيح الوعي لأي شيء أن يُعرّف - عاطفة "الشيء" وأي شيء آخر 
- وبفعله لذلك» هو يعرز قدرة الكائن الحي على الاستجابة تكيفياً متنبّهاً 
لاحتياجات الكائن الحي الذي نحن بصدده. العاطفة مكرّسة لبقاء الكائن 
الحي. وكذلك هو الوعي(') 


لقد ہلا تراب الوطن معنا ف شطط المغتربات اهنيز" و" يذة" 
تحمينا من هواجس النفس خشية أن تسلى مكانها الأول في الوطن ومدينة 
الحب غير المدرك في غياهب النفس المرهفة. وحسبنا إن لم نكن في الوطن 
فليعيش هو فيناء وإن لم ندفن في ثراه فلندشد مثلما أنشد من قبلنا الشاعر 
بدر شاكر السياب في قصيدته (نصيحة محتضر): 


من كل بيت في العراء 
من كل رابية تدثرها أزاهير السهول 
إن مت يا وطني فقبر في مقابرك الكئيبة 
' العاطفة البشرية أنطونيو داماسيو - الشعور با يحدث (دور الجسد والعاطفة في صنع الوعي) - 


ترجمة رفيف كامل غدّار مركز التعريب والبرة الدار العربية للعلوم -ناشرون - بيروت ۲۰٠٠١‏ 
1۷٦‏ 





أقصى مناي وإن سلمت فإن كوخا في الحقول 
هو ما أريد من الحياة فدى صحاراك الرحيبة 
أرباض لندن والدروب ولا أصابتك المصيبة 
خير البلاد سكنتموها بين خضراء وماء 
الشمس نور الله تغمرها بصيف أو شتاء 

لا تبتغوا عنها سواها 

هي جنة فحذار من أفعى تدب على ثراها 
أنا ميت لا يكذب الموتى وأكفر بالمعاني 

إن كان غير القلب منبعها 

فيا ألق النهار 

أغمر بعسجدك العراق فإ من طين العراق 


جسدي ومن ماء العراق. 


١ اا‎ 


۵ قدسية المكان 


شم 

0 التبرك بالمكان 

0 جغرافية المقدس 

0 الصخرة المقدسة 

© الإدراك المعرفي 

٥‏ الاسترزاق من المكان المقدس 

غمة عاطفة تنبع من مرهف الحماجس النفسي وتتبع الطرف الروحي 
لتخترقه, وتلج عالم الغيب الذي تدور حوله الكثير من نفحات الظنون 
والإيمان. التى اختلفت وتنوعت وأثرّت وتأثرت وتحولت ومكغت أو 
اندثرت تبعا للأمكنة والأزمّنة. فقد وجد الإنسان في المقدس قوة الذات 
والحقيقة المدغمة في ثنايا الروح التي تبحث عن أجوبة لتساؤلاتها الفطرية. 
لقد جربت البشرية خلال قرن ونيف النأي عن سياقات الحياة الروحية, 
وأحلت المادة محلها. ضمن مسارات تطور الفكر والحضارة في الغرب التق 
عمثت الدنيا من خلال الإملاء أو الاقتباس أو التقليد. والغرب - كما 
نعلم من تاريخه - مكث مقتبسا للفكر الروحي الذي وجد ضالته عندنا في 
الشرق» الذي أنتج وأنضج ديانات كبرى عمت وسادت. 


۷۸ 


وقد رافق التوجه المادي المعاصر توجيه تممة البدائية والرجعية لمن 
ينخرط بعوالم إعانية, حتى أصبحنا بين تجاذبين لقطبين مكانين: شرقي 
وغربي أحدهما يعني بالمقدس وغربي داحض ومزدر ومستخف له» وهذا ما 
انزاح إلى كثير من السياقات في طبيعة ثقافتنا وثقافتهم. والمضحك أن 
أسماءهم الدينية مكثت متواترة من تراثنا اللسان» ولي يستجدوا هم غير 
الدين أسماء تخصهم, ويوحي لي الأمر مغل الأتراك والفرس والأكراد الذين 
يحتقرون العرب» لكن ثلثي لغاتم مترعة بمفردات عربية وأسماءهم ودينهم 
عربي. ويبدو لي أا ضمن الطبيعة البشرية» حينما تزدري قوم لتسصل من 
تبعية أو فضل. 


ويبدو أن مفردة قدس ومقدس موغلة في قدمها ضمن المفاهيم التي 
أدركها الإنسان الواعي» وقد وردت في العربية من مصدر اللّغة الأكدية, 
بصيغة (قديشتو)., والمقدس (مقديش) وطأ شوطا لتسميات المكان في 
الشرق القديم, من (القادسية) على الفرات في العراق حتى (قادس) على 
امخيط الأطلسي في إيبيرياء مرورا ب .(وادي قاديش) في شمال العراق وسال 
لبنان. وتكرر ورود المفردة ثلاث مرات في القرآن الكريم» وترادفت في 
تسميات مواضع قدس وقديس ومقدس, حت اقترن بالخالق سبحانه 
(القدوس) وكذا الكتب السماوية (المقدسة). ثم اقترن الأمر بكل مكان أو 
شخص. لذا تداولت الكنيسة كلمة قدّيسء, "قدّوس" بالأصل التي عنت 
لهم ما هو منفصل عن هذا العالم والمقطوع عنه. وبمكن أن يكون مصدر 
الكلمة من اللغات البدائية (قد) بما يوحي بالقط والحد. وهذا ما ذهب 
إليه الأب مرمرجي الحابي إلى أن الكلمة في اللغات القديمة عنت كل ما هو 

1۷۹ 


مضاد لآخر أو منقطع عنهء لذا ففي الأكدية والحبشية والعبرية دلت على 
القداسة والنجاسة, بما اتسمت به من قطيعة بينهما('). 


ونجد في التراث الإسلامي إشارة تحليلية أوردها البلداني البغدادي 
ياقوت الحموي مقارباً المعنى اللغوي للمقدس ذاكراً: "المقدس في اللغة 
المتنرّه... ومعنى نقدّس لك: أي نطهر أنفسنا لك... ومن هنا بيت 
المقدس» أي البيت المقدس المطهر الذي يُتطهر به من الذنوب.. وقال 
قتادة المراد بأرض المقدس أي المبارك"('). ومن المعروف أن اسم القدس 
أطلق كصفة للمدينة لاحقاء حيث ترد في التاريخ الإسلامي الأول باسم 
(إيليا)ء وهي تعني الربانية (من مصدر إيل الأكدي): وقبلها (أور- شليم) 
وتعني مدينة السلام» حيث أن أور تعني المدينة من السومرية ("). وفي 
العربية حينما نطلب مراعاة (حرمة) مكان ماء نكون أمام حكم عليه بأنه 
يبحمل في ثناياه (القداسة), كما أن الطاهر في اللّغة يحيل إلى "القداسة", 
وجاء في قاموس الشيخ عبد الله البستاني (مادة حرم)» حرمه الشيء منعه 
إياه. والحرام ما لا يحل انتهاكه. وحرم الله على نفسه الظلم تقدّس عنه. 
والحرم الأقصّى وليس المسجد الأقصى الذي بني في الحقبة الأموية ولا 
علاقه له بالتسمية الواردة في القرآن الكريم بسورة الإسراء. وفي لسان 


' الاب ا.س مرمرجي الدومنكي - معجميات عربية سامية ص -١/5‏ جونية لبنان ١98٠‏ 

" ياقوت الحموي. من كتاب معجم البلدان. السفر الأول: اختيار: عبد الإله نبهان. دمشق. وزارة 
الثقافة. ۱۹۸۲. ص ۳۸۰.۳۷۹ 

" منها 172212 أي مدينة باللاتينية وني الرومانية (أوراش) وني المنغارية (أورشاك). ورا في 
غيرها. 





العرب لابن منظور "مادة قدس القدوس الطاهر المتنزه عن العيوب 
والنواقص» وتقدس لك أي نطهر أنفسنا لك» ونأخذ من هذا الشرح 
معنيين للفظ الحرام: وها ممنوع ومقدس, فالحرام ما كان ممنوعاً والمانع من 
إنتهاك حرمته طهارته. وعليه لا يجوز للمرء أن يمس الأشياء المقدسة, أو 
يدنو منها إل في حالة طهارة تامة('). 


ونجد أن كلمة (مار) الآرامية التي تعني المقدس» قد عمت وشاعت 
في الكثير من التسميات» ومنها تسميات: (مريم- مارتا- مارتين - 
مرقص- ماردوخ - مارسيل - مارغريت..الخ). ولم يتسع تداول كلمة 
(مقدس) في الثقافة الإسلامية, وبمكن أن نجد مرادفات في كل الثقافات 
والعقائد, ونجدها في الإنكليزية والفرنسية بصيغة (سانت 53106) التي 
وردتها مع المسيحية بتأثيرات لاتينية» بينما نجدها في اليونانية بصيغة 
(حجيوس 028105) 60/106). التي وردت ۲۲۹ في المخطوطة اليونانية 
الأولى» أو 5٠‏ مرة في نسخة القديس جيمس لأنجيل العهد الجديد, 
ونجدهم يطلقون على كنيسة بيزنطة المشهورة في إسطنبول (حجية صوفيا). 
والمفردة رعا جاءت من اقتباسات مشرقية ضمن كثير من الاستعارات 
الثقافية» والذي مصدره وارد في طقس(الحج) الذي بمارس في الإسلام 
ومن اليونانية القديمة (حجيازو 12851220) 07/1000)) والتي تعني 
(الوقوف مع مجموعة 20316 عك 0))ء ولا نستبعد أن كلمة (حج) 


' تمس الدين الكيلان - قداسة المكان - من كتاب رمزية القدس الروحية - اتحاد الكتاب العرب 


۲۰۰۵١ دمشق‎ - 
1۸1 





الموحية بطقس قد اشتقت منها كلمة (حجاز) كمكان يحمل قدسية» ونجزم 
أن المفهوم والاصطلاح اللساني يسبق القرن السابع قبل الميلاد» وهو 
تاريخ نشوء الحضارة اليونانية('). 


ونجد أن كلمة المقدس عند اليهود ترد بصيغة (صادق 17230311) 
بينما نجده عند المندوس بصيغة (ريشي 11511 ) أو (غورو 2)811111 وفي 
البوذية وردت بصيغة (أرحات غ218 ) أو (بوتساتفا bodhisattva‏ (« 


ونجد كل ثقافة وجدت لا مرادفا لمذا المفهوم. 


إذا كان مصطلح المقدس واضح العنى» صريح الدلالة في الثقافة 
والتراث العربيين والإسلاميينء أي في المعاجم العربية قديمها وحديثهاء وفي 
كتب التفاسير» فإننا لا نكاد نعثر ها يقابلها في الثقاة الفرنسية مغلا بمفردة 
56 18 على معنى واضح ولا على دلالة صريحة» بل حتى على تعريف 
موحد ومتفق عليه في الثقافة والتراث الغربيين» إلى درجة أن علماء 
الأجناس والاجتماع الغربيين رأوا أنه من الأسلم هم أن يصفوا التجليات 
الخارجية لمصطلح 53016 ع[ والمواقف التي يولدها لدى المؤمن عوض 
أن يعرفوه في باطنه» كونه سائب وبدون جذور مفاهيمية مغروسة في المكان 


الثقافي, حتى أننا حينما نترجم للفرنسية أو منها فإننا نوائم مفردات أخرى 


' يذكر مارتين برنال في (أثينا السوداء) أن ثمة شعب من شال الجزيرة العربية القريب من سيناءء 
هاجم الجزر اليونانية حوالي العام ١87٠‏ ق.م, ومكث قرنين ونصف أو ثلاث» وتسنى له نقل كل 
معطيات الشرق الروحية ومن الدين والآهة التي تتشابه بين العربية واليونانية مثل أبولو وهبل أو 
قاسيوس وقاسيون.. الح. 

۸۲ 


مثل عندما نقول المدينة المقدسة فإننا نتحدث عن 5312]6 71116 4 


وعندما نقول مثلا الماء المقدس فإننا نتحدث عن 261116 6811 بآ. 
التبرك بالمكان 


ومن ضمن عقليتنا الروحانية مازلنا نذخر بنفحات تقديس المكان, 
ورعا يعود الأمر إلى بدايات الحياة الواعية حينما استوطن الإنسان وألف 
الزراعة بعد حقب طويلة كان الصيد وسيلته للعيش. وبذلك أمست 
الأرض مصدر غلته. فاقترنت القدسية بمبرر مصلحي وفائدة مرتحجاة. 
وهكذا بدأ البون في طبيعة المقدس» ولا سيما تقديس المكان الأرضي؛ 
فمقدس الجتمعات الفلاحية أعمق وأرسخ وأكثر تعقيداً من امجتمعات 
القنصية والرعوية. حتى أفصح القرآن عن ذلك في وصفه للرعاة: 
(الأعراب أشد كفراً ونفاقاً), ولم ينقد إيمان الزراع. 


ويذكر (هيغل): (وكما حولت الزراعة الحياة البدوية إلى طراز من 
الحياة المستقرة والحضرية» ساهمت القبور والأضرحة وتبجيل الموتى في جمع 
شل البشر وصارت» حتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يعيشون حياة 
مستقرة لانعدام وجود الملكية عندهم, أماكن للاجتماع» اماكن مقدسة 
يذاد عنها ولا يراد لهاء مهما غلى الثمن أن تسقط في يد الغير)(”) 


' هيجل : المدخل إلى علم الجمال » ترجمة جورج طرابيشي » ط۲ » دار الطليعة للطباعة والدشر 
؛ بيروت .2 1١9/8٠‏ › ص1۸. . 
1A۳‏ 





ورعا يكون هذا سبب كاف لعاداة سنن "الحضور" لدى البداةء ورعا 
كان وراء ذلك عدم الاهتمام بإنشاء الصروح فوق القبورءلا سيما لمن أفق 
وخلفيته العقلية بدوية» حتى نجده وقد ألبسها بالحجة وبرهن عليها 
بالنصوص النقولة الساندة حتى الواهية والملتبسة والمختلف عليهاء والتي 
تناقض أحياناً جوهر وصلب الدين الحنيف. وهذا يقع على نقيض من ورد 
من الجتمعات الطينية» من خلال تكريس التشبث بالمكان لأسباب عدة 
أهمها المتعلقة بأن الأديم شكل دائماً مصدر الغلة, وما يتراتب على ذلك 
من أسباب بقاء النوع والعافية والثراء في العيش. كل ذلك نابع من بواطن 
النفس البشرية اللا واعيةء التي تجد ها التبرير العقلي لكل مفهوم موئله 
مصلحي» وهو جوهر الفرق بين الفرق» الذي يجد طريقه للعنف أو 
للتسامح» بحسب طبقات الوعي لدى البشر. 


وبذلك أمست ستَة إقامة الصروح على القبور من مات المدر وأهل 
المدن وصانعي العمران والعّمارة أكثر من البداة تبعا للعقلية القادمة من 
بيئة بعينهاء والتي اختلفت بشأنها المذاهب والمشارب تباعاً. فإذا استعرضنا 
أسماء الفقهاء وأصحاب المذاهب في الإسلام مثل "مالك بن أنس المديني" 
و"أبو حنيفة الكوني". ثم البغدادي والشافعي الغزي ثم القاهري وعبد 
الرحمن الأوزاعي البيروت الشامي» بالمقارنة مع ابن حنبل الصحراوي القادم 
من مرو في بادية آسْيا الوسطى» نجد شتان بينهم» رغم فقههم الواعي 
بالدين الواحد وإيمانهم العميق ووسع إدراكهم وحسن مقاصدهم» لكن ثمة 
عامل اللا وعي البيئوي المملي على كل هواجسهم وآرائهم الفقهية. 


A٤ 


وهذا البون يقف وراء خلاف قبول أو رفض أو دحض طقس إقامة 
الصروح فوق أضرحة الأنبياء والأولياء والصالحين التي تحاط بقدسية 
استشنائية» تتعدى مكانها ومحيطها إلى آفاق أوسع» وتستقطب شغف جموع 
مؤمنة ترد من كل حدب وصوب للتبرك» رجاءً بشفاعة وبركة يسبغها 
الراقد تحت ثراها. وهنا جدير بالإشارة إلى أن الطبيعة البشرية الطامعة 
أفرزت الضغائن, وأججت روح المنافسة بين تلك الأمكنة على خلفية 
المكاسب الادية التي تردها من جموع الحجيج» وتصاعد الأمر حتى أمسى 
مصدر كثير من الخلاف بين الدول التي أوجدت ها ما يميزها مذهبياً 
وأوجدت من (الوعاظ) من يفتي لهذا أو ذاك بحسب المصلحة, فلم 
يتنافس مذهبا الصفويون والعثمانيون العائدين لأرومة الترك والأصل 
المشترك, إلا من جراء المنافسة على مكاسب خط الحرير المار بال هضبتين 
الإيرانية والأناضول, والطمع في الاستحواذ على العراق؛ لذا ابتلي حتى 
المكان المقدس بجشع الإنسان» وتبع للمصالح المبرقعة به» وسار على 
هداها الجهال والمغرر بمم. وأريقت من جرائها دماء. وهنا نعتقد بأن إنشاء 
الصروح الجنائزية برمته نشأ كطقس في اللا وعي لقدسية الأرض واهبة 
الغلة وضامنة دبمومة النوع ومسبغة العافية» فأوجد الإنسان له صورا للتبرير 
في إسباغ المقدس على مواضع وبؤر بعينها. 


نقرأ إشارة لممارسة طقوسية تتعلق بقدسية المكان وردت في التوراة: 
(لا تقترب من هنا قال الرب وسی» اخلع نعليك من رجليك, لأن 


١/5 


المكان الذي توجد فيه هو أرض مقدسة)('). ووردت كذلك في القرآن 
الكريم بصيغة: (فَلَمّا أنَاهَا ودي يَامُوسَى. إِنْ أنا رَبك فَاخْلَعْ تَعْلَيِْكَ إِنَكَ 
بالْوَادِي الْمُقَدَسِ طُوَى)(") 


ونجد مفهوم المكان أو الأرض المقدسة قد ورد في القرآن بآية: (ي 
قوم ادْخُلُوا الأرض الْمُقَدّسَةَ الى كنت الله لَكُمْ ولا تَرْتَدُوا)9"). ولا بد 
من التفريق بين فئات المكان. فثمة مكان دنيوي اعتباري كونه يحمل ذكرى 
وحدث, وثمة مكان مقدس هندسي محدد الموقع والمعالم والأبعاد نتعامل 
معه» ويجنح نحو الافتراض وا محسوس أكثر من الملموس. 

جغرافيا المقدس 


وثمة نوع من الجحغرافيا اختصت بالتصور الديني والروحي خريطة 
الكون» ونكتشف أنه يختلف جذرياً عن النظرة الحيادية أو العلمية 
للمكان» فهو يتخذ حكماً تفاضلياً يحمّلْ بعض الأمكنة رسالة مقدسة, 
وبعضها الآخر إشارات رتيبة» فينقسم الكون بتلك النظرية إلى الجليل/ 
العادي» السماوي/ الأرضي» الشاعري/ النثري, فتنظم هذه الرؤية الثنائية 
للكون. موقف المؤمن من العام الأرضي» بعد أن تشبعه بالرمزية 
والدلالات. فيتحول با فضاؤه الكون "المملوء بالغموض" إلى فضاء 
كثيف با معان والمعقولية» ويضفي معن رمزياً على أماكن بعينهاء أرضاًء أو 


١‏ التوراة - سفر الخروج هامر 
' سورة طه: الآية .١7 31١‏ 
" سورة المائدة: الآية ١؟.‏ 
۱۸٦‏ 


مدينةء أو شجرة, أو جبلاً. أو شاخصا مبنياء أو قبة مقامة. فتختبر 
الجماعة المؤمنة أي كان إبمانما أمام هذه القداسة أعمق مشاعر التبجيل؛ 
تصل بما يشير إلى الأبدية والتعالي وتدخل عبر توسطات الجحغرافيا المقدسة 
تلك في علاقة حميمة مع العالم العلوي حينها تتحول إلى جسر يصل ما بين 
المؤمن والله, وبين المرئي واللا مرئي» وما بين الغياب والحضور, وما بين 
الزمان والأبدية» وبالنتيجة شغف وولع بالمكان. 


وفي نزعة غريبة للبشر في البحث عن بؤرة مقدسة يعدها مركز الأرض 
الحقيقية, نجد في الديانة البوذية والهندوسية اعتقادا بأن قمة جبل ميرو تعد 
مدينة الآهة ومنها يتدفق تحر الككانج المقدس» والشمس والنجوم والجبال 
وقارات العام كلها تتحرك في مسار له علاقة بجبل ميرو. ورحلة الإنسان أو 
حجه إلى قمة هذا الجبل هي رحلة مهمة يصل فيها الإنسان إلى أعلى 
مستوى في الروحانية. ويعد البوذيون وامندوس مدينة فاراناسي مركز 
الكون. أما في أساطير هنود الايا بأمريكا قبل الكولومبية أي في العصور 
القديمة 9..-".٠.(‏ م) نجد أن شجرة ياخشه 27016 تعد مركز 
الكون وفروعها تصل إلى السماءء وجذورها تصل إلى العالم السفلي عالم 
الذنوب. 


وني اليونان كان جبل (أثوس) يقدس لدى الوثنيين» ثم أمسى مقدسا 
لدى النصارى» وفي السياق نقرأ في قصيدة نرويجية قديمة أن شجرة 
يكدراسيل 012511ععلآ تلعب نفس الدور القدسي, مثلما هي شجرة 
(ذات الأنواط) في مكة المكرمة التي أمر الخليفة عمر(رض) بقطعهاء كي لا 


AY 


تشغل الناس عن الإيمان, وذات الأنواط هي الشجرة التي تعلق عليها هذه 
المعاليق» وقد ذكرها ابن الأثير في كتابه النَهَايّة ذاكراً عن الرسول خد 
(ص): هي إِسْمْ شَجرَة بعينها گائٽ لِلْمُشْركينء يَنُوطُونَ ينا سِلاحَهُمْ أي 
علقُوتَهُ ا وَيَعْكُفُونَ حَؤْفَاء فَسالوهُ أن تبعل لهُمْ مِلَهاء فَنَهَاهم عَنْ 
ذَلِكَ.. ومازال الاعتقاد قائم في المجتمع العراقي بأن نوع من شجرة السدر 
(النبق) تكسب البركة ولا يجوز قطعها من باحة المنزل» وإلا جلبت 
النحس! 


وثمة مفهوم الثالوث "المقدس" الذي جاء عند السومريين والمصريين 
برمزية الآلحة/ الملوك الثلاثة, وتداولته بعض الثقافات والديانات» حتى حل 
بالمسيحية برمزية (الأب والابن والروح القدس) الذي مثل بالمثلث 
المندسي الذي حكم الجانب التصميمي والمعياري الجمالي لعمارة الكنائس» 
ولا سيما عند (الإخوان الماسون)» وكان منشؤه كما يظن بعض المنظرين 
مرتبط بالأرض التي شبهت مثل العضو التناسلي الأنثوي» لتشابه وظيفتهما 
الخصبية؛ أو رما رمز الى الحد الأدن من الاستقرار وجاءت منها (ثالثة 
الأثافي). وهكذا كان المثلث المتعاكس أو ما دعي جزافاً (نجمة داود) التي 
نسبت زوراً لليهود» ورمزت لمثلئين باتجاهي الأرض والسماءء وهي في 
حقيقتها أقدم من اليهودية» وتداولتها شعوب قديمة في فنونها ولا سيما في 
العراق ومصر واهند والشام ووطأت حت الفنون الزخرفية الإسلامية. 


وهكذا تطور هذا التثليث مفاهيمياً. ليشكل شروطا ثلاثة أو الثالوث 
المكاني المقدس للناس» وأوها تختص بالتراكيب الجغرافياء وتعني الجانب 


A۸ 


المادي والصفات البيئية للمكان با في ذلك التضاريس وباطنها (الجيولوجيا 
)» والطقس. والنباتات. والحيوانات» والمناظر الطبيعية» فضلا عن العناصر 
التي يشخصها الإنسان, كالمدشآت والمعالم الفنية والحدائق والأثاث المديني 
والمسالك والمسارات.. والأمر الثانى هو الناس في المكان أو بما يتصل 
بعوالم الإنسان وتتجلى في الصلة مع الحيط الجغرافني» ناهيك عن مفردات 
الحياة والمواقف والأحداث والذكريات» سواء حدث الأمر بالوعي ودونه» 
عا يجعل الفرد أو الجماعة مؤتلفه في سياقات المكان.. والأمر الغالث 
المتعلق بعبقرية المكان الذي يشير إلى أمور استغائية مثل الأجواء 
ومواصفات المكان العمراني الذي يختلف بين الأمكنة, فمفردات الجغرافيا 
والناس في مكان ما هم من يصنعوا مفهوم عبقرية المكان 101 8611115 
الذي له دمغته الذاتية كذلك. حيث عنت لدى قدماء الرومان بالجانب 
القدسي والروحي» حيث ظنوا أن ثمة حاجة لإقامة صرح ديني في المكان 
ليكسبه هذه الصفة, بفعل حضور الآلة لها ومباركتها ('), وهو مفهوم 
سبقهم إليها السومريون بثلاثة آلاف عام» حينما اختصت كل الحة بعدينة 
بعينهاء تحرسها وتصوها وتكفيها شر الأعداءء وتجلب لها الرزق الوفير. 


' Hernan Casakin, Ombretta Romice. London: Betham 
Place Identity and Science Publishers, 2011 
Interpretation Based on J. ©. Phenomenology: A Triadic 


Bennett’s Systematics. 


۸٩۹ 





ففي روايات وأساطير أخرى نجد معبدا ما أو هيكل أو مدينة قمثل 
مركز الكون. وفي الديانة البابلية نجد أن الإله مردوخ يقتل الإهة (توم 
تيامات) وتولد الإهة إشارة 2125122113 وهذه الإلهة السماوية تشيد 
معبدا على الأرض يسمى دور- انكي (بيت أنكي 1211ل ) الذي 
بمثل الصلة بين السماء والأرض والمكان هو مدينة بابل ذاتها التي عدت 
مركزاً للكون ونعتت (سرته) التي ألبستها تباعاً لبغداد (سرة الدنيا) ومن 
الطريف أن البابليين كانوا على يقين من أن أي اضطراب يحدث في الكون 
ينعكس على مدينتهم قبل غيرها ثم يعم» ومازال العامة يتداولون المفهوم 
شعبيا حتى اليوم. وعلى نفس المنوال أمست القدس (أورشليم) ومعبدها أو 
مسجدها بؤرة الكون المقدسة. والأمْر عينه أمسى نافذا لمدينة مكة 
المكرمة, وأمست قبلة يتوجه ها المسلمون في الصّلاة والحج» في رمزية 
ركز الأرض والكون, وهذا ما ذهب إليه بعض الباحثين المسلمين ومنهم 
المصري الدكتور يى حسن وزيري» بأن مكة تقع في مركز اليابسة على 
الأرض وأن أبعادها متساوية مع كل الجهات, لذا يجب ان تحل محل 
(جرينتش) في لندن لتكون محل توقيت العالى وهذا ما شجع المملكة 
العربية السعودية لبناء برج ساعة مكة في رمضان عام ١١8475١‏ أيلول - 


"٠5١٠ سبتمبر‎ 


لكن الحقيقةء لم ينبت علميا أن مكة تقع وسط اليابسة أو مركز 
للجاذبية الأرضية أو موقع الكعبة المشرفة والدسبة الذهبية. ولم يثبت أن 
مكة والمدينة يقعان على خط طولي واحد لأن ثمة فارق بينهما يبلغ ١‏ 
دقيقة قوسية. ولا حقيقة لأن أركان الكعبة تشير إلى الاتجاهات الجغرافيا 


1۹۰ 


الأربعة بدقة» بل فيها انحراف» كون شكل الكعبة في حقيقته ليس محعبا 
تماما. ويقول البعض أن مسار المسعى هو باتجاه خطول الطول (شال- 
جنوب) وأثبت أن با انحراف يسير!. ولا صحة أن الشمس لا تتعامد إلا 
على الكعبة المشرفة بواقع مرتين في السنةء بل يشاركها كل نقطة جغرافية 
تقع بين المدارين. ولم يثبت حسياً أن الطيور لا تحلق فوق الكعبة المشرفة 
أو إنما لا تقع عليها. وثمة الكثير من الحشو الغوغائي بما دعي (الإعجاز 
العلمي) الذي اشتغل عليه بعض من جمع بين العلم والإيمان, ونجزم أن 
الإسلام لا يحتاج إلى إعجاز بحذه الحجج التي لا تغني ولا تذر, يكفي أنه 
دين مح وواقعي ويحمل ميراث كل الأزمنة في هذا المكان. 


ونجد مؤرخ الأديان الروماني ميرجة إلياده ( Mircea.‏ 
)١585--110‏ يفسر الحج إلى الأماكن المقدسة (مكة والقدس 
مثلاً) هو توق للنفس البشرية لزيارة بؤرة الأرض ومركزها. وني هذا السياق 
نقرأ رأياً صوفيا للإيرا (سيد حسين نصر) في تنظيره للعمارة الإسلامية, 
من خلال رمزية شكل الكعبة» وعد مكة المكرمة مركز الكون أو نقطة 
التماس الذي تتصل فيه الأرض بالسماء, وأن مربع الكعبة يتردد في أفنية 
المباني ويعكس صورة المعبد المكعب في الجنة ('). 


وني سياق قدسية البؤرة الروحية في مكة التي سبقت الإسلام» حيث 
(Bak‏ کانت اسم إهة بابلية يعني الطيب أو الخير أو المبارك والمبجل» وله 


' د. إبراهيم عبد الباقي - المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية - القاهرة .١945‏ 
1۹۱ 


معابد باسمه في بابل. وله دلالات روحية تشعبت حت جسدت في تسميات 
(سلمان باك) و(باكستان) و(بعلبك) وحتى (بغداد)» وهي نفسها كانت 
مصدر كلمة (مكة) التي تدعى كذلك (بكة) من نفس مصدر (باك) كما 
هو وارد في الذكر الحكيم (إِنَّ اول بت وضع لِلئَّاسٍ لَنّذِي كه مُبَارَكا 
وَهُدَّى لِلْعَالَمِينَ)(١)‏ وتعني الطاهرة أو المبجلة أو المقدسة. 


ونذهب إلى أن بعلبك هي الأخرى سياق لباك ومتكونة من مركب 
(بعل- باك) أي الإله بعل الطيب أو المبارك والمبجل, ولا يمكن استبعاد 
ذلك حيث أن الثقافة البابلية كانت قد رسخت في الحجازء قبل ذلك ولا 
سيما في حقبة آخر ملك بابلي (نبونيد) وأثرت في مفاهيم روحية للإقليم؛ 
حيث وسع ملكه إلى واحة تيماء ودومة الجندل وفدك وخيبر ويثرب, 
وطفق يبشر بدينه (العرفاني) الجديد بين قوم يعبدون إله القمرء وأسهمَ نقل 
العاصمة من بابل إلى تيماء نحو عشر سنوات, ثم انتقل إليها كائيا بعد 
سقوط بابل على يد قورش الإخميني عام 9ه ق.م» وحدثت إباتها 
انتقالات للمقدس وتأثر سكان هذه المنطقة بالّدَنية البابلية وتحويلهم من 
الشفاهية إلى الكتابة» فمقاربة التاريخ بين فتح نبونيد (865ه-#4ه 
ق.م.) 


وتبنى الثموديين للكتابة في أواسط القرن السادس قبل الميلاد 
وبحسب رأي أكثر الباحثين, يحيلنا إلى حقيقة التأثر اللغوي والمصطلحات 


أسورة آل عمران, الآية 94 
1۹۲ 


الدينية ذات الأصل الأكدي وهي ذات طابع مؤسساق تفتقر ها ثقافة 
نمود في القرن السادس قبل الميلاد بحكم بداوتًا 


قرأت للمصري الدكتور حسين مؤنس في كتابة المساجد (') بأن اسم 
(محراب) العنصر الوارد في العمارة الإسلامية مستوحى من طقس حربي 
يعود للبدايات الأولى للإسلام, حينما كانت توضع (حربة) شاخصة مرئية 
باتجاه القبلة لتنعتها للمصلين. لكنه استدرك الأمر ورفعها من النص بعدما 
اطلع على أن الكلمة أقدم من مفهوم المسجد وعهود الإسلام. ومحراب 
جاءت من مصدر(ماك- راب)أو (ماكوراب) الواردة في الأمهرية الحبشية 
والتي شاعت في جنوب الجزيرة العربية كذلك ونقلت تباعا للحبشة, والتي 
عنت المعبد أو الكنيسة المسيحية. وتقودنا سياقات الكلمة (باك) إلى 
حقيقة أن الحضارة اليمنية قد أخذت الكثير من المصدر العراقي قبل 
صعودها السبأي حوالي القرن السادس قبل الميلاد. بعد أن احتلها 
الآشوريون. ونجد أن الحاكم اليمني كان يلقب (مكرب) في بداية حكم 
الممالك بما يحمله من إشارات دينية مقدسة أي (ماك- رب) (وتعني الرب 
المالك). بيد أن المؤرخ العراقي الدكتور جواد علي ذهب إلى أن لفظة 
(مكرب) إنما تعني (مقرب) وأن (المقرب) هو المرب بين الآهة والناس 
والواسطة بينهما والشفيع هماء أو حتى قرب (امرأة) أو ضاجعهاء أو 
أحضر جندا". ونذهب إلى أن هذا المعنى أمسى نتيجة بعد تداول الأصل 


أ مؤنس» د.حسين: المساجد - صدر ضمن سلسلة عالم المعرفة - العدد ۴۷- الكويت 
' علي د. جواد - مقومات الدولة العربية - مجلة المجمع العلمي العراقي - الجلد الثامن والثلاثون . 
الجزء الثاني والغالث ٠۹۸۷.۱٤۰۷‏ 

NAT 


المركب من كلمة (باك), وقد ذكر (ريكمانز) أن لفظة (كرب) تعني 
الموحد » وفي المعجم السبأي جاءت لفظة (كرب) بمعنى نفذء والتزم 
وتقيد (بواجب)» وكذلك توجيهات أو أوامر, ويأتي اسم (مكرب) لقباً 
لرئيس حلف قبلي في الفترة المتقدمة, وفي عهد التوحيد اسماً بمعنى معبد 
وبيعة» ودار» ومحفل 0 


أما عن كيفية ظهور حكم ال (مكاربة) فلا توجد نصوص 
توضح ذلك» وتغير بوقت متاخر جداً إلى (ملك)7". ومن (ماكوراب) التي 
تعني الكنيسة بالحبشية وعند نصارى نجران» استرسل اسم (محراب) في 
العمارة الإسلامية الذي عني المذبح في المعابد أو (41]21) الكنائس» 
حتى أنه دعي المذبح أحياناً في بواكير تكون الاصطلاح الإسلامي. والمذبح 
)Sacred 5]00©(‏ عنصر معماري على شكل حنية جدارية أو تجويف أو 
مشكاة, بما يقابل المذبح في المعابد الوثنية وفي الكنائس المسيحية. وكان في 
المعابد يعني مصطبةء أو منصة مرتفعة من الحجر أو الطين أو الخشب» 
تنحر عليها الأضاحي أو تقرب القرابين للآلحة. وهو المكان الذي يتصل 
فيه العابد بمن يعبد» فيتزود منه بالقوة. وتتخذ بعض الشعوب البدائية 


ص .5١‏ 
أنقلاً عن: عدنان ترسيسي» اليمن وحضارة العرب» (بيروت: مكتبة الحياة » د.ت) »> ص۲۲ . 
Beeston and Other ,Sabaic Dictionary ,publiccation of‏ 
University of Sanaa YAR (Louvain :1982),P.78.‏ 
" نقلاً عن بحث للدكتور جواد مطر الموسوي: الثالوث الإلحي في الميولوجيا الإلهية القديمة - 
منشور- جامعة واسط. 
NE‏ 


مذابح ها في مساكنهاء فيكون المذبح في هذه الحالة مجرد مكان دفن 
الأسلاف أو المكان الذي توضع عليه الفتشات والتماثيل والآنية 
الفخاريةء وقد ورد في المعابد السومرية. وهذا يعني أن (ماك - كراب) تعني 
قربى لماك أو (قربان لماك) وهي تعكس مفهوم المذبح - الحراب. ومازال 
أهل العُراق يستعملون اسم (باك) ظنا منهم أنما فارسيةء الذي اقترن باسم 
الصحابي الجليل (سلمان الفارسي) الذي يدعوه العراقيون (سلمان باك) 
وتعني المبجل أو الخير. وهذا كان وراء اختيار اسم دولة باكستان (باك - 
ستان) التي انفصلت من اند عام ۱۹٤۷‏ . واختارت مصدر(باك) عا 
يعني بلد أو أرض الخبر والطيب والمكان المبارك. 


كل ذلك يدعونا إلى إعادة قراءة الكثير من المسلمات» وإخضاعها 
لآخر معطيات الدراسات» وليس إرجاع الدراسات والمكتشفات الحديثة 
إلى تأويل قديم. فالدنيا تسير إلى الأمام, والزمان يتقدم, ولا يمكن أن يعود 


القهقرى. 


وثمة بون بين إدراك الإنسان والحيوان للمسافةء وقد تطورت عند 
الإنسان مع تطور وسائله, فعند الحيوان ثمة إحساس بالمكان يحدد دون 
مسافات بعينها وسماها مؤرخ الفلسفة الألماني أرنست كاسيرر) -۱۸۷٤‏ 
هه “بالمسافة الحسية”, والإنسان وحده الذي توصل إلى “المسافة 
الرمزية”, أو القياسية الهندسية ضمن سياقات تطور علوم الرياضيات 
وال هندسة التطبيقي. ويذكر كاسيرر بأن إذا كان الإنسان أدن من الحيوان 
فيما يتصل بالمسافة العضوية (مساحة العمل)» فإنه يعض قصوره هذا 


14° 


بامتلاكه لمفهوم (المسافة الرمزية امجردة) التي تعبّد له الطريق إلى الوجهة 
الحضاريةء وتنقله من “مسافة العمل” إلى “المسافة الرمزية” با فيها فكرة 
قداسة المكان والفكرة النظرية» والعلمية للمكان والمسافة, أي المسافة 
الهندسية» أما عن الإدراك الأسطوري (المينولوجي) للجانب القدسي 
للمكان, فهو لا يختلف في معانيه الشعورية عن الشعور الديني تجاه المكان, 
نما الذي يتغير فيه الأشكال الطقوسية والعبادات» وأماكن العبادة» وعلاوة 
على ذلك فإن المساحة التي تخص القداسة الأسطورية أوسع نما هي في 
الدين, ولا سيما الدين التوحيدي» لأن ما تدركه الأسطورة من قداسة/ 
نجاسة يشمل العالم بأسره, فيتخذ إدراكها للعالم والمكان طابعاً فراسياً. 
ويصبح عالمها عالماً درامياً. عالم أعمال وقدرات متصارعة, ومدركاتًا 
مفعمة بالخصائص العاطفية» فكل شيء عندها: خير أو شرّير» صديق أو 
عدو» مألوف أو غريب, تشبه حالة إدراكناء عندما نكون في حالة هياج 


عاطفي('). 


وهنا جدير بالإشارة الى طبيعة العمائر الجنائزية الرامزة مجازاً لقدسية 
المكان» وتأخذ في العادة السمة الصرحية وتمارس في كنفها أرقى مات 
التفريغ الفني» حتى لتعد تلك (القبور) من أجمل عمائر الدنياء وحافظة 
"أرشيفية" لطرز العمارة والفنون, لما اكتسته من حرمة في تقويضها احتراما 
للموتى "الّذين لا يدافعون عن أنفسهم" لذا أملت طقوس الفروسية 


' أرنست كاسيرر. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية أو مقال في الإنسان, ترجمة إحسان عباس 
. دار الأندلس . بيروت ١951١‏ ص ا5. 


تحاشيها. ولدينا مثال: الأهرام في مصرء وتاج محل في الحند.ء وقبور 
السعديين في مراكش» وكلها صروح جنائزية. ولا يغفل جانب التأثير 
النفسي المرادف والمرتجى من تلك السمات الباذخة؛ لتزيد من إبمان العامة 
بأهمية صاحب القبر وتسبغ عليه قدسية استغنائية» حتى لو لم يكن الراقد 
يحمل قدسية ولم يسلك مسلكا قيميا في حياته, كما هو حال قبور الأمراء 
المماليك في قرافة القاهرة, والتي يؤمها سذج القوم للتبرك بسبب هيبتها 
ونسب البناء المبالغ به في صرحيتهاء بالرغم من أن جل الراقدين تحت 
قباجحا من الأمراء الفساق والسراق. 


وعلى نفس النهج نجد أن الأوزبك وقد زينوا قبر تيمورلنك بالآيات 
فالأشكال المعمارية والفنية المبهرة لا صلة لما بمقدس. بل هى إغواء 


وجذب جمالى» موحى ومساعد لإكساب المكان المعماري قيمة مقدسة. 


إن الأئمة الأطهار الراقدين تحت القباب الذهبية في العراق وإيران» 
التي تدعى (العتبات المقدسة). لا صلة معمارية وفنية ها بصفة الراقد تحت 
قبابماء من شاع بزهده وانقطاعه عن ملذات الدنياء ونجزم بأن الإمام علي 
بن أبي طالب (ع) لو بعنه الله وعاد الى مكان قبره المغشى بالذهب في 
(النجف)» لرفض الأمر جملة وتفصيلاء وقوض المبنى بيده. وهنا لا بد أن 
أشير إلى متناقضة في حياتناء بأن القباب الذهبية المقامة على أضرحة الائمة 
تطوق بمدائن وبيوت بائسة وفقر مدقع. في النجف وكربلاء والنجف 
وسامراءء لا بل أن كثيرا من سكان تلك البؤر المكانية المقدسة من 


1۹۷ 


الفاسدين والمفسدين. ومن المعلوم أن تلك المجتمعات كانت بؤر لانتشار 
التنظيمات الشيوعية والقومية الملحدة قبل نصف قرن. كل ذلك يقتضي 
خلق توازن قيمي بين الراقدين تحت التراب والساكنين أحياء على تخوم 
روضاتهم, وأجزم أن الأمر يحتاج إلى دراسات اجتماعية ونفسية وأخلاقية 


3-00 


معمفاه . 


وعلى العموم فإن نزعة القداسة للمكان لم تستجد في الإسلام وإنها 
تضرب في جذورها إلى عمق التاريخ البشري؛ فقد احتلت الأسطورة 
(الميفولوجيا) الموقع الأهم لتلك المجتمعات, ونظرقا الشاملة» إذ أحاطت 
بجميع فعالياتًا الذهنية, ومنحتها ناظماً معيارياً يتحكم بمجمل سلوكها 
الاجتماعي» وأعطتها تفسيراً لأصل العام والجماعة» وذكرت الأحياء 
بأبطالهم الأسطوريين وغلفت بدلالتهاء وبالبنى الرمزية التي حملتها الحياة 
الاجتماعية برمتهاء ورفعت سلماً من القيم حددت على هداه وجهتي 
القداسة أو الدناسة فيما يحيط بحا من أمكنة, وإن تكرار الجماعة 
لطقوسهاء يهدف إلى إعادة إحياء زمن الولادة الأسطوري لتمنح حياتا 
المعنى. ولتدل به على المقدس في حياّا. ومعاشهاء في المكان والزمان. 


الصخرة المقدسة 


وحدث في شجون قدسية المكان أن الأديان التوحيدية تحرّرت من 
سطوة فكرة الإله من العناصر الطبيعية والتشبيهية» وذلك برفعه فكرة 
التنزيه امجرد إلى ذروة التسامي» وبعد أن كانت عبادة الجماعات لظواهر 
الطبيعة» وامتدّادات المكان» تقوم على توسيط (التابو) الذي يختلط به 


۹۸ 


المدنس والمقدس» فتقود الإنسان المؤمن بالأسطورة إلى الانحناء والخضوع 
له» بوعي ملتبس. بيد أن مبدأ التوحيد رفع هذا الالتباس عن المكانء 
وعن الطبيعة» بحصر المقدس في بؤر مكانية محددة, ليفتح أمام العقل مجال 
التفكير العقلان والعملي ببقية العام حاولة اكتشافه. بعد أن حصر 
قداسة المكان في مجال محدد» دون أن يستغرق فيه فنتج عن ذلك تحرير 
الروح والنفس من إشكال توسط المكان. وغدت العلاقة الفردية الإبمانية 
علاقة مباشرة بين الإنسان والله» فينهض الإنسان - وهو كائن روحي - 
لإقامة عالم أخلاقي متوافق مع تقوى الله وبرزت خلال ذلك العناصر 
الشخصية في المقدس الإلهي. حيث ل يتبق إلا ذات واحدة» تبسط رحمتها 
على مجمل المعمورة» وترمز إلى قداسة بعض الأمكنة المحددة, المشتملة على 
ثلاث تشد لما الرحال هي: الكعبة» والمسجد الأقصى» والمسجد 
النبوي('). 


وخصص الراغب الأصفهان فصلا في الأمكنة والأبنية مستندا إلى 


الآية الكرعة (أَوَ1 يَرَوْا أ جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفْ اناس من حَوْلِمْ 


ا و ن ب واھ ا وة ۲ 
أفبالباطل يُؤْمِنودَ وَبنِعْمَةٍ الله يَكفرُونَ) () 


وهي حرم إلى يوم القيامة وأي ناحية من الكعبة يصيبها المطر 
فالخصب في تلك السنة في تلك الناحية, ومن علا الكعبة من العبيد فهو 


' يوسف شلحت - نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني . الفارابي . بيروت. ۳ . ص 
0.51. 
سورة العنكبوت- الآية ۷ 


حر, وإن الذئب لا يصيد با الظباء وإن الطير لا يعلو الكعبة إلا وهو 
عليل» وإذا طار فانتهى إلى الكعبة افترق فرقتين» وشأن الفيل معروف(') 


ومن الطريف أن جمهرة من الناس ما زالوا يعتقدون مثلا بأن الصخرة 
المشرفة في القدس التي بنيت فوقها القبة الجميلة في زمن الخليفة الأموي 
عبد الملك بن مروان خلال الفترة ۸۸٩م‏ - 1937م » بأنها موضع عروج 
الرسول جد (ص) من المسجد الأقصى إلى السموات العلا في معجزة 
الإسراء والمعراج» ونعلم اليوم أن المسجد المتاخم (الأقصى) بني أيضا إبان 
تلك الحقبة لأسباب تتعلق بحدث سياسي» منع الحجاج من الوصول لمكة. 
أما الأقاويل التي نسجها ويتناقلها سذج القوم من المسلمين فهي أقرب 
للأسطورة, وهي تتداول بأن هذا الموضع هو عرش الله الأدى على الأرض› 
ولذلك اختارها الرسول للعروج منهاء وأنما تتوسط الأرض كما هو حال 
مكة كما ذكرناء وأن هذه الصخرة معلقة في الهواءء ولا تستند على الأرض 
أبداء وأن يوم القيامة يحدث حينما تسقط هذه الصخرة على الأرض. 
ناهيك عن أن هذه الصخرة مباركة,» وهي من صخور الجنة, وها مكانة 
الحجر الأسود, لأغما من عين المصدر, وأن رائحة المسك تفوح من هذه 
الصخرة» ومن يلمسها تبقى رائحة المسك على يده لأيام عديدة. ويوجد 
عليها موضع لقدم النبي خد (ص) وأن عليها أيضاً مكان سقوط عمامته 
عندما بدء البراق في الصعود إلى السماء.. الخ. ويظن المسيحيون كذلك 


' الراغب الأصفهان - محاضرة الأدباء - ج۲-ص۸۷. 
0 ۲ 


بأن تلك الصخرة مكان عروج "أخنوخ" و"إيليا" إلى السماء. وأن ع3 أثر 
١ 75 MN. fm 0‏ 
قدم "أخنوخ" محفور عليها ( ). 


وجاء في الموروث اليهودي أن صخرة القبة تحتل موقع المعبد اليهودي 
الذي كان قد أقيم في المكان الذي قدَّم فيه إبراهيم ابنه أضحية فيه 
(بحسب زعمهم). وحري ذكر أن لم يرد في القرآن الكريم ذكر لتلك 
الصخرة» وورد ذكر "صخرة" في موضعين فقط» في قوله تعالى:( قَالَ أَََيْتَ 
إِذْ أَوَيْنَا إلى الصّخْرَة فَإِيّ نَسِيتُ الوت وَمَا أنسانية إلا الشَيْطَانُ أن 
ذْكُرَ؛ وَاتََدَ سَبِلهُ في الْبَحْرِ عَجَبًا)(")» وني قوله تعالى: (يا بي إِنَهَا إن 
تك مال حَبَةِ ن حَرْدَلٍ فتن في صَّخْرَةٍ أو في السسّمَاوَاتِ أو في الأرض 
أت ا الله؛ إِنَّ الله لَطِيفْ خَبِيرٌ)(”). وما ورد في القرآن الكريم وني أكثر 
من موضع» يتعلق بفضل (المسجد الأقصى) الذي لم يعين مكانه بالضبط, 
وأن البركة فيه وفيما حوله, ولم يذكر أي فضل بشكل خاص في الصخرة. 
ولم يرد أي حديث نبوي صحيح في فضل هذه الصخرة» أو يرد عن 
صحابة رسول الله (ص) أو عن أي من علماء الدين من السابقين 
والتابعين» أهم عظموا هذه الصخرة وخصوها بعبادة أو ذكر أو قدسية 
استثنائية» بميزها عن أي من صخور الأرض. أما (المسجد الأقصى) فكان 


' كارين آرمسترونج - القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث - ترجمة د.فاطمة نصر, د. جد عناني 
ES‏ 

" سورة الكهف - الآية: ۳ 

" سورة لقمان - الآية ١‏ 


الخليفة عمر بن الخطاب قد بنى في نفس الموضع مسجدا خشبيا متواضعا 


وفي سنة ۷٠۹‏ م» شيد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك مسجداً 
جديداً محل مسجد عمر» وقد تعرض هذا المسجد للتدمير مرات عديدة 
وأعيد بناؤه وأحدثت به بعض التغييرات('). يقول الزمخشري بأن: 
"والمسجد الأقصى: بيت المقدس, لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد" ('). 
وقد أصاب في رأيه جانبا من الحقيقة إذ يرى أن المقصود بالمسجد الأقصى 
مكان وليس مبنى» وعلل البركة فيه بأنه محفوف بالأتهار والأشجار المثمرة! 
ذلك كان الرأي حول حقيقة عدم وجود المسجد الأقصى وقت نزول 


سورة الإسراء. 


ونجد اليوم رأيا ذكره علماء مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر سنة 
8ه بأنه يوجد سور في أورشليم بحيط بمسجد الصخرة المعروف الآنء 
وبعض الأبنية» وأن المسجد الأقصى قدبما يطلق على المساحة التي يضمها 
هذا السور وأن الإسراء وقع في هذه المساحة, وحينئذ لم يكن في ذلك 
المكان بناء معروف بالمسجد الأقصى» ولا آخر معروف بمسجد الصخرة 
المشرفة, ولا سائر الأبنية المنتشرة في ساحة المسجد, وإنما سمي في الآية 


' كارين أرمسترونج: المصدر السابق ¬ ص /اه5. 
' الإمام محمود بن عمر الزمخشري - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في 
وجوه التأويل الجزء الان ص ۸ منشور 

3 


بالمسجد لأنه مكان للعبادة .)١('‏ أما الحجر الأسود والموجود في الكعبة 
المشرفة, ل يرد ذكر تقديسه في القرآن أو في السيرة» وما فعله البي (ص) 
بأنه كان يقبله» وثبت أن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قال وهو يقبل 
الحجر الأسود: "والله إن لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفعء ولولا أن 
رأيت رسول الله (ص) يقبلك ما قبلتك". وقد رواه البخاري ومسلم! 


ونجد بأخبار ذلك المسجد العجب العجاب» فثمة فرقة دينية في 
أمريكا تزعم أن المسجد الأقصى ليس هو مسجد القدس بل هو مسجد 
في السماءء وأخرى تدعي أنه مسجد قاديان في الحندء وثمة رأي بمائي 
يعلن: إن المعبد الأقصى هو الموجود في جبل الكرمل في مدينة عكا 
القديمة! ونجد نصارى بروتستانت (النصرانية المتصهينة) بأنما لن تتحقق 
نبوءاتهم وآماهم بخروج مخلصهم إلا بمدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل 
سليمان اليهودي..اخ. 


ولا بد من الإشارة إلى مرام مبطنة تروم تغيير معام المكان» بكسب 
أهواء تتبع تأويلات دينية أسطورية. ونقرأ عن خطط تتبناها الصهيونية 
العالمية وتجسدها دولة إسرائيل» وهي تحتل ذلك الموقع بقوة السلاح» 
حيث نقلت صحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية عن مصادر أمريكية 


فيضو 


قوها: إن الجماعات اليهودية المتطرفة, التى تعمل بشكل سري داخل 


' المصدر: مجموعة من علماء مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف - كتاب بيت المقدس في 
الإسلام - ص 59-58, وذلك نقلا عن كتاب هيكل سليمان عند المسلمين وأهل الكتاب 
للدكتور أحمد حجازي السقا - مكتبة النافذة - ص /75. 

1.۳ 


الولايات المتحدة, تدفع با أوتيت نحو الإسراع في هدم المسجد الأقصى, 
وقد تعرضت هذه الجماعات مؤخرا لاختراق من قبل أمريكيين. وأدى هذا 
"بحسب الصحيفة" إلى تسريب ما زعموا أا أسرار (خاتم سليمان) وفك 
شيفرات رموزهم الدينية من قبل الروائي الأمريكي (دان براونز) في روايته 
الجديدة التي أطلق عليها تسمية (الرمز المفقود). وني أيلول/ سبتمبر عام 
٥م‏ تم إنشاء (غرفة القدس الماسونية) في جوار المسجد الأقصى, 
وهي منظمة يهودية» وقد أمر بإنشائها رئيس الحفل الماسون الإيطالي 
(جيوليا دي بيرنادو) لتنفيذ مشروع ما أموه (جبل المعبد), وخلال حفل 
الافتتاح أعلن: أن إعادة بناء الميكل هو جوهر دراستناء وفي كتابه (بناء 
المعبد) الذي كتبه (بيرناردو) وأصدره ٦۱۹۹م‏ ركز على العلاقة بين 
الكابالا اليهودية وإعادة بناء الميكل في موقع المسجد الإسلامي الذي 
بدأت بوادر التقويض من خلال الحفر من تحته('), حتى أنحم شرعوا 
يشيدون الكنس من حوله. با يدلل على قافت وتفاهة النوع البشري 
المتناحر مع أخيه الإنسان من أجل ذرائع بقدسية مكان. 


وجدير بنا أن نشير إلى رأي أورده الباحث العراقي فاضل الربيعي» 
بأن الأماكن المقدسة الواردة في المدونات اليهودية» والتي تأسست عليها 
مشروع الصهيونية» هي في الأصل محرفة عن تسميات موجودة في اليمن 
وليس فلسطين؛ فأورشليم وهي (إيليا) في صدر الإسلام أو (القدس) 
الفلسطينية التي اكتسبتها من منزلتها الإسلامية» ووردت في التوراة بصيغة 


' عيسى القدومي-مركز إعلام القدس- مقال : الماسونية والمسجد الأقصى- منشور. 
٤‏ 


(بيت يبوس)» فهي لا علاقة لها با ورد في ترانيم الشاعر(النبي) اليهودي 
حسقيال؛ فهي تقع - برأي الربيعي - قرب جبل صهيون وجبل كتاف. 
على الطريق إلى جبل كتاف في صنعاء ولا وجود والوادي الذي يطل عليه 
الحصن يدعى دار شلم (سلم). 


ومن المفارقات الحيرة للألباب بأن الحنين إلى (جبل صهيون) المقدس, 
والذي بنت عليها (الصهيونية) مشروعها السياسي الملتبس في الدين 
وخلط المقدس بالمدنس» فإنه لا يوجد أي جبل يدعى صهيون قرب 
القدس العربية (') أما صيغة صيّون ¥ هي ذاتما صيغة صهيون 
¥ بحذف الحاء الوسطية على عادة اليمنيين اللسانية» في نطق بعض 
الكلمات والأسماء مثل: يهريق الماء/ يريق الماءء تمر يهرعش/ مر يرعش. 


ولغة الحاء الصوتية هذه لغة عربية قديمة ظهرت في غرب الجزيرة 
العربية. والأمر ينجر على جل تسميات التوراة مثل جبل الكرمل» وهو من 
جبال نجد اليمن الشهيرة ورد ذكره في الشعر الجاهلي؛ ولا علاقة له باسم 
الكرمل الفلسطيني» أو اسم دمشق فهي توحي بأنما دمشق الجوف اليمني 
وقد وصفها الهمدانن على النحو التالي: (الرمادة بالجوف صرعة حوضي 
السبال» والوشيج والمنتصف والأفرحان والقنع وعناق وفتاق وأجماد 
الْجاج معن واحف وبستان الفرنية النميط جلاجل - وجلاجل لوداعة 
أريك الفوارس غير أريك الأبيض والفوارس أجبال» الشبا وبردى فر 


' فاضل الربيعي: القدس ليست أورشليم - بيروت 010 
Yo‏ 


بناحية دمشق) .)١(‏ وهي - برأي الربيعي - بلدة شعفاء التي كانت لما 
علاقة لما بالعاصمة السورية. 


ومن الناحية المنهجية فإن الصورة الشعرية المذهلة لصرخة الرّب كما 
ترد عند حسقيال اليهودي, لا نظير لها إلا في التقاليد الشعرية الأقدم, 
وبشكل أخص في الترانيم الدينية السومرية, مثلاء الترنيمة المرفوعة للإله 
(القمر) سين (وهو إله اليمنيين القدماء, وربما جاء منها الاسم العربي 
وتقول ترنيمة حسقيال: 

عندما يدوي صوتك في السماء 

يخرَ الإيجيجي سُجِدَاً على وجوههم 

وعندما يدوي صوتك في الأرض 

رمه لس 5-7 4 ۲ 

يُقبّل الأنوناكي وجه الأرض( ). 

وني التقاليد الدينية السومرية ثم البابلية؛ فإن الإله تموز وهو يهبط 


كلمة يقوها الرّب. وقد لاحظ س. هوك في كتابه (ديانة بابل وآشور)» أنه 


"ما لم يرجع تموز عن كلمته لا فائدة ترتجى من صلاة أو رقية في تحويل 
' الهمداني : صفة جزيرة العرب - في وصف ديار تميم في الجوف - ص٠ .٩‏ منشور. 


" فاضل الربيعي: (فلسطين المتخيّلة) - دار الفكر - دمشق .۲٠٠۸‏ 
۲۰٦‏ 





مجرى الأحداث", وهذا يؤكد حقيقة أن التقاليد الشعرية الدينية كانت 
تتواصل على مستوى الأفكار المركزية. ومن الواضح أن قصيدة عموص 
الدينية تتماثل مع الأشعار الدينية السومرية وتتواصل معهاء ومن دون أن 
يعني ذلك أن هذا التواصل هو محاكاة أو مجرد تأثيرات عابرة ('). 

الإدراك المعرفي 

وفي سياقات المكان المقدس نجد رأيا في الحداثة لمنظر الجمال 
لماركسي الأوكراني (كوندراتينكو) حيث ألقى الضوء على الفرق الحاسم 
الذي ييز الإدراك المعرني/ العلمي» عن العلاقة الدينية والجمالية بالمكان» 
والطبيعة عموماً. ليدل على المصدر الإدراكي للشعور الديني» والشعور 
بقداسة المكان, أو جماليته. وأشار إلى أنه لا توجد في امجتمع الإنساني 
علاقات بين الناس فقط. بل هناك علاقات الإنسان بالطبيعة» وبالمكان 
الذي يحيط به» وتقف هذه الأخيرة وراء العلاقة الأسطورية/ الدينية 
بالمكان. فمن محاولة الوعي الإنساني الدائبة في البحث عن تفسير لقوى 
العالم المخيطة به» وهو مندهش أمام غرابتهاء وروعتها وعظمتهاء تنشاً 
العلاقة الأسطورية الدينية والجمالية. 


وعلى هذا فقد قارب كوندراتنكو ما بين العلاقة الدينية والعلاقة 
الجمالية» بالقدر الذي ميّز فيه مشاعر الإجلال والتقديس الدينية وما 


: س. هوك " ديانة بابل وآشور" ترجمة غاد خياطة - دمشق - العربي للطباعة والنشر والتوزيع 
۹۸۷ 
1۷ 





يصاحب الطقس الديني من عاطفة, وبين الدين كتعاليم ونظام ونظريات»› 
وأيضاً بين العلاقة الجمالية وما يصاحبها من أحاسيس ومشاعرء وبين الفن 
والنظريات الفنية» وأيضاً بين العلاقة الأخلاقية والأخلاق كتعاليم 
ونظريات('). 


وعلى هذا فإن كوندراتينكو يطلق على علاقة الإنسان بالمكان 
والطبيعة تسمية (العلاقة الفردية الاجتماعية). التي بواسطتها يجري 
الإنسان تقييماً للأشياء الحيطة به كأن يسبغ على بعض الأشياء والأمكنة 
صفة القداسة» وما يصاحبها من شعور جالي» وتختلف تلك العلاقات 
الفردية (التقييمية)» مع الطبيعة والمكان. عن الإدراك العلمي الذي 
موضوعه "موضوع الإدراك" وحسب ما تقيّمه. انطلاقاً من ذلك» يؤكد أنه 
توجد طريقتان للمعرفة: الطريقة العلمية» والطريقة الفنية» ويقوم التقييم 
على المقارنة التي لا تعقد هنا على أساس الصفات الموضوعية للأشياء بل 
على أساس تأثيرهاء لذلك تتميز الصورة/ التقييم (أي الجمالي» القدسي, 
النفع) تمييزاً مبدئياً عن الصورة - الإدراك"('). إذ ليس النفع والجمال» 
والقداسة» صفات في الشيء أو في المكان. بل هي نتيجة تقييم نوعي 
للأشياء والظواهر» تقييماً لقدرتًا على تلبية الحاجات النفعية» والجمالية 
والقدسية الدينية» "لقد كانت الرهبة والتعبد» على الأرجح» مصاحبة 


' كوندراتينكو. الجمالي علاقة-علم الجمال الماركسي. مجموعة مؤلفين سوفييت- ترجمة يوسف 
حلاق. وزارة الثقافة- دمشق ص 4 م 
' المصدر نفسه. ص ۳۲". 


للعلاقة الدينية أو للتقييم الديني, في حين كان الإعجاب تعبيراً عن العلاقة 
الجمالية"('). 


ويذهب مؤرخ الفلسفة الألماني أرنست كاسيرر) -۱۸۷٤‏ 

65 إلى مدى أبعد في تفحص الإدراك الرمزي للمكان للعالم؛ فهو لا 
يترد في تعريف الإنسان على أنه "حيوان ذو رموز'"('). فإذا كانت 

الأنواع الحيوانية» ومنها الإنسان تحمل "جهازاً للاستقبال". وجهازاً مؤثراً 
فإن لدى الإنسان حلقة ثالثة, هي التي يسميها "الجهاز الرمزي". الذي به 
يقيّم الإنسان علاقته الإدراكية بالعالم» ومن هنا فإن كاسيرر يرى في اللغة 
والأسطورة والفن والدين ليس سوى وجوه مختلفة من هذا "الجهاز الرمزي" 
الإدراكي» فهو يشكل الخيوط المتنوعة التي تحاك منها الشبكة الرمزية, 
والنسيج المعقد للتجارب الإنسانية مع العام("). 


ويكرّس كاسيرر جهوده الفكرية, لدراسة هذه الشبكة من العلاقات 
الرمزية التي تؤطر فكر الإنسان بعلاقته بالمكان والزمان اللّذين يشكلان 
الإطار الذي لا تنفك منه الحقيقة, حت إننا لا نستطيع عمل أي شى إلا 
في ظل المكان والزمان(”). 


أ المصدر نفسه. ص 58". 

' أرنست كاسيرر - مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية أو مقال في الإنسان - ص -٦۷‏ ترجمة 
إحسان عباس - دار الأندلس - بيروت 1١951١‏ 

" المصدر نفسه ص۷٦‏ . 

أ المصدر نفسه ص ۹۳. 





وتنتهي كارين أرمسترونغ الأنثروبولوجية الأمريكية الشهيرة» وعالمة 
الأديان إلى نتائج في المقدمات والنتائج» فهي تقرّر أن الناس في العام 
القدي» يشعرون أنحم إذا لم تتوفر هم إمكانية الحياة في ظل تلك الصلة مع 
القوة الإهية» فسوف تصبح حياتم غير محتملة, خالية من المعنى» وهو ما 
دفع هؤلاء الناس إلى عدم الاستقرار إلا في الأمكنة التي أفصحت القداسة 
فيها عن ذاتحا لهم يوماً ما فأزالت الحاجز الذي يفصل بين الآهة والبشرء 
فالصخرة السامقة, والوادي السحيق» الذي يتسم بجمال خاص يمكن أن 
يفصح عن وجود القداسة, لأن من العسير إدراجه في سياق الظواهر 
احيطة به فمظهره نفسه كان يعبر لهم عن شيء آخرء وكانت عيون الناس 
في المجتمعات القديمة ترى أن الجبال التي تسمو هاماتها علواً على الأرض 
رموز للتعاليء فإذا تسنمها العابدء أحس أنه صعد إلى مستو مختلف, يقع 
في منطقة وسطى بين الأرض والسماء('). 


وهذا المبدأ تعامل به السومريون حينما أقروا أن الجبال هي مسكن 
الآهةء وما الزقورة إلا برج لاستراحتها حينما تبط للأرضء لا بل تصاعد 
الأمر عند الآشوريين الذين بنوا المدن فوق الروابي كما أربيل وكركوك 
وحلب» وانتقل تباعاً إلى اليونان فتجسد في الأكروبوليس 

وحينما يشعر الإنسان بأن بقعة ما قد أصبحت مقدسة, حتى يفصل 
بينها وبين ما حوها من بقاع دنيويةء لدرجة أن التجلي الإلحي فيها يجعلها 


بنظره مركز الكون» وبشعر أنه تتيح له الاتصال باللّه» وهو اتصال ضروري 


١‏ كارين أرمسترونغ . المقدس ص۳۰ ۳۹۰ .دار الكتاب العري٤‏ — بيروت 
1۰ 


لتكتسب حياته الحهدف والمعنى» لذا لم يستقر الناس في القديم, إلا في 
الأماكن التي تمكنهم من هذا الاتصال. وتستشهد أرمسترونغ با توصل 
إليه المؤرخ الألماي رودولف أوتوء الذي رأى أن هذه الأماكن المقدسة, 
بمكن أن تلقي في القلب الفزع والهلع؛ ولكنها كانت في الوقت نفسه ذات 
قدرة جبارة على اجتذاب الناس» وهي قدرة لا تقاوم, لأن الإنسان يرى 
منها ما يألفه في أعمق المستويات, وما يعد جوهر الإنسانية جمعاء فلم 
يكن البشر يتصورون أن مجتمعاتهم قادرة على البقاءء دون الارتباط بمذه 
القوى الجبارة"('). 


فقداسة المكان - كما تقول أرمسترونغ - هي "من المبادئ التي 
تشترك فيها جميع الثقافات, والإيمان بجا من العقائد الدينية الأولى في حياة 
الإنسان؛ فالناس وجدوا عندما أمعنوا النظر في العام من حوهم» أن بعض 
الأمكنة تُشعر بسحر لا يقاوم» وتختلف اختلافاً جذرياً عن غيرها من 
البقاع» فكانت تلك النظرة تُشْكُل موقعاً أساسيا في رؤيتهم للعالم» وتضرب 
بجذورها إلى مستويات أعمق كثيراً من مستوى العقل الواعي» بل إن 
العقلانية العلمية لم تستطع أن تشغل الموقع الذي كانت تشغله الجغرافيا 
المقدسة بصورة كاملة"('). 


وتخلص أرمسترونغ في أجاثها إلى نتيجة مفادها "أن الإخلاص لكان 
مقدس يكاد بمثل ظاهرة إنسانية عاطية"» فمؤرخو الأديان يعتقدون. أنه من 


' المصدر نفسه. ص 9" . "8" 
' المصدر نفسه ص ۲۹. 





أقدم تجليات الدين في جميع الثقافات؛ إذ وضع الناس ما يسمى بالجغرافيا 

المقدسة وهي خريطة لا علاقة لما بالخريطة العلمية للعالم» لكنها ترسم 

صورة الحياة الباطنية» حتى يصبح ما على الأرض من مدن وغياض وجبال 
42 0 وا 

رموزا للحياة الروحية"( ). 


ولاحظت أرمسترونغ, أن تجربة الإحساس بالقداسة هذه. ذات 
ضروب متنوعة, فهي قد توحي بالخوف. أو بالرهبة, أو بالثراء النفسيء أو 
بالسكينةء أو بالهلع» أو بضرورة القيام بعمل أخلاقي معينء لأنما تمثل لواً 
أكثر اكتمالاً وأرفع شأناً من الوجود, لا بد منه لاستكمال ذات الإنسان 
ورغباته» ومن ثم هي قادرة على إطلاق عواطف جائحة من عقاهاء بفعل 
غنى الرموز التي تحملها في جنباتا. إذ كان الإنسان يعد الرمز لا ينفصل 
عن الحقيقة التي بمنلها. فتمتع الرمز الديني بالقدرة على إدخال العابدين في 
عام القداسة» "ولم يكن أحد على مر التاريخ يستطيع أن يخبر القداسة 
مباشرة, اللهم إلا عدد بالغ الضآلة من الأفذاذ, فكان على الإنسان أن 
يدرك القداسة من خلال شيء آخرء وكان الناس مثلاً يخبرون القداسة من 
خلال إنسان ما أو أرض مقدسة, وكان المكان من رموز القداسة الأولى 
وأكثرها انتشاراً. إذ كان الناس يرون القداسة في الجبال والغياض والمدن 
والمعابد. (") 


' المصدر السابق ص .١١‏ 
' المصدر نفسه ص .١5‏ 





وتشترك الأديان التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام) في النظرة 
المقدسة إلى مدينة القدس.وثة مدن سعت للقدسية من خلال دفن شخص 
مقدس كما روما وعلاقتها بالحواري بطرس» أو تجلب رفاة آخر, كما فعلت 
البندقية عام ۸۲۸ م حينما اشترى بعض تجار بنادقة من حراس قبر 
الحواري مرقص في الإسكندرية رفاته, ونقلوه ليصبح سمه المدينة ورقد في 
كنيستها (سان ماركو) على شاطئ البحر بباحته ومنارته المشهورة. وفي 
أزمنة الإسلام حاول الملك المغولي الإيلخانن خد خدابندة الكايتوء (//1> 
ه - 5١لا‏ ه ١١8٠.١‏ م -5 ١8١‏ م) وهو ثامن ملوك الإيلخانية. 
وحكم بين عامي 5 ١٠.‏ و115١‏ م. وحاول نقل رفاة الإمام الحسين بن 
علي (ع) من كربلاء في العراق إلى ضريح مهيب أعد خصيصا في عاصمته 
(السلطانية) التي بناها على تخوم تبريز الإيرانية» ليهبها قدسية ويدخل هو 
ذاته "المقدس" من خلاها. بيد أن رفض العراقيين - رغم الاحتلال 
والانكسار - حال دون ذلك. فرقد (الكايتو) وحدة تحت القبة الباسقة 
الباقية شاهدة حت اليوم في تلك المدينة الدارسة. 


وفي الغرب حدثت حى اختيار أسماء "مقدسة" لدول ومدن بعينهاء 
مثل فرنسا نسبة للقديس (فرانك) وإنكلترا من (أنكل [عع0ة) الملاك, 
والمانيا نسبة للقديس (جيرمان)» وإشبانيا للقديس (أسطيفان) كما يذهب 
البعض» ورومانيا تيمنا بروما المقدسة: وبولونيا تيمنا بالقديس (بولص- 
بول- بافل).. الح. 


5117 


وثمة غرائب في شجون قدسية المكان وتفاضلهاء عا يتعلق بالدفن 
على أعتاب قبور الأنبياء والأولياءء بما يظن أنه مدعاة شفاعة عند قيام 
الساعة. وهذا ما جعل الإيرائيون وبعض الشيعة (الميسورين) في الخليج 
والهند مثلاً. ينقلون رفات موتاهم ويدفنوهم في وادي السلام بالنجف في 
العراق» على تخوم ضريح الأمام علي بن أبي طالب (ع)» أو في كربلاء 
على تخوم قبور أولاده الإمامين الحسين والعباس (ع)ء وهذا التأويل بمفهوم 
"الشفاعة" الروحي» أورده وفسره عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي 
الوردي )۱۹۹۰٩-۱۹۱۳(‏ في كتابه (لحات اجتماعية من تاريخ العراق 
الحديث). 


بيد أن من الغريب "وكما أسلفنا"؛ أن نفس ظاهرة دفن الموتى في 
العراق, كان بمارسها الإيرانيون قبل الإسلام بأزمّنة طويلة» حينما نقلوا 
موتاهم ليدفنوهم على تخوم فر الفرات بحجج تقديس عشتار سابقاً أو 
الداعية (ماني البابلي ۳٠۲۷۷-۲م)‏ لاحقاً. وبذلك تحول المكان 
وقدسيته من طور إلى طور ومن مقدس بتأويل إلى آخر. والأمْر عينه يتعلق 
بالقدس (أورشليم) أو (إيليا) اليبوسية الكنعانية التي تبعت لروما ثم بيزنطة, 
ومكفت مقدسة دائما. أو مكة المكرمة التي احتفظت بقدسيتها بين الوثنية 
في الجاهلية وبعد الإسلام. والأمر ينطبق على مواقع أقيمت عليها معابد 
ومساجد» مغل المسجد الأموي الذي تحول من معبد للمشترى (جوبيتر) 
الوثني ثم كنيسة لرفاة البي يحيى (يوحنا المعمدان) في المسيحية, ثم مسجد 
جامع للإسلام. والأمر عينه ينطبق على المسجد النوري المشهور بمنارته 
(الحدباء) في الموصل, حيث كان معبدا وثنيا آشورياء ثم كنيسة مسيحية 

1٤ 


(للشهداء الأربعين) إبان الحقبة الآرامية/ المسيحية؛ ثم أمسى المسجد 
الأموي الأول الذي قيض تباعاً وبني بمكانه المسجد النوري المقترن باسم 
نور الدين الزنكي الأتابكي السلجوقي وذلك عام 1/8١١م.‏ 


وهكذا يبدو أن لبعض البؤر قدسية أملاها (ثابت تاريخي) حينما 
يتعلق الأمْر بحدوى ونفع وفائدة وتوق روحان» ومن شعور غيبي بتوفر 
(طاقة إيجابية) تعم أمكنة بذاتاء لا تتغير بتغير الأزمّنة ولا العقائد. وهذا 
هو فحوى ما يدعى اليوم بفلسفة (الفانك شوي 51111 1618 ) الصينية 
الآسيوية» والتي تشيع بين أوساط واسعة من الباحثين» حيث اعتقد 
الصينيون القدماء بأنَ طاقة الحياة غير المرئية تتدفق عبر كلّ شيء حي, 
وعليه قام حكماء صينيون منذ آلاف السنين خلت بتطوير مفهوم أن 
المباني التي نسكنها تتطلب قدرا من الانتباه تماما كالذي نعطيه لأجسامناء 
وطوّروا هذا العلم المعقّد جداً ودعوه "شفاء البيئة أو المسكن". فإذا تم 
منع تدفق الطاقة أو السماح ها بالتدفق بسرعة شديدة فإنها سوف تسبّب 
عوائق ومشاكل في الحياة بصفة عامة. وأيضا وجود الفوضى في المكان 
يمكن أن "تعطل" سريان الطاقة وتُوقف توزيعها المتناسق وتحولها إلى طاقة 
ملّة وراكدة. وإن رفع وتدشيط طاقة المناطق المعيّنة من المنزل بالألوان 
والوسائل الأخرى السليمة بمكن أن تخلق طاقة أفضل وأصح» وتحسّن 
الأوضاع وتزيد الفرص المختلفة في الحياة. وهي ذات الفلسفة المتبعة في 
الوخز أو العلاج بطريقة الإبر الصينية» حيث تعمل الإبر الصينية ببساطة 
بإزالة العوائق والسدد من مسارات الطاقة الموجودة في الجسم أو كُدَّئ 
تدفق الطاقة أو تنظيمها. وكل ذلك يكرس فلسفة شرقية فحواها سطوة 


"1 


الغيب واللا مرئي» وحضور الروح "الطاقة" في الأشياء والأشكال والألوان 
والأماكن. 


وة تلميحات لذلك التوجه نجدها في التراث الشعي» كما فيما 
ندعيه (بركة عتبة الدار) التي تتعلق بما يكتب من وفرة الرزق أو حسن 
الطالع في بيت ومكان معين, كما عند جماعة (الفانك شو). ومن الطريف 
أن أهل السويد الّذين وطأتهم المسيحية قبل تسعة قرون فقط, مكنوا 
يعتقدون حتى سنوات الثلاثينات من القرن العشرين بهذا الأمرء ويوعزون 
لمختص روحان أن يكشف الهم عن تلك الطاقة في الأماكن التي يراد بناء 
مسكن أو كنيسة عليها. بيد أن تلك الظاهرة اختفت بعد سطوة الحداثة 
المادية التي ألغت الكثير من تلك التوجهات القادمة من تجارب روحانية 


بشرية قديمة. 


وني اختيار المواضع شجون ترد في مدونات التراث» فيقال مثلاً أن 
الأطراف للأشراف. وورد أن سؤل رجل: في أي موضع من القرآن نجد 
تلك الخاصية؟ أجابحم: في قوله تعالى (وجاء رجل من أقصى المدينة 
يسعى)؛ فهذا أشرفهم. وكان ينزل أقصى المدينة وطرفها. وسأل هارون 
الرشيد عبد الملك بن صالح عن منزله: أهو لك؟ قال: هو لك ولي بك. 
قال: كيف هواؤه وماؤه؟ قال: أطيب هواء وأعذب ماء. قال: كيف ليله؟ 
قال: سحر كله. ولا بنى الحجاج مدينة واسط قال لابن جامع: كيف 
ترى؟ قال: بنيته في غير بلدك وورثته لغير ولدك. 


۲1١ 


الاسترزاق من المكان المقدس 


يلفت النظر تعدد المشاهد والأضرحة لشخصيات بعينها في أماكن 
شتى» كما هو ضريح الإمام على (ع) الذي يتكرر في العراق وأفغانستان 
ووسط آسيا والغرب» وكذلك السيدة زينب (ع) الذي نجده في الحجاز 
ومصر والشام ومصرء. وضريح الإمام الحسين (ع)» في العراق والشام 
ومصر. ونجد في المغرب العربي أن قبة (مرابط) تجلل الكثير من روابي البلاد 
تخص الولي الصوني عبد القادر الكيلان دفين بغداد والذي لم يبرحها 
مهاجراً البته. وحدث ذلك قبلها في المسيحية» فنمة أضرحة لحواربي النبي 
عيسى "أو يسوع المسيح" (ع)» مشتتة في الأصقاع» وكل مدينة تدعي 
الحق والحقيقة في صحة هذا الانتماءء من أجل أن تسبغ على نفسها 
قدسية وتكون مهبط قلوب الناس» كما هو النزاع على مرجعية القديس 
مرقص بين الإسكندرية والبندقية» حتى ادعى المصريون أن ما "سرق" هو 
الجسد فقط أما الرأس فمكث في الإسكندرية..الخ. وحدث الأمر مع عدة 
قديسين مسيحيين منهم (أسطيفان) المشتت بين دواعي الانتساب بين عدة 
ثقافات, والقديس (تقلا) (ذو الأجنحة) الذي يعتقد بأنه من نينوى أو 
فلسطين أو جبل لبنان أو الحبشة, والذي له أضرحة في مصر بأكثر من 
موضع» وأثيوبيا وكينيا. وكذا الحال مع القديسة (بابربارا) التي لها عدة 
أماكن للتقديس بين العراق والشام ومصرء ومن الطريف أن اسمها يعني 
بالسومرية وردة عباد الشمس التي قدست كوكا تتبع الشمس المقدسة, 
فانتقلت القدسية الرمزية من الوردة والشمس الوتنية إلى شخصية نصرانية 


1۷ 


نسجت عليها أساطير» بغرض تكريس قدسيتها حتى لنجد اسمها الأكثر 
تداولا عن الكاثوليك. 


وهنا لابد من طرق الجانب المادي لتلك الظاهرة. حت لو برقعت 
بالروح المؤمنة والفضيلة المثالية» لكنها تبقى منتجا بشرياء تحركها سجايا 
مصلحيةء ونوازع اقتصادية تجد لنفسها دائما المبرر العقلي» حتى تكون 
مستعدة للذود عن بقائهاء وحري بالنظريات الاقتصادية شملها وتأويلها؛ 
فإسباغ المقدس على المكان جاء هذه المرة لغايات الجذب والحضور المدر 
للمال والجاه والتفاخر والمركزية» على أصحاب المكان. ويستثمر حق 
بالسياسة. ونجد صراعات بين دول بررت دينياً ومذهبياً وأقحمت في 
الأخلاق عنوة؛ لكنها تمكث تواتر وترادف في خضم أحداث التاريخ, 
وتوق للكسب الذي استثمر هذه المرة بالمقدس المكان. 


وني قراءة اجتماعية للحروب التي حدثت في عهود الإسلام كان 
معلنها ومبررها المسوّغ الطائفي المتمثل بأضرحة تنتمي لفرق بعينهاء كما 
حدث إبان الصراع الصفوي العثمانئ, والهدف منه احتلال العراق والهيمنة 
على الوادي الأخضر والسيطرة على طريق الحرير المدر» فكان كل منهم 
يدعي حميته على الأضرحة. وحدث أن نبشت قبور جليلة لأشخاص 
مبجلين لم يسيئوا لأحد أو ينحازوا لعثمان ضد صفي الدين أو بالعكس(') 


' حري بالإيضاح بأن صفي الدين الأردبيلي جد الصفويين الذي عاش في القرن الرابع عشر في 
أردبيل على تخوم تبريز الأذريه» كان تركيا هو الآخر مثلما العثمانيين. وحينما تشابحت الأرومات 
1۸ 





كما حدث في بغداد الذي جعل أضرحة الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام 
عبد القادر الكيلان من حصة العثمانيين» بينما ضريح الإمام موسى 
الكاظم بن جعفر الصادق من حصة الصفويين. وكل من هؤلاء كان يبرر 
كل جرائمه وسرقاته بحجة حماية أضرحة هؤلاء الأئمة الأطهار! 


ونجد ممارسة تشيع في التاريخ» تتعلق بملوك وولاة أنشأوا مزارات فوق 
قبور مزعومة أو نقلوا رفات الأولياء لأغراض مصلحية, كما عند 
الفاطميين الذين نقلوا للقاهرة من الشام ما يعتقد أنما أضرحة أهل بيت 
النبي (ص). ونجد في أفغانستان مدينة اسمها (مزار شريف) فيها ضريح 
صرحي مغشى بالخزرف الكربلائي (القاشاني) يدعون أصحابه أنه يعود 
للإمام علي بن أبي طالب(ع). وشاع بين الأفغان أن جثمان الإمام أخفي 
خشية التمثيل به ثم وضع على ناقة "بيضاء" سارت به إلى أن حطت في 
هذا المكان . فدفن فيه. ولكن السلطان السلجوقي (سان خان) 
"اكتشفه" وتحقق منه فأمر ببناء ضريح صرحي فوقه تكراً لمنزلة الإمام 
علي (): وتتناقل التواريخ الموضوعة هناك بأن القبر مكث سرباً بعد غزو 
جنكيز خان (8 ه8١١777-1١‏ م) لأفغانستان عام 5١7١م‏ الذي دفن 
هو الآخر بشكل سري لم يكشف حت اليوم, وربما الأمر متعلق بروح 
البداوة التي سجي عليها. واستمر الأمر حتى العام 8/868 ه /١١٤١م›‏ 
حيث تنقل التواريخ بأن السلطان حسين بيقرة "الذي حكم أفغانستان 


والألسنة, لم يجدوا غير اختراع خلاف "المذهب" من أجل التناحر والهيمنة» فجاءت النتائج مغالية 
من الطرفين . 
'التاريخ السياسي للشيعة في أفغانستان, أحمد أخلاقي جمن مالستاني» ص75 . 

53234 


آنذاك" رأى الإمام علياً في المنام» وطلب منه أن يبني له قبراً وحدد له 
المكان. فأرسل السلطان وزيره و٠٠۷‏ من المشايخ إلى المكان» حيث 
ادعوا "بإيعاز منه" أنهم عثروا هناك على لوحة حجرية مكتوب عليها "(هذا 
ولي الله علي أسد الله وأخو رسول الله)". فبني المرقد الحالي في ذلك 
المكان. ونجزم هنا بأن الامر يحتاج الى معجزة؛ حينما تسير الراحلة طول 
تلك الفيافي دون هدى ولا أن يقطع طريقها بحر أو جبل أو لص» ولاذا 
أفغانستان حصراً. وأرض الله واسعة!(') 


وفي أواسط آسيا وعلى تخوم هذا المكان نة ضريح آخر في بلخ: 
يزعم الناس هناك أنه ضريح الإمام علي (ع).: ومن الطريف أن ثمة التباس 
حصل لدى الناس» فقد حكمت هنا عائلة علوية وكان أحد أمرائها يدعى 
(علي بن أبي طالب) وورد في نص نقلته كتب التاريخ أن الشخص 
المسجى هنا هو: (أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبيد الله بن علي بن 
الحسن بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين الأصغر بن علي 
السجاد بن الحسين السبط) الذي اشترك في اللقب والكنية والاسم واسم 
الأب» وأوحى الالتباس والاشتباه على عوام الناس كما صرح ابن عنبة في 
كتابه الفصول الفخرية ذاكرا: (إن جملة من بني الحسين الذين كانوا أمراء 
ونقباء وملوك في بلخ ومنهم المدفون في قرية خيرات من ضواحي بلخ 
والمعروف حالياً بالمزار الشريف والذي ينسب قبره إلى الإمام علي (ع)» 


أ استثمر الأمريكان هذا الضريح وتواجد أقلية شيعية إلى تأليب الناس على بعضها وبدعم من 
حركة طالبان السلفية لتحارب وتكفر "التشيع" مثلما حدث في العراق بالتمام والكمال. 
۲۰ 





وكان عالماً. فاضلاً نقيب العلويين في بلخ ويسمى أمير المؤمنين أبو الحسن 
علي بن أبي طالب بن عبيد الله)(') ويمكن أن يكون المزار جبانة المدينة 
على سياق ما حصل في مدن كنيرة. 


والحال عينه حدث مع والي الموصل بدر الدين لؤلوة إبان سقوط 
بغداد على يد المغول عام /786١م,‏ حيث أقام مجموعة من الاضرحة على 
تنوم الموصل ليهب نفسه وحكمة قدسية» وأمست اليوم شواخص مقدسة, 
بعدما أصبح ها عمق في التاريخ» وتكمن المصيبة في أن الناس يجهلون 
أصلها. ومن الطريف أن ثمة ضريح للإمام علي (ع) في مدينة (أسفي) 
على الحبط الأطلسي في المغرب» بالرغم من عدم وصوله الى هناك» بل 
استشهد في الكوفة, قبل أن يصل العرب إلى المغرب الأقصى. 


وجدير أن نشير الى أن الإمام الحسين بن علي (ع) شارك الجيوش 
الإسلامية في فتح طرابلس الغرب في ليبياء وكاد أن يستشهد هناك ولا 
يوجد له أي مقام. أما للصوني الشيخ عبد القادر الكيلاني, فئمة المئات 
من المقامات في أصقاع المغرب العربي كلها تدعي دفين امه (سيدي عبد 
القادر)» ويكنى أبو إعلام, أو سيدي الجيلالي أو سيدي قاده أو 
البغدادي..الخ. ومن الطريف أن التبس لدى الجزائريين شخصيتا الصوفي 
عبد القادر, والأمير عبد القادر الجزائري (۸١٠۸١-۱۸۸۳م)‏ الذي ثار 
ضد الاحتلال الفرنسي» ومات منفيا في دمشق ونقلت رفاته بعد نحرير 
الجزائر عام ١955‏ 


` بحث منشور للأستاذ عبد الحسين الصالحي - دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 
۲۲1 


وفي سوريا نجد العجب العجاب بصدد المواضع المقدسة, فهنا قتل 
هابيل قابيل وهنا أهل الكهف وهنا 3 قدم الرسول الكريم وهنا ضريح 
للإمام علي( ع) ومن المعلوم أن سوريا تضم أكبر عدد من الأضرحة الواهية 
السند التاريخي والتوثيقي ولا سيما المنسوبة لآل البيت 0 فقد 
أحصى المؤرخون في أخائها 49 مقاما ومشهدا أغلبها في دمشق وحلب 
وباقي المدن والمناطق السورية. ورغم أن معظم هذه القبور وهمية, إلا أن 
زوارها بالملايين» حتى راجت ما تعرف باسم تجارة الأضرحة التي تدر أموال 
طائلة على القائمين عليها. وتشهد هذه المزارات طوال أيام السنة إقبالاً 
كبيرا من جموع الزائرين. وفي العاصمة السورية دمشق يوجد 7١‏ ضريحاً 
ونجد السيدة رقية (ع) موجودة وسط زحام أزقة دمشق القديمة على تخوم 
الجامع الأموي. ولا نعلم كيف دفنت هناك وليس بجبانة المدينة. أما 
السيدة زينب(ع) فقد أصبح ضريحها غير المؤكد مهوى القلوب من كل 
صقع» وتحول من قبر بسيط في برية دمشق إلى مزار بقبة ذهبية» نحيطه 
مدينة عامرة نابضة بالحياة» ومهبط جموع العراقيين والإيرانيين والشيعة من 
كل حدب وصوب. 


وني مدينة حلب يوجد سبعة أضرحة, وفي مدينة اللاذقية أربعة» وفي 
مدينة حماه أربعة كذلك» وفي حمص ثلاثة, وني مدن الجزيرة الفراتية إحدى 
عشر ضريحاء والعدد الأكبر من هذه المشاهد مدسوب للإمام علي بن أبي 
طالب(ع) حيث يوجد إحدى عشر ضريحا خاصة به ثم لحفيده الإمام 
علي زين العابدين» الذي تنسب له أربعة أضرحة» م لبقية آل البيت لكل 
واحد منهم مقام أو أكثر! 


ولفت نظري قبر السياسي العراقي "العروبي" ياسين اهاي 
)١907-1884(‏ الذي كان يفخر بأصوله التزكية السلجوقية وتقديسه 
لشخصية مصطفى كمال أتاتورك. وقد دفن بجنب القائد المسلم صلاح 
الدين الأيوبي على تخوم شال المسجد الأموي في دمشق, لكن ثمة قرا 
فارغا جنبهماء يبدو أنه كان معداً لوال عثماني أو صاحب حظوة» ول 
يدفن فيه. وقد رصدت زائرات إيرانيات يقبلن ويبكين قبور صلاح الدين 
وياسين الحاشمي وحتى القبر الفارغ جنبهماء ولا يعلمن من هم هؤلاء وما 
مواقفهم من "الشيعة" أصلاً. 


ولفت نظري في شارع خلفي في إسطنبول مقام صغير مصبوغ باللون 
الأخضر لدلالته القدسية في الأعراف الحلية» وهو كما أخبرون كان لنادل 
أو ساق (قهوجي) أو طباخ لأحد السلاطين العثمانيين» ولاحظت بعض 
الدسوة يتبركن به. وهذا يذكرين بمقام صغير شاهدته في مدينة (ملقة) 
الإسبانية لقديسة مسيحية تحمل اسماً إسلامياً (فاطمة), وتجد الناس يبذلون 
النذور والعطايا لسدنتهاء المستفيد من غفلة الناس» الذين لا يعرفون شئ 
عن تلك المرأة. أو ثمة ضريح لولي صالح يدعوه (أبو شيبة) يقع في شارع 
الرشيد ببغداد. ورفض الناس رفعه عند توسعة الشارع, لا بل حجزت له 
غرفة خارجية في مبنى حداثي يقع على تخوم الشارع للتبارك به النسوة 
وتربط (الأقفال) في شباكه. 


ومن طريف ما سمعت أن ثمة وليا صالحا كان يقبع ضريحه في مكان 
تمثال الشاعر العراقي (معروف الرصافي) اليوم» وهو تقاطع مهم في شارع 


YY 


الرشيد. ورفض الناس إزاحته» وخاف سائقو الجرافات من تنفيذ الأمرء 
حتى أوكلوها لسائق ملحد وسكيرء فصبح الناس ولم يجدوا للقبر والقبة 
على يده من آثر» بعدما أزاحه في ليل بميم. ومن طريف ما تشاهد من سبل 
الاسترزاق في إيران أن ثمة صندوق يوحي بأنه شبيه بقبور الأولياءء مركب 
فوق سيارة (شاحنة) ويدور في الأزقة ويعلن بمكبرات الصوت عنه. وأ 
الناس ويتبرعون بالمال له وهو يسير متهاديا بين الأزقة, لا مكان له. 


لقد سبق أن ذكر إخوان الصفا في رسائلهم؛ عن ظاهرة الاسترزاق 
من الأضرحة ذاكرين (إن البعض جعل التشيع مكسبًاء مثل الفاتحة 
والقصاص» وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور) ('). ونسج بعض 
العيارين والشطار قصصا ونوادر في الأمر» خلال نشاطهم في بغداد إبان 
القرن الثالث والرابع الحجريين وما بعدهماء ومنهم من أقام قبابا في أماكن 
واهية من أجل الاسترزاق. 


ومن طريف ما ينقل العامة التي نقلها الدكتور علي الوردي في 
(ملامح اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) قصة رجل دفن حماره الذي 
أحبه بعد أن خدمه وعاش من جهده وبكاه بحرقة ومكث مجاوراً لقبره حق 
وجده بعض المارة حزينا فأعانوه مواساة على مصابه, ثم توالت العطايا من 
العابرين للمكان, نما حفزة بوحي "شيطاي" إلى بناء ضريح فوق القبر, 
وهكذا انطلت الحيلة وتناسى الرجل كذبته الأولى أو صدقهاء وطفق يقسم 
بروح الدفين, حتى سمعه أحد أصدقائه القدامى ممن يعرف الحقيقة, وساعده 


' رسائل إخوان الصفا : 4 ص ١99‏ 


في الدفن, فوبخه مذكرا: (لقد دفناه سويا)» وهذا ما جعلها مثل شعي 
دارج» للدلالة على أن السر مكشوف. 


التقيت في الشارقة عام ۲٠٠۷‏ الدكتور عبد الستار العزاوي» مرمم 
الآثار» وهو منشغل بترميم الحي التاريخي للإمارة» منذ العام ١949 ٠‏ بعدما 
عمل في ترميم عدة معالم معمارية في العراق» وأهمها ترميم مقام النبي ذو 
الكفل (ع) في بابل - الحلة. وحدثني عن تجربته بأن لفتت نظره قطعة من 
القماش الأسود في جبهة الضريح من الخارج كتب عليها: '"أهلا بكم في 
مراقد بنات الحسين" "ع". وعندما فتش عن واضعها نعتوا له أحد سدنة 
الضريح» الذي كانت تحوم حوله الشبهات» وقد أخبره أكثر من شخص 
بأنه يصادر النذور التي يقدمها بسطاء وسذج الناس» ولا سيما الفلاحين 
القادمين من تلك الجهات» ومنها مثلا كنوز من المصوغات الذهبية» التي 
يزين بجا الطفل الذي أتى بعد صعوبة إنجاب» حيث تنزع منه على أعتاب 
الضريح» وتلقى في شباكه. فيتلقفها جزلاً. وهكذا أثرى الرجل بشكل 
فاحش» وحينما واجهه الدكتور عبد الستار بفعلته ووبخه. هب الرجل 
يتوسل لأجل التستر عليه» ومن ثم سأل الدكتور عن مرتبه الشهري» فأثار 
العجب لديه. فأخبره بأنه مستعد أن يدفع للدكتور عبد الستار مبلغا 
شهريا يعادل عشرة أضعاف مرتبه الحكومي لأجل السكوت عليه!. 


ومن تجربتي الذاتية شهدت على كم وكيف العطايا والهدايا التي كانت 
تقدم في أضرحة الإمامين العسكريين (ع) خلال عملي في ترميم القبة 
بسامراء» حيث كان تقدر الأموال السائلة فقط بأكثر من مليون دولارا 


° 


شهرياء وذلك ما أخبرن به أحد المقربين من "الوقف الشيعي" الذي استلم 
زمام الأمور في الضريح» وهذا محض ما يرمى من أموال في الضريح» غير 
المصوغات الذهبية. والحال هذا والمكان مازال في حالة ورشة بناء» ويكتنفه 
ا خراب» ويصعب الوصول إليه. وأوضاعه الأمنية متأزمة وخطرة. وكل تلك 
العقبات لم تكبح هؤلاء المؤمنين من تقديم العطايا والنذور. 


وأتذكر ان جلب لي شخص باكستاني وأنا في مكتبي حزمة من 
الدولارات تعد ثروة طائلة, يروم إهداءها للضريح» ويطلب مني الحصول 
على إيصال (فاتورة) بماء ضناً منه أنه مكتب المسؤول عن التبرعات, 
فأخبرته بأ لا أمثل سوى منظمة اليونسكو» ونعت له مكتب الوقف 
المتكلف بمذه المهام, فذهب مسروراً وممنوناً. وحدث الأمر مرات مع زوار 
إيرانيين وبحرينيين وكويتيين وعمانيين. وقد شاهدت الحرقة واللوعة في عيون 
سادن الروضة السامرائية السابق طلال الكليلدار» بعد أن حرمه التفجير 
الآثم الذي حصل في شباط/ فبراير ٠٠١‏ من استمراره في مهامه. وعزله 
دون رجعة بعد أن ورث الأمر عن أبيه الذي استلمه قبل ثمانين عاما. 
ووصل الأمر أن اتم أحد أبناء السادن (يماء الكليلدار) بالتواطئ مع 
المفجرين» والذي سبق وأن أحاطته الشبهات بالاختلاس من الروضة عام 
۹ ووقف معه مشايخ سامراء ورؤساء عشائرها. وتتناقل الألسن عن 
اختفاء بعض أجزاء المرقد الذهبية (باب مكفت بالذهب)» واتضح الأمر 
وافتضح عند رفع الأنقاض بعد التفجيرء با دلل لدى الحققين أا اختفت 
قبل حدوث التفجير..الخ. وهكذا حرم الرجل وذريته من مصادر أسطورية 


للثراءء كان من ضمنها الحدايا التي ترده من أهل المدفونين في (سراديب) 
۲٦‏ 


تحيط بالضريح» ومنهم أم شاه إيران خد رضا بملوي الذي دفنت في غرفة 
صغيرة بإيوان يقع جنوب الضريح. 


وهكذا أمسى عرف إقامة الأضرحة مجلبة للثراء الذي يبحث عنه 
كثير من الناس, ممن لا يحتاج إلى جهد وتأهيل أكثر من حيلة وورع 
وفضيلة مصطنعة» حتى عمت كظاهرة اجتماعية» وعادة ما سمعنا عن 
(الضريح الجديد) الذي يظهر فجأة ودون سابق إخطار. وقد اعتمد ذلك 
على وجود سذج العباد الذين يصدقون كل إدعاء. حتى دعاهم الإيمان 
الفطري أحياناً. أن يؤكدوا كرامات الدفين بحالة من الوهم والالتباس 
النفسي. وقد حصل تداخل مصال بين تلك الطبقة من السدنة وأقطاب 
رجال الدين» وربما كان هذا سبباً كافياً. لأن ينحى هذا "التحالف" 
المصلحي من حالة امتعاض من مشاريع انعتاق الجموع نما يكبلهم من 
تخلف» ونتذكر كيف وقف كل رجال الدين في النجف ضد إنشاء جامعة 
في الكوفة» ولا سيما المرجع السيد محسن الطباطبائي الحكيم (جد عمار 
الحكيم) ولقي الدعم من السلطة البعثيةء والذي كان قد اقترحه المعمار خد 
مكية في ستينات القرن العشرين» حيث أن مهام توعية الناس وتنويرهم 
بالعلم» يجعل منهم أكثر عقلانية وحيطة, وهذا ما يجعلهم مترددين في تقديم 
النذور جزافاً» مما يشكل عملية "قطع أرزاق" الذي يكافئ لدى سدنة 
المكان المقدس "قطع الأعناق" 


ينقل في بعض مصادر المال والأعمال بأن ما تكسبه المملكة العربية 
السعودية من موسم الحج يساوي أضعاف ما تكسبه من بيعها للنفط 


¥ 


ومشتقاته وذلك قبل فورة النفط وارتفاع أسعاره بعد العام 1۹۷۳ء كما 
أن اقتصاد الجزيرة العربية كان يعتمد في السابق على هذا المورد اعتماداً 
شبه كلي. وربما هذا هو جوهر الصراع الخفي بينها وبين إيران من جراء 
المكاسب الأسطورية من العتبات المقدسة المنافسةء والذي تبرقع برداء 
وأحاجي وذرائع الطائفية ولا سيما أسطورة (الفرقة الناجية)» ووجد التكفير 
ضالته. وقد استفاد من ذلك أصحاب المآرب الملتوية في العام ولا سيما في 
الغرب» ولا يفوتنا أن الأمريكان وإسرائيل يقفون منتشين وداعمين لذلك 
التوجه ويؤججونه. با أوتوا من حيلة ونفوذ وإعلام مسّير» وقد أثبتت 
أحداث ما دعي (الربيع العربي) صحة ذلك» من أجل شق صفوف 
المسلمين بفتنة خرقاء» ونشوب حروب دموية تعصف اليوم بالعراق وسوريا 
ومصر وغيرهاء شكل فيها سدنة المكان المقدس قنطرة عبر عليها 
المتربصون شراً بالدين إلى مى المسلمين. 


وهنا وني السياق حري بأن ننقل فقرة كتبها الروائي الإنكليزي 
(جورج أورويل) صاحب رواية )۱۹۸٤(‏ المشهورة, وذلك في يومياته التي 
نشرت أخيراً. وحملت أيضا مجموعة نفيسة من القرائن والإشارات منها ما 
ذكره خلال إقامته في المغرب للأعوام ۱۹۳۸ - 1۹۳۹ء وما كانت 
تعانيه المجتمعات هناك في شال إفريقيا. أما في بقية مستعمراتًا كاهند 
والصين فقد عبر عن اشنزازه حيال انتشار تجارة الأفيون بمساعدة الإنكليز 
أنفسهم» وهو أحد أكثر الأمور التي أعطاها أورويل اهتمامه بعد أن 
تكشفت لديه أن اليهود في بلاده يقفون وراء انتشار تلك التجارة في 
آسياء ومسعاهم "لتخدير الشعوب"» حينما غابت الفتنة الطائفية» كما 

Y۸ 


لديناء فوجدوا فتنة أخرى('). وهكذا الأمر مناط بأرجوحة الوعى لدى 


كنا نسمع عن الزيارات المليونية للأماكن المقدسة التي حدثت بعد 
سقوط سلطة البعث في العراق عام 25٠0٠7‏ رغم ما تحفها الصعوبات 
والمخاطر والجهد, وحدث أن شهدت بنفسي إحداها خلال عملي في 
سامراء عام ۲١ ٠۹‏ حيث قدر الزوار بخمسة ملايين» جاءوا في يوم واحد 
من كل صوب وحدب مثل السيل الجارف, بعد إيعاز من السيد مقتدى 
الصدر. وثمة مواسم محددة لتلك الزيارات وأهمها: أول رجب» ونصفه. 
والنصف من شعبان, وليالي القدر» وعيد الفطرء والأضحى, ويوم عرفة, 
ويوم عاشوراء, وأربعين الإمام الحسين. ويبدو أن سلطة البعث منعت تلك 
الممارسة, ونقرأ عن ممارستها على نطاق واسع قبل ورود البعثيين في تموز/ 
يوليو ١957‏ فقد جاء في تاريخ كربلاء والحائر /41 :١‏ ( يتراوح عدد 
الزائرين لكربلاء في هذه الزيارة - الأربعين - بين نصف الليون وثلاثة 
أرباع المليون وقد بلغ عام ١58‏ ها845١.,‏ كما أوردته جريدة 
الأخبار البغدادية تحت عنوان (يوم الأربعين في كربلاء وهو عدد بلغ ثلثه 


' قراءة في كتاب : يوميات جورج أورويل الحقيقة الغائبة-ترجمة أحمد فاضل- جريدة المدى-بغداد 
: الغلاثاء ۲٠۰۱۲-۰۹-۲۰‏ 
۲۹ 





عدد حجاج بيت الله الحرام في السنوات التي يكثر فيها الحجاج في ذلك 
الحين)(). 


وجاء في مجلة لغة العرب البغدادية نقلاً عن صحيفة إيران الطهرانية 
أن عدد الزائرين الإيرانيين كان )١5٠0(‏ ألف زائر خلال سنة ۱۳٤۸‏ هھ 
8 م( ') فقد جاء في إحصاء للسنوات ما بين .378٠(‏ 9ه 
/. ۱۹۰-۹۰ م) أن معدل زائري مرقد الإمام الحسين (ع) في 
كربلاء كل سنة وخلال موسم زيارة الأربعين فقط يتجاوز المليون زائر من 
داخل العراق وخارجه» والذي تتحول المدينة بموجبه با فيها من أبنية عامة 
وساحات وطرق وحدائق إلى فنادق فؤلاء الزوارء بل وكانت الفنادق في 
المدن والنواحي القريبة تكتظ بمم. وتناقل بعض الناس بأن في موسم 
الأربعين عام ٠٤١۷‏ ه- ٦۱۹۹م‏ وبالرغم من القيود المفروضة حينهاء 
بلغ عددهم سبعة ملايين, وني ليالي الجمعة في الموسم ثلاثة ملايين زائر. 


وبمكن أن نستنتج من تلك الإحصاءات المصادر المالية الضخمة 
المرافقة» والتي تشكل أهمية في تنمية البلدء حيث أنما تدشط حركة رأس 
المال وتحرك الاقتصاد الراكد والريعي الإتكالي لذا فإن السياحة الدينية 
هبة المولى لتلك البقاع التي تحوي (مكانا مقدسا). من أجل أن ينوع 
مصادر دخله. ونمة من يهمس أو يعلن "لدى العرب" بأن إيران كانت 


أ ورد ذلك بعدد الصحيفة رقم ١545‏ المؤرخ يوم الأحد ۲۳ صفر ۱۳۰٣۰‏ ه الموافق ۲۷ / /١‏ 

ور رضم رخ يوم صعر فق 

۹م 

' جاء ذلك في العدده » السنة السابعة » الصفحة : ٤۳۲‏ › التاريخ : آيارامايو ۱۹۲۹ م 
.۳ 


ومازالت تعتاش على موارد العتبات المقدسة في العراق أكثر ثما يردها من 
نفط الأحواز(الأحواض), وأن تشبثها بنطط الهيمنة على العراق هي حض 
دفاع عن مصدر لا ينضب من موارد الأضرحة. وهكذا فإن كل ما يروج 
له بصدد الطائفية والورع الروحي والحمية الدينية بعيد كل البعد عما يجري 
في الخفاء 


يحكى أن وفد من مشايخ الدين في المملكة العربية السعودية زار 
بعض مدن جمهوريات آسيا الوسطى بعيد انعتاقها من الشيوعية عام 
. وطلب السعوديون من مشايخ تلك الديار في بخارى وسمرقند إلى 
هدم صروح الأضرحة المنتشرة, ومنها قبر القثم بن العباس ابن عم النبي 
د (ص). والذي جاء مجاهدا في بواكير الدعوة, وغيره من الأضرحة في 
تلك الأصقاع النائية عن بؤرة الإسلام في الجزيرة؛ فأجابه أحد المشايخ 
الحليين بلبابة: بأن تلك القبور التي تظنون أنما مدعاة للشرك والناي عن 
الدين الحنيف» كانت السبب الوحيد في تشبثنا بديننا وعدم تركنا له 
ولولاها لفقدنا الإسلام أصلاً. خلال سبعين عام من المسخ الشيوعي 
للمكان, والحاربة الرسمية للعقائد الدينية في تلك الديار. 


تحضرن هنا حادث تواجد أحد السياح الإسكندنافيين عند حيط 
ضريح السيدة زينب (ع) في ريف دمشق» حينما شاهد أعدادا كبيرة من 


المتسولين يجلسون على بابماء فتسائل: اذا لا ينزع الذهب الموضوع على 
القبة ويوزع على هؤلاء وغيرهم من أجل تحقيق حياة كرعة هم. تغنيهم عن 


۳١ 


التسول. وهذا ما يؤكد البون في العقلية والإدراك للمقدس بين ثقافتين 
متنائيتين في المقدمات والنتائج أو (الإطار الفلسفي). 


وجدير بنا قراءة نص كتبه الداعية "الشيعي" اللبناني المرحوم هان 
فحص يستصرخ الضمائر بصدد موارد العتبات كتب فيه: (كان مراجعنا 
يوصوننا فنوصي أهلنا بأن لا ينذروا المال لأقفاص الأئمة (ع) لأنه لا 
يصرف بصورة شرعية بعد مصادرة النظام كل شيء. وكنا نلح أن يكون 
النذر من غير قيود حتى يمكن صرفه في مواضع بحرز فيها رضا الإمام 
(ع)... ولا أجيز لنفسي ولا لغيري الإجابة بخنفة وابتذال طبقي يستبعد 
تعسفاً حاجات الروح إلى الفن الرفيع الذي يجيي الروح ويربط الذاكرة 
الباذخة بالرؤية الصافية والحلم الجليل والشهادة الدائمة للحق والعدل 
والحرية والتقدم... وتقر عين المؤمن وقلبه بمذه الصروح الشامخة الرحبة, 
التي تعلن الحياة في الموت مقابل الموت في حياة الطغاة قبل ماتهم. وتعلو 
قامات الذين طلقوا الدنيا من أجل خلاصنا في الدنيا والآخرة معا 
فلازمهم الحب والمد كظلاهم... وبعدما منعوا من بناء التاريخ بأيديهم بنوه 
على دمهم... فحضروا في تفاصيله. وخابت مساعي المتوكل وعقوباته 
القاسية في منع الزيارة» وارتد خائباً ذلك الذي حاول مو الذكر بحدم 
وبمحو الأثر» ويستمر تدفق الزائرين من أقطار الدنياء وكأن الأجيال تقول 
هم بأخم المثال المرتجى والماضي الذي نستقبله. وأن الطواغيت مهما عتوا 
فلن يدخلوا القلوب. وعليه فإن حكام العراق الحريصين على رعاية الزوار 
وتسهيل تجديد المشاهد» مشكورون, ولكننا نسأهم عما اذا كانوا يقتدون 
بأئمتهم في حياتهم وإدارتهم للشأن والمال العام, حتى يكون ثوابحم على ما 


YY 


يقومون به من خدمة الأئمة مضموناً وعظيماً؟ نتمنى أن يكون الواقع 
كذلك ومن دون تعسف مناء وفي الحدود التي رها علي )ع( عندما 
تحدث عن زهده وخاطب أصحابه وأهله وولاته وقضاته وعماله بواقعية, 
قائلاً: (وأعلم انكم لا تقدرون على ذلك» ولكن أعينون بورع واجتهاد 
وعفة وسداد)(١).‏ 


ونستخلص من كل ذلك أربعة أمور» أوها الحذر من شيوع تلك 
الظاهرة التي تفقع دون رادع» وتستجد الأضرحة دون وازع بغياب إثبات 
تاريخي, والأمر الثاني يتعلق بالطريق الذي تسلكه أموال التبرعات 
و"الخمس" بغير مقصدها لفقراء الناس ومحوجيهم, وثالنها عدم الإيغال في 
الزخرف والبذخ في بناء صرح مخملي وسط بيئة اجتماعية بائسة» أي رفض 
أن يكون الضريح مدعاة تظاهر للتمايز الطبقي. والأمر الرابع هو أن تتقي 
الله السلطات الوضعية ولا تستثمر تلك البؤر لتأليب الناس على بعضهمء 
وهديهم إلى الدين الأخلاقي وليس للتمظهر الطقوسي» وأن تتاجر 
بالشخصوص النزهة الراقدة تحت ثرى الأرض. 


ولا يمكن هنا أن نلغي روح المبادرة والتكافل الاجتماعي الذي يسير 
بوازع روحي» ولا مانع بالعطاء وتقديم الحبات لتعمير المكان المقدس 
ليشمل تباعا المكان البشري والحضري الحيط به ليصب في مغاز إعمار 
المكان عموماً الذي سنتحدث عنه. على أن توجه لصندوق مصرفي معلن 
وصريح وشفاف» وتديرها مجالس مؤتمنة لزهاد بعيدين عن الطمع والمشهود 


' هان فحص - مقال: مراقد الأئمة ومصالح الأمة - جريدة النهار بيروت - ۲۷-٠۰٤-۲۰۱۱‏ 
YY‏ 


هم بالاستقامة» وتوظف لخدمة الصاح العام» وتصبح سببا في الارتقاء 
بالحياة ودرء العوز الاجتماعي وتقويم الفوارق الطبقية. ومعين لطبقات 
واسعة ممن لا يستطيعون اللحاق بسباق الرزق» كالعجزة واليتامى والأرامل 
والمعوقين ومعطوبي الحروب وأبناء السبيل. وهنا تحضرني ممارسة (لا دينية) 
لمستها في السويد البلد الذي يشكل اللا دينيين فيه حوالي ٠‏ بأن 
يوجهوا %۸١‏ من الأموال المستحصلة من المراهنات والسباقات 
(كاخيل)» والقمار وأوراق اليانصيب» الى أعمال الخير كالخدمات 
والمساعدات والبنية التحتية» وتشمل حت إعانات للدول الفقيرة وجلها 
إسلامية, كي يزكوا هذا اال ضمن شعور فطري بحرام مصدره» وينقلوه من 
الحرام إلى الحلال الذي نتطلع إليه. 


ولا بد في كل ذلك من الارتقاء بالوعي لكي يتابع ويحاسب إلى أين 
تذهب أموال التبرعات عموماًء وأين توظف, وخلافها فإنما تكون سببا في 
الفساد والإفساد والثراء الفاحش الذي فى عنه الدين الحنيف والأخلاق» 
وسبب مباشر في شيوع ظاهرة ما دعي (الإرهاب) التي ألصقها الغربيون 


YT 


٦‏ إعمار المكان في الإسلام 


يمكن أن تكون الدعوة الصريحة لإعمار المكان من أهم ما ميز رسالة 
الإسلام عن الأديان الأخرى ولاسيما الموحدة, كاليهودية والمسيحية. فقد 
جاء في الوصية "الموسوية" الثانية ما نصه: (لن تصنع من نفسك معبودا 
ولا أي صورة لما هو موجود في الأعلى» أو لما هو موجود على الأرض في 
الأسفل أو لما هو موجود في المياه تحت الأرض) (') وينسب نص في الأثر 
إلى البي عيسى المسيح (ع)» قوله: (الْدُنَِا قنطرة فَاعْبْرُوْهَا ولا 
تَعْمْرُوهَا)أو (تلكُم ادنيا فلا تَتَحِذُؤْهَا قَرَارا) أو (من ذا الذي يبني فوق 
موج البحر دارا؟!» تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا) (۲). 


بينما نجد في القرآن الدعوة معاكسة كما في قوله تعالى: (هُوَ أَنشَاكُم 
مِنْ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ) (") واستعمار الأرض أو عمارقا 
إنما تتم بالغرس والزرع والبناء والإصلاح والإحياء والبعد عن كل إفساد 
وإخلال» الذي يؤكده النص القرآني: (ولا تُفْسِدُوا في الأرض بَعْدَ 
إصلاجها وَاذْعُوهُ حَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رة الله قريب من الْمُحْسِنِينَ) )١(‏ . 

ويعد الإعمار أو استعمار المكان ثالث درجات المقاصد بالعقيدة 
الإسلامية» حيث أوهًا العبادة وثانيها استخلاف الله للإنسان في الأرض» 


' العهد القديم (التوراة) - الإصحاح 4-١٠١‏ 
' أورد ذلك إبن حزم الأندلسي (ت: ٤٥١‏ ه ا۴٦‏ ١٠م))‏ في طوق الحمامة. 
" سورة هود- الآية 51 
سورة الأعراف - الآية 5ه و٥۸‏ 
Yo‏ 


وذلك بإقامة الحق والعدل ونشر الخير والصلاح. والاستخلاف هو قيام 
شيء مقام آخر لا تتم إلا يكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤونه 
الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره. والاستخلاف يعنى أن الإنسان وصى 
على هذه البيئة لا مالك لحاء أي أنه مستخلف على إدارتًا واستثمارها 
وإعمارها أمين عليها لا مفرط ومغامر بما. ويقتضي ذلك واجب 
الاستخلاف في المفهوم الإسلامى أن يتبع المخلوق ما يأمر به مالك هذه 
البيئة وخالقها ومستخلفه فيها ويقتضي واجب أمانة الاستخلاف» أن 
يتصرف فيها تصرف الأمين فيما أؤتمن. ومعنى هذا أن المكان ليس ملكية 
مطلقة في الإسلام» أي أنه ليس من حق أي فرد أن يتصرف فيما يملك 
كيفما یشاء؛ فالملكية في الإسلام نحددة بضوابط وشروط. منها حسن 
استغلانها وصيانتها وامحافظة عليها من أي تدمير أو تخريب وحتى من جشع 
الإنسان» فالخلق آيات الله ملزمة بالحافظة على النفس وحمايتها وعدم 
إلقائها فى التهلكة, والمنحى الإعماري والاستصلاحي والحافظة على 
المكان. ولا مبالغة إذا ما قلنا أن جدارة الإنسان بالاستخلاف تقاس 
بدرجة قدرته على إعمار الأرض وتنميتها. 


لقد كان الخطاب القرآن يرتكز على مفاهيم وأشكال العبادة أكثر 

من تركيزه على آليات العّمارة» وذلك أن العبادة تلبّستها صور عديدة من 

الاختلاف والتمذهب وحتى الشرك والانحراف, أذت بالنتيجة إلى فساد 

العبادء ولأن في صحتها وقوامها المطلوب قوام للحياة ومعاش للناس. بيد 

أن عمارة المكان تتوافق مع ما جبل الله الإنسان عليه من حب التملك 

والتنافس والتكاثر, فهو يحتاج إلى الاعتدال في طلبه, والامتثال في عمله» 
E‏ 


ولا يصلح حاله إل بشرع مسدّد. ووحي ملزم يهذب طبعه من الانحراف 
والتجاوز. 


ولا يعني ذلك أن القرآن قد أهمل الطلب أو نفاه؛ بل قد جاء في 
أكثر من آية تعزيز القيام بالعمارة» كقولة تعالى: (وَإِذْ قال رَبك لِلْمَلَائكَةٍ 
ِي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيقَة) (') وقد قال البيضاوي في تفسير ذلك: 
"والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه. والحاء فيه للمبالغة, والمراد به آدم؛ 
لأنه كان خليفة الله في أرضه. وكذلك كل نبي استخلفه الله في عمارة 
الأرض» وسياسة الناس» وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم" ( ') وقال 
ابن عاشور مؤكداً معنى العمارة: "فالخليفة آدم وَخَلَفِيَتُه قيامُه بتنفيذ مراد 
الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقينُ ذريته مراد الله تعالى 
من هذا العام الأرضي" ("). 


وقال الطبري مؤكداً معنى العّمارة في الآية: "(واستعمركم فيها), 
بقوله: وجعلكم عكار فيها" (“)» وقال البيضاوي: "(واستعمركم فيها) 
عمركم فيها واستبقاكم من العمرء أو أقدركم على عمارقا وأمركم بما", 
فالإنشاء من الأرض هو في خلق آدم من الأرض؛ لأ إنشاءه إنشاء 
لدسله. ونا ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأتهم كانوا أهل غرس وزرعء ولأهم 


أ سورة البقرة -الآية "٠‏ 
' تفسير البيضاري-ج١‏ حص 4 5. 
" ابن عاشورء التحرير والتنوير 2584/١‏ ولابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة" ١61/١‏ 
كلام مفيد وتفصيل رشيد حول خلافة الله في أرضه 
تفسير الطبري: 8 .."5/8/1١‏ 
TY‏ 





كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً. كما قال في 
كُمْ في الأرض تَتّخِدُونَ من سُهُوها قُصوراً وَتَنْحِبُونَ 
ا لجال بيُوتا) ('), فكانت هم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهي 
فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بِأنما من الأرض التي أنشئوا 
منهاء ولذلك عطف عليه (واستعمركم فيها). والاستعمار هو الإعمارء 
فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقى واستفاق. ومعنى الإعمار أنهم 
جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع؛ لأنْ ذلك يُعدَ تعميراً للأرض 
ی کي الحرث عمارة؛ لان المقصود منه عَمر الأرض (') فبيان العمارة 
واجب على مجموع الخليقة في القيام به وقد نص على حكم الوجوب 
الإمام الجصاص في قوله: (واستعمركم فيها) يعني أمركم من عمارتا عا 
تحتاجون إليه» وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس 
والأبنية('), وليس خارجاً هذا التكليف عن مفاهيم الطلب كما زعم 
البعض. 


2 
ت 


الآية الأخرى: (وَبَوا 


' سورة الأعراف- الآية ..۷٤‏ 
' انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير .١۹۳/۷‏ والمعنى اللغوي في العمارة أو الاستعمار يُراد به 
عمارة الأرض بالزرع والحرث والبناء وهو قول كثير من أئمة اللغةء ومنهم ابن فارس حيث يقول: 
"من الباب عِمارة الأرض» يقال عَمَرَ الناسٌ الأرض عِمارةء وهم يَعْمُرُوفا وهي عامرة معمورة. 
وقوهم: عامرة» محمولٌ على عَمَرتِ الأرض, والمعمورة من عمرت. والاسم والمصدر العُمران: 
واستعمر الله تعالى الناسَ في الأرض ليعمرُوها. والباب كله يؤول إلى هذا." ابن فارس- معجم 
مقاييس اللغة: 5/85 ...١١‏ 
" الجصاص: أحكام القران ج ۳/ص:۳۷۸. 

ضف 





وغير الاستعمار نجد من القواعد الإسلامية في العمارة مفهوم 
الاستصلاح الوارد من الحديث: "لا ضرر ولا ضرار" الذي يعني بأن أي 
صورة من صور الضرر سواء لنفس الإنسان أو لغيره منهي عنها. ويضرب 
المثل بالضرر الناتج عن فتح الكوة أو النافذة مغلا ومدى تأثير هذه 
العملية على العلاقة بين الجيران, فالعلاقة بين البنايات المتجاورة ليست 
جامدة, بل تساهم إلى حد كبير في تحديد سلوك القاطنين جا وما يتطلبه 
ذلك من ضرورة احترام الآداب العامة. 


ويعد أبو داود هذا الحديث النبوي بأنه أحد خمسة أحاديث يدور 
عليها الفقه. وهي تعني المهتمين بمسائل العمران» وقد استخدم الفقهاء 
والقضاة والحكام هذا الأصل للحكم على تصرفات الفرق التي تضر 
البيئة» فقد يقوم الأفراد بتغيير البيئة بسبب عدم وجود الأنظمة والقوانين 
في ذلك الوقت» فقد كان هذا الأصل هو الحكم في كل قضية بيئية: 
وبالتالي عوجت كل قضية معالجة مستقلة» فلم يكن هناك قانون مطبق 
على الكل يمنع سكان حي بأكمله من التعالي أكثر من طابقين مثلا. ولكن 
كان كل موقع أو عقار يعالح بذاته ولذاته لا قياساً بالمنطقة التي هو بماء 
كما هو الحال في أيامنا باتباع أنظمة السلطات والقوانين العقارية» وبذلك 
فغمة طريقتان مختلفتان تماما في التعامل مع البيئة» إحداهما تأخذ عبدأ 
الضرر» والأخرى تأخذ بالأنظمة» وهنا يجب التروي والنظر إلى جذور 
المسألة. 


۳۹ 


نرصد أن الأنظمة البيئية الحديثة التزمت بمبدأ الضرر الإسلامي» 
ولكن عند تطبيق هذه الأنظمة فإنها تطبق على حي بأكمله» وهي لا 
تتعامل مع كل نازلة منفردة كما تفعل الشريعة. وهذا يكرس حالة 
الاستقراء بنوعيه التام والناقص, ويعني تتبع وتقصي الظاهرة من أجل 
استخلاص نتيجة. فالتام هو تتبع كل الجزئيات للوصول إلى الحكم» وهو 
صعب. أما الناقص فهو اختيار عينة للوصول إلى الحكم» ويسمى 
"بالاستقراء العلمي"» وهو الأكثر شيوعاً في بحوث اليوم. وربما تكون 
الشريعة قد تعاملت بطريقة الاستنباط والتي تعني استخلاص نتيجة من 
المعطيات المتوفرة وافتراض علاقة جديدة نسميها "بالحدس العلمي". تبر 
ليصبح نظرية أو قاعدة أو قانوناً» وذلك حسب نصيبه من الإثبات 


ودرجته من اليقين. 


ورعا يسأل البعض عن تاه الاستقراء مع القياس» فالقياس ينطلق من 
الجوهر والمعنى: ويعتمد المنطق» وينطلق من الكل إلى الجزء أما الاستنباط 
فينطلق من الجزئيات العرضية» وينطلق من الجزء إلى الكل. وهناك اختلاف 
بين الفقهاء في تحديد المعنى الدقيق لكل من الضرر والضرار والفرق بينهما 
> وبالتالي في استخدام الحديث في معالجة المسائل البينية» ففي نيل الأوطار 
يرد: (قيل أن الضر فعل لواحد» والضرار فعل الاثنين فصاعدا. وقيل 
الضرار أن تضره بغير أن تنتفع» والضر أن تضره وتنتفع أنت به. وقيل 
الضرار الجزاء على الضر والضر الابتداء) وقيل: الضرر هو ما لك فيه 
منفعة وعلى جارك فيه مضرة, والمقصود هو أن الضرر ما قصد الإنسان 
به منفعة نفسه» فكان فيه ضرر على غيره كبناء مرحاض في ملك نفسه 

0 


عند جدار جاره نما قد يؤثر على حائط الجار. والضرار هو ما قصد به 
الإضرار بغيره كفتح نافذة لا يستفيد منها ويطل منها على عورة جاره. 
ويقول ابن الرامي: (ويحتمل أن يكون معنى الضرر أن يضر أحد الجارين 
جاره» ومعنى الضرار أن يضر كل واحد منهما صاحبه)('). 


وقال القاضي ابن عبد الرفيع (تولى القضاء بتونس سنة 599 هم - 
68م( في كتابه "معين القضاة والحكام": تفسير الضرار أن تضر نفسك 
ليتضرر بذلك غيرك) وقال ابن حبيب (ت١8١ه‏ = 8١8‏ م): (هما 
كلمتان بمعنى واحد رددت توكيدا في المنع منه. وقد يأخذه تصريف 
الإعراب» فالضرر الاسم والضرار الفعل)('). كما قيل عن الضرر أنه 
إلحاق مفسدة بالغير مطلقة. والضرار هو الثأر نمجرد الانتقام ممن أضر 
بالشخص مما يزيد من دائرة الضرر. 


بيد أن هناك مفهوماً عمرانياً واضحاً يفرضه الحديث هو أن لكل 
فريق في البيئة الحربة في التصرف إذا انعدم الضررء كما أن التعريفات 
السابقة تشير إلى أن تفسيرات الفقهاء تتعامل مع الأفعال الضارة بالغير 
خارج حدود عقار الفريق المتصرف وليس داخله» أي أن حديث الضرر 
يرفض تدخل الفرق الخارجية كالجيران أو السلطة في الشؤون الداخلية 
للفريق التي لا تتصل بالخارج» فلا يحق لكائن من كان أن بمنع شخصا من 
بناء غرفة في حديقة منزله إذا لم تغبت العلاقة بين هذه القرارات وضرر 


' خب بن الرامي- الإعلان بأحكام القرآن - بيروت .١99/‏ 


1 مروان بن حبيب المرداسي المالكي الأندلسي - تفسير الموطأً. منشور 
٤١‏ 





الجيران؛ فللإنسان التصرف داخل حدود ملكه إذا لم يضر بغيره دون 
الاستئذان المسبق, وهذه النقطة تكرس التواجد المستقل. أي أن حديث 
الضرر يوسع من دائرة حق السيطرة, وبذلك فالتصرفات الوحيدة التي ينع 
منها الفريق هي تلك التي تؤثر في أعيان الجيران مباشرة كوضع آلة تصدر 
اهتزازا يؤثر في حائط الجار, أو تلك التي تؤثر في الجيران أنفسهم دون 
أعيانهم كالنظر إلى عوراتهم من النافذة» وبذلك يكون الحديث مصدرا 
للسيطرة الخارجية على كل من الأعيان وتصرفات الأفراد(') 


قال الراغب الأصفهان في (الأخلاق)('): الإنشاء إيجاد الشيء 
وتربيته وأكثر ما يقال ذلك في الحيوان. وقال: العّمارة ضد الخراب.. 
يقال: عمر أرضه يعمرها عمارة قال: «وعمارة المسجد الحرام». يقال: 
عمرته فعمر فهو معمور قال: (والبيت المعمور) وأعمرته الأرض واستعمرته 
إذا فوضت إليه العمارة قال : (واستعمركم فيها) فالعمارة تحويل الأرض 
إلى حال تصلح با أن ينتفع من فوائدها المترقبة منها كعمارة الدار للسكنى 
والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيهاء 


أ جميل عبد القادر أكبر - عمارة الأرض بالإسلام - الرسالة للتوزيع - الرياض .٠۹۹۲‏ 

" الراغب الأصفهان الأصلء البغدادي النشأة والمنجز الفكري وهو معتزلي الحوى, واسمه أبو 
القاسم الحسين بن مفضل بن د» يرجح أنه ولد في رجب من شهور سنة ۲٤۳‏ ه. من كتبه 
(مخاضرات الأدباء - ط) مجلدان. و(الذريعة إلى مكارم الشريعة - ط) و(الأخلاق) ويسمى 
(أخلاق الراغب) و(جامع التفاسير) كبير» طبعت مقدمته, أخذ عنه البيضاوي في تفسيره» 
و(المفردات في غريب القرآن - ط) و(حل متشايمات القرآن - خ) و(تفصيل النشأتين - ط) في 
الحكمة وعلم النفس» و(تحقيق البيان - خ) في اللغة والحكمةء وكتاب في (الاعتقاد - خ) و(أفانين 
البلاغة). 

a 





والاستعمار هو طلب العّمارة بأن يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض 
عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها. 


أمر تعالى إقران الأمر بالمكارم من خلال أن يتصرف بتحويل الأرض 
إلى حال ينتفع بجا في حياته» و يرفع با ما يتنبه له من الحاجة والنقيصة, 
والاحتفاء بالمكان مفهوم روحي مسترسل من ثقافات الشرق القديم, ولا 
سيما عند الشعوب الزراعية التي ورث منها الكثير من المفاهيم الراسخة, 
حتى أن مفهوم الاستخلاف يوحي بنفس مبدأ (توكيل أنانا) للبشر عند 
السومريين, الذي تأسست على ضوئه المدن كبادرة للاتكال على النفس 
وتوسيع أطر التجمع (ليصل حوالي 5٠‏ ألف ساكنا). 


وني الإسلام نجد إشارة إلى أن الأرض تعد من نعم الله الكبرى وأن 
إعمارها والحافظة عليها واجب, كما فى الله عن الفساد والإفساد والظلم 
والاستبداد وجاء بالذكر الحكيم: (وَإذا قيل نَم لا تُفْسِدُوا في الأرض قَالُوا 
إا خن مُصْلِحوتَ) ('). أو(وإذا تول سَعَى في الأرض يفي فبا وَيُلِكَ 
ارت وَالنَسْلَ وَالنَهُ لا بحب الْمَسَادَ) أو (كُلَّمَا َؤْقَدُوا ارا لِلحَرْب أَطْفَأَهَا 
الله وَيَسْعَؤْنَ في الأرض فَسَادًا وَالنَهُ لا يحب الْمُفْسِدِينَ) (').: أو في قوله 
(ولا تُفْسِدُوا في الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَاذْعُوهُ حَوْفَا وَطَمَعَا إِنَّ رَحْمَةَ الله 
قريب مِنْ الْمُحْسِبِينَ) ("). فإن الإفساد في الأرض عبارة عن إفناء 


' سورة البقرة - الآية١ ١‏ 
' سورة المائدة - الآية 54 


" سورة الأعراف - الآية 5ه 


مواليدها وكمالاتًا أو منعها عن البلوغ ها أو ريف كلماتمًا التكوينية أو 
التدوينية عن مواضعها وإخراج الأشياء عن كونا منتفع جا فلا يمكن 
الإفساد إلا بمعصية الله. 


وقد اعتمد فقهاء المسلمين في تناوهم أحكام البنيان على النص 
القرآني: (حذ الْعَفْوَ وَأَمْرْ بالْعْرْفٍ وَأعرضْ عن الخاهلين)('). ويفسرون 
العرف على كونه مجموعة القواعد والسلوكات التي تم التدرج والتطبع على 
اتباعها ولم يعارضها أحد» طالما لا تخرج عن ما جاء في القرآن الكريم 
والحديث النبوي الشريف. وبمكن للعرف المتعلق بالعمران أن يتخذ ثلاثة 


معان هي: 


ه ما يقصده الفقهاء من استنباط الأحكام فيما لم يرد فيه نص» كعادة 
أهل أية مدينة اعتماداً على القاعدة الفقهية: "العادة محكمة" ومعناها 


"أن العادة تعتبر وتحكم, إذا كانت غالبة أو مستمرة. 


٠‏ إقرار الشريعة لا هو متعارف عليه بين الجيران لتحديد الأملاك 
والحقوق» وذلك وفق القاعدة القائلة: "من في يده شيء فهو ملكه. 
لا يحل لأحد الاعتراض عليه ولا يكلف إثباته ببينة". وهذا المبدأ 
طبقته بعض الدول الحديثة مثل السويد ويوغسلافيا والجزائر, 
بشعار(من الشعب إلى الشعب). 


أ سورة الأعراف-الآية 949 
٤‏ 


ه الأغاط البنائية: عندما يتصرف الناس في البناء بطريقة متشابمة. ويبرز 


وترتب عن مبدأي "الأخذ بالعرف" و"لا ضرر ولا ضرار" في تقرير 
أحكام البناء» ظهور مبدأ آخر يدعى "حيازة الضرر" الذي يعني أن من 
سبق في البناء يحوز العديد من المزايا أهمها حيازة الضرر وتملك الأرض› 
التي يحب على كل من أي من بعده من الجيران أن يحترموها وأن يأخذوها 
بالاعتبار عند قيامهم ببناء بيونهم. بينما تبقى الطرق والشوارع ملك جميع 
السكان» وبالتالي فالسيطرة عليها من حق الارة أو المستعملين ها. أتذكر 
أن اعترض بعض الناس في ستوكهولم عاصمة السويد على مطار (بروما) 
الواقع غرب المدينة» بسبب ما يثيره من ضوضاء وإزعاج» فكان عذر 
السلطات بأن المطار بني في ثلاثينات القرن العشرين, قبل أن تبنى الأحياء 
السكنية الحيطة! 


ومن أبرز لوازم إعمار الأرض "إحياء الأرض الموات", ومعنى (الأرض 
الموات) أي: الأرض البور أو المتروكة التي لا ينتفع بجا انتفاعًا مُعتدًا به, 
سواء كان ذلك بسبب انقطاع المياه عنهاء أو استيلاء المياه أو الأحجار, 
أو الرمال عليهاء أو طبيعة تربتهاء أو غير ذلك من الأسباب» وقد تكون 
هذه الأرض متروكة ابتداءًء وهي الأرض التي لم تعرض ها الحياة من قبل؛ 
كأكثر البراري والصحاري والبوادي» وغير ذلك» أو أن تكون قد ماتت 
بعد حياة» وخربت بعد عمران» وتحولت من أرض منتجة إلى أرض بورء 
وهو ما يعرف الآن بظاهرة (التصحر). 


تلن 


وتبرز أهمية "إحياء الأرض الموات" بمعنى إعمار المكان واستصلاحه 
عندما نراجع سويًا خطورة مشكلة " التصحر" في العام فعلى الصعيد 
العالمي يتعرض 9/070 من سطح الأرض لخطر التصحرء مما يؤثر سلب 
على حياة بليون شخص في العام والمسألة في تزايد خطير, فالعلم يفقد 
سنويًا نحو ٠١‏ مليون هكتارا من الأراضي بسبب التصحر (واهكتار - 
٠‏ آلاف مترا مربعا)» وهذا التصحر يدفع السكان في هذه المناطق 
المنكوبة إلى مغادرقاء واللجوء إلى غيرهاء ويكفي أن نعرف أن عدد 
اللاجئين بسبب التصحر قد بلغ ٠١‏ ملايين لاجئ في عام ۱۹۸۸ فقط! 
وتتسبب مشكلة التصحر في خسارة اقتصادية سنوية تقدر بنحو 47 
مليار دولاراء هذا بالإضافة إلى المشاكل الصحية والاجتماعية والسياسية 
والعسكرية التي تتفاقم نتيجة انتقال هذه الأعداد الحائلة من البشر من بلد 
إلى بلد 


نعلم أن صحارى الجزيرة وبادية الشام ونال إفريقيا هي الأكبر في 
شريط الصحارى المطوق للأرض. بل إن الكثير من الدول الإسلامية تقع 
في مقدمة الدول التي تعاني من "التصحر" حت المعشوشبة والخضراء منهاء 
ومنها: "السودان, والصومال» وموريتانياء والنيجرء ونيجيريا" وغيرهاء بل 
إن مشكلة التصحر تمس بعض البلاد الغنية بالماء مثل مصر! ومن 
العجيب أن نعلم أن مصر تفقد نحو ألف متر من الأراضي الزراعية كل 
ساعة بسبب التصحر!. ولعل المتأمل هذه الأرقام الخطيرة يدرك حجم 
المشكلة الضخمة التي تصدى لعلاجها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر 


Ea 


قرتاء ويدرك من ثم مقاصده با يخص المكان, با فيها مشكلة التصحرء 
وغيرها من المشكلات. 


ويشترط في أن تصنف الأرض موانًا بأن تكون بعيدة عن العمران» 
حتى لا تكون مرفتًا من مرافقه, ولا يُتوقع أن تكون من مرافقه.. وبُرجع 
إلى العرف في معرفة مدى البعد عن العمران, كما يُرجع إلى القوانين التي 
يسنها الحاكم لحفظ المصلحة العامة. وقد اتفق العلماء على أن إحياء 
الأرض سبب في ملكيتهاء ولكنهم اختلفوا في اشتراط إذن الحاكم هذا 
التملك» فقرر أبو حنيفة أنه لا بد من إذن الحاكم, وقراره لتعطى ملكية 
الأرض من أحياهاء أما الإمام مالك فقد فرق بين الأراضي المجاورة للعمران 
والأراضي البعيدة عنه. فإن كانت مجاورة فلا بد فيها من إذن الحاكم, أما 
إن كانت بعيدة فلا يشترط فيها إذنه. وتصبح ملكا لمن أحياهاء أما 
بالنسبة للإمام الشافعي وابن حنبل فقد قررا أن إذن الولي ليس ضروريًا 
لإحياء الأرض وتملكهاء وذلك تشجيعًا على استصلاح الأراضي. 


وأهم مظاهر التكريم الوارد في الدين هو تسخير البيئة لخدمة ومنفعة 
الإنسان كما في الآية: (وَلَقَدْ كرّمْنَا بني آم وَحَمَلنَاهم في الْبَرّ وَالْبَحْرِ 
َررَفْنَاهِم من الطَّباتِ وَفْصَلْنَاهم عَلَى كدر من حََقْنَا تفضيلا) ('). زخاً 
يرد التكريم الذي يفترق عن التفضيل» فإن التكريم معنى نفسي والتفضيل 
معنى إضافي وهو تخصيصه بزيادة العطاء. والإنسان يختص من بين 
الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والأحوال 


سورة الأسراء- الآية Va‏ 


التي توجد بينها والأعمال التي بأ بما. وينجلي ذلك بقياس ما يتفنن به في 
مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه. ويأتٍ به من النظم والتدبير في مجتمعه 
ويتوسل إليه من مقاصده باستخدام سائر الموجودات الكونية» وقياس ذلك 
نما لسائر الحيوان والنبات وغيرهما من ذلك فليس عندها من ذلك إلا 
وجوه من التصرف ساذجة بسيطة أو قريب من البساطة وهي واقفة في 
موقفها امحفوظ ها يوم خلقت من غير تغير أو تحول محسوس. 


وقد سار الإنسان في جميع وجوه حياته الكمالية إلى غايات بعيدة ولا 
يزال يسعى ويرقى. وبالجملة فالبشر مكرمون ومميزون عا خصهم الله به من 
بين سائر الموجودات الكونية من خلال العقل الذي يميزون به الحق من 
الباطل والخير من الشر والنافع من الضار. وهل يعني هذا التكريم إلا 
توجيه بضرورة الحفاظ على المكان (البر والبحر) ومكوناتما من ماء ونبات 
وحیوان ومناخ ليستمتع الإنسان بحياته,» ويؤدي دوره كسيد هذه الأرض 
و خليفة لله فيها. 


فالاستخلاف معناه أن نحافظ على البيئة المكانية دون تدمير أو 
استنزاف لنورثها للأجيال القادمة سليمة قادرة على العطاء وإن سوء 
استغلال موارد البيئة واستنزافها لحساب جيل معين على حساب الأجيال 
القادمة أمر ينهى عنه الدين وفيه مخالفة صريحة لمعنى الاستخلاف؛ لذا فإن 
الاستعمار والاستخلاف و(الاستبياء) أي العناية بالبيئة و(الاستمكان) أي 
العناية بالمكان عموماً أخذت مدى روحان بالرغم من ماديتها الظاهرة, 
وأمسى الإبمان درجات. ولا بمكن أن يصعد الإنسان إلا من خلال تراتبية, 


5 


هي ميزان تفاضلي ومعيارية لازدواجية الخير والشر الذي بنيت عليه كل 
الأديان والفلسفات السابقة» ووجد ها الإسلام منهجاً وتنظيم جوهرها. . 


إن عمارة المكان وإقامة العدل غايتان أساسيتان لأمانة الاستخلاف 
في الأرض» وإن حياة الإنسان وكرامته أمران مقدسان لا يجوز انتهاكهما 
بغير حق» وإن الخراب لا يجزأ فالإنسان والبيئة صانعهما واحد وخامتهما 
واحدة» فالإخلال بواحدة يعني شمل الثانية. ونجد في تلك الآية الدليل 
والفحوى: (مَنْ قَمَلَ نَفْسّا بِعيْرٍ نَفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرض فكأعًا فل 
الاس حْمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَعَا أَخيًا النّاسَ حْمِيعًا) ('). 


> 


3 


مقاربات في الموقف من الإحياء 


إن الدعوة إلى إحياء المكان البيئي لم تكن قد تولدت في أوربا في 
القرن التاسع عشر من خلال حنين رومانسي لأيام المدوء والطبيعة قبل 
حلول مراجل البخار وضجيجها في (الثورة الصناعية), كما يذهب إلى 
ذلك الغربيون في سبر غور النزعة البيئية. نعم رما كانت لديهم كذلك»› 
لكن تعميمها علينا أمر فيه من الإجحاف وال مغالطة بسبب اختلاف مسار 
التطور الاجتماعي الذي خضع لإرادة روحية» نأت أو اقتربت عن العقل. 
وإن مبدأ إحياء الأرض حقيقة أزلية, آمن بما الإنسان منذ بداية وعيه, 
حتى جاء الإسلام ووضع له الموازين والأطر التنظيمية من خلال العرفان 
الروحي» وأمسى بالنتيجة جانبا من الإيمان. رغم شطحات السلاطين الذين 


أ سورة المائدة - الآية ۳۲. 


لا تنطبق عليهم معياريته. وهذا ليس أمرا فقهيا (ثيولوجيا) كما يذهب 
بعض المتفذلكين, فالحدود الروحية تسري عند عامة الناس أكثر من 
الوضعية في كثير من الأحيان» التي تبقى مرهونة بسمو الإدراك الحضاري. 
الذي نفتقده اليوم. 


وني سياق ذلك, وللمقارنة حري التفريق بين المقاصد في إحياء 
الأرض الموات هل هي للنفع العام أم الخحاص» ففي الغرب وبعد سيطرة 
العثمانيين على القسطنطينة عام 8487 ١م,‏ حدث تغير كبير في البنى 
الاجتماعية. وبسبب الكساد والبطالة التي تبعت أحداث تغير مسارات 
التجارة البحرية» وخطوط القوافل العالمية» حدث تمافت في أوربا كلها على 
استصلاح الأراضي البورء ونشأ على أثرها طبقة الإقطاعيين الذين يملكون 
مساحات مكانية واسعة» ويعملون لديهم فقراء القوم, الذين لا يجدون إلا 
أن يشتغلوا في تلك الحقول مهما كانت الظروف قاسية وذلك للحصول 
على لقمة العيش. 


وحتى يستتب الأمر للإقطاع» وضمان الأمان من ثورات الفلاحين 
والعمال» فقد اكتست عملية إصلاح الأراضي صبغةً دينية؛ فقد تواطأت 
الكنيسة مع أصحاب رؤوس الأموال والإقطاعيين لإضفاء مفاهيم لاهوتية 
على عملية الاستصلاح., وبالتالي إكساب الشرعية لأصحابما وضمان 
مكوثهم. ومن ذلك أن شُبَهَ إصلاح الأرض بما فعله الإله في الأرض حيث 
أنشأها واستخلف الإنسان فيها. أو أن القطعة المستصلحة أصبحت مكانا 
للعبادة وعملا نال الرضا الإهي. كما تم اللجوء إلى معتقدات دينية أخرى 


Y0. 


لتبرير الطبقية. وذلك باعتبارها تقسيما اجتماعيا أزلياً أراده الإله. وقد 
أخذت تلك المعتقدات شكل أعمال أدبية تمجد ذلك النظام الاجتماعي. 
فقد استعار (آلفيس كورنارو) صوراً دينية معروفة آنذاك مثل كون الغني 
رمز الرضا الرباني وإن الانحطاط الإنسان يرمز إلى سخطه للتفريق بين 
الريف والمدينة؛ فالريف في شكل الفيلا المخاطة بالحقول والخدم هو عين 
الرضاء بينما تكون المدينة عين الكفر والسخط الإلحي لا فيها من فقر 
وعجز اقتصادي. وبذلك فقد استعمل الدين المسيحي كوسيلة لدعم 
النظام الإقطاعي, ولعبت الكنيسة ورجال الدين دور الممتص لغضب 
الفلاحين والفقراء وتقديم المخدر المهديء المصبر بأنهم "سينعمون في الحياة 
الآخرة". 


وعلى المستوى الفني, فإن العلاقات الاجتماعية والاعتقادات الدينية 
ترجمت في التصميم العمراني والمعماري. ونلمسها في تصاميم المعماري 
النهضوي أندريه بالاديو التي تقوم على مبادئ رياضية بحتة ونسب بعينها 
مستقاة من روح الإله. ومن التطبيقات اختيار نوع الأعمدة الحاملة 
وصياغة نماياتًا على النحو الذي نجده في المباني الأثرية اليونانية» وكذا 
معالجحة الحيط الخارجي للفيلا في شكل ساحتين متناظرتين» إحداهما أمامية 
تستعمل للاستقبال وتدعى أحيانا بالساحة الشرفية والأخرى خلفية يشتغل 
فيها العبيد ويتبعون لإملاءات العائلة المالكة داخل الفيلا. وكثيرا ما كانت 
توضع شرفة في الطابق الأعلى وفوق المدخل الرئيسي مباشرة يجلس فيها 
السيد مع عائلته لينعم بالمنظر المهيمن على الآفاق» ويترقب زواره من 
بعيد. وهذا ما نجده في كتابات أحد أدباء تلك الحقبة حيث يقترح على 


"١ 


القارئ أن يلقي بنظرة من خلال النافذة ليرى المنظر الطبيعي الذي يتعلق 
بما والذي وفعت عليه يد الإله. وكان المعمار يتلقى الإيحاء من تعاليم 
المسيحية في النظام الكون المتدرج؛ فقد كان يعتقد مغلا أن الأرض 
والإنسان هما مركز الكون وأن الأجرام السماوية كلها تدور حولمما في 
خدمتهما. 


أما على وجه الأرض فإن الكنيسة هي مركزها مثلما أن الأرض هي 
مركز الكون, كما أن هذا التدرج هو نفسه الذي يحكم الحياة البشرية؛ 
فالإله في قمة ال حرم, ويعقبه الإنسان ثم الحيوان, كما أن في سلالة الإنسان 
طبقات متفاوتة القيمة, رأسها النبلاء وعقبها عامة الشعب» ولكل من هذه 
الطبقات وظيفة محدودة بحرم عليهم تجاوزها 


ويتجسد هذا الاعتقاد في اختيار موقع الفيلا حيث تتمركز في الغالب 
وسط الملكية وتقبع على تل فيها وقيمن بصريا على كل الأنشطة 
والأعمال الفلاحية التي تدور فيهاء ومن ذلك انطلقت تسمية (البرجوازي) 
أي الساكن في البرج العالي» و(8018) الجيرماني أو البرج المحاكي للمعنى 
بالعربية. فالمالك بمكن له من خلال شرفاته مراقبة كل ما يدور في ملكيته 
من أعمال دون أن ينزل إليها أو يحتك بنخدمه. كما يسمح له في نفس 
الوقت بالتنعم بمناظر الطبيعة دون أن يضطر إلى ملامسة التراب. والفيلا 
الإقطاعية تتعالى على المدينة ليس بموقعها وجمالها بل بمنزلتها كذلك. وبعد 
الثورة الصناعية وتغير النظام الاجتماعي والاقتصادي, انتقلت الفيلا لتعبر 
عن مقام أصحاب رؤوس الأموال حيث كانت مساكنهم تشرف على 


Yo 


المصانع من بعيد؛ فرغم تقلص مساحة القطعة الأرضية الحيطة فقد 
استبدلت بالحديقة والسياج وبعض النصب المخيفة التي تعبر عن سلطة 
صاحب الدار. ومازال شارع (الشانزيليزيه) يحتفظ باسم قصر الإليزيه 
المنيف. وقد احتفظت الفيلا بشكلها القديم حتى في عصرنا الحاضرء 
وأجدها قد أمست من مقتضيات التفاخر في الخليج بعد الطفرة النفطية. 


وبذلك فإن استعمار الأرض يعني طلب العمارة» وعمارة الأرض هي 
مشيئة أزلية بوجوب السيطرة على مخارج مقاصدها القيمية» فإن كانت 
للخيلاء والاستغلال والاستعلاء فلا خير به من استصلاح» وحري بالبور 
أن يعم ولا الطغيان وظلم الإنسان للإنسان. ونعلم بأن النظام الإقطاعي م 
يعم عندنا إلا من نظم غربية محضة» طبقت في مصر خلال مشروع خد 
علي (808١-1987م):‏ حينما فضل الغربيون التعامل مع الوجهاء 
كأفراد أجدى من التعامل مع الشعوب كتجمعات» لدرء الخشية من 
الاصطدام والغلبة, ومقابل ذلك يقوم الإقطاعي بترويض الناس في خدمته 
والمستعمر, فهو يزداء ثراءً والناس تبقى فقراء. وهذا ما طبقه الإنكليز في 
العراق بعد تأسيس الدولة العراقية عام ١۱۹۲م»‏ حيث نصبوا شيوخ 
العشائر إقطاعيين, فعاثوا في إخوانهم وأولاد عمومتهم ظلماً وتنكيلاًء حق 
هرب الفلاحين للمدن. وتركوا الإقطاعي وحده وحراسه في إقطاعياته حق 
١156‏ . 


وفي الجانب القسطاسى فإن بعض الفقهاء يفسرون الاستصلاح» بأن 
الله استودع الأرض ثروات بغير حصرء واستودع الإنسان من أسرار 


Yor 


المواهب والملكات ما يعد كنوز هذه الثروات» بل لا نبالغ إذا ما قلنا أن 
مهمة الإعمار هي البرر الوحيد لإسباغ صفة الخلافة على الإنسان 
وتصنيفه مخلوق الله المختار. كما أن الاستخلاف بالقياس الزمني استخالاف 
مؤقت وإن البيئة بمواردها الطبيعية المختلفة لا تعد ملكا خالصاً جيل أو 
طبقة أو شخص. يتصرف فيها كيفما شاءء ولا يستطيع أي جيل أن يدعي 
لنفسه هذا الحق» وإنما هو ميراث البشرية الدائم تتوارثها الأجيال المتعاقبة 
والمتلاحقة. 


وهذا يقودنا الى حقيقة أن التراث المعماري هو ملك مشاع لكنه 
يستخلف دون مساس جرمته» فهو غير قابل للتصرف به حسب الأهواء 
والرغبات» ولا من حق حتى السلطات أن تعبث به أو تغيره كما تشاءء 
فالاستخلاف لأصحاب المكان با يحويه من أثر ظاهر وظامر. وهذا 
يقحمنا في الموقف من التراث بأنه مهمة الدعاة وفقهاء الدين مثلما هو 
مهمة النخب الواعية في الجتمع» وإن السكوت عن تديمه هو إخلال 
بعملية الاستخلاف. وحري بأن ينبري بعض الدعاة الذين ينشغلون 
بتأجيج الفان والحث على التكفير والفرز والمفاضله الواهية بين الفرق 
والمذاهب, أكثر من دعواهم للإصلاح والتسامح» فهم مدعوون للإفتاء 
بأن تمد التراث المادي (المعماري) للإسلام يعادل محاربة الإسلام الروحي, 
وإن وجود الإسلام وبقاءه, مرهون بتلك الشواهد التي تثبت مروره في 
المكان, وهذا يحتاج إلى خطاب أرقى لفهم وإفهام الدين» ويبدو للأسف 
بأنه ينطبق عليه مفهوم: كيفما تكونون يكون دینکم» فالأمر مناط بالوعي 


والإدراك لتلك الحقائق الني يسبق بما الجوهر المظهر. 
o4‏ 


وإذ ندعو هنا إلى نوع من العبادة الأخلاقية الحضارية ندعوه (العبادة 
العمرانية) التي يذهب المتشنجون بأنما بدعة, وهي غاية الدين في صلبهاء 
فلم يأت الدين في رأينا إلا من أجل العدل والعقل. وإن الفتنة والبدعة هي 
في الانصراف عن وصايا الخالق في عمارة الكون واستثمار مكنوناته التي 
سخرها. والبدعة والانخراف كل الانحراف هو في القعود والتقاعس» 
وحبسها في سجون الحوى والعادات والتقاليد الموروثة من أزمنة الدعة التي 
نعد أنفسنا اليوم سليليهاء و"نعتد بكا". والفتنة والبدعة التي ما بعدها بدعة 
ولا فتنة هو تحويل الإسلام إلى طقوس وهيئات كهنوتية ومرجعيات 
متخلفة ومشايخ ومشیخات» وهو ما يتداعى إلى تفريغه من غاياته 
ومقاصده الجليلة في إقامة الحياة الكريمة للناس» وفي سيادة العدل والأمن 
والسلام بين العباد» وني تحقيق رسالة الرحمة في الأرض, أما عن العلاقة بين 
العبادة الروحية والعبادة العمرانية أو الحياتية فهي علاقة وثيقة ومتكاملة 
ومتلازمة؛ فالعبادة الروحية من شأتما أن تصقل النفوس وتذبما وتؤهلها 
للسير باستقامة وأمانة وصدق وإخلاص في ميادين الحياة. 


و(العبادة العمرانية): هي التي تؤهل الإنسان عمليّاء وتزوده بالعلم 
والمهارة والخبرة» ووسائل الإبداع والارتقاى وبأسباب مواصلة البحث 
والاستكشاف» وبكل أسباب العمارة والبناء على مبدأ الحاجة والسببية 
(إ مکنا لَهُ في الأرض وَآتَيْنَاهُ من کل شَيْءٍ سبباً. فَأنْبَعَ سبباً)(')» 
وبالتكامل والتلازم والتواصل بين العبادة الأخلاقية والعمرانية تتكامل 


أ سورة الكهف- الآية .۸٥-۸ ٤‏ 


مقومات الإبمان. وبالتكامل والتلازم والتواصل بين العبادة الروحية 
والعبادة العمرانية تتحقق وحدة البناء التربوي والثقافي للإنسان, ليكون 
مؤهلاً للتعامل بموضوعية وإخلاص مع واجباته, وليكون الإنسان من بعد 
ذلك مدركاً لتكامل مسؤولياته في مهمة الاستخلاف في الأرض» وفق 
منهج الاستخلاف السماوي الخالد الذي يقوم على مرتكزين إثنين رئيسيين 
هما "فاعلم" و"فامشوا في مناكبها", وذلك لتأسيس منهج حضاري عادل 
وراشد لمسيرة الإنسان في الحياة. 


إن التداخل بين المفاهيم العلمية والروحية جدير بأن يكون مادة 
واعية تلقن للنشء من خلال التعليم» والتأكيد على أن عمارة الأرض هي 
روح ومادة» وأن الأرض لا قيمة ها دون الزرع والضرع والعمارة» لتغمر 
فيها الحياة. وهنا جدير بالإشارة أننا أهملنا الكثير من المبادئ القيمة في 
حياتنا ول نجددها ونكبر مقياسهاء لتطأ العالمية» ومنها مثلا مبادئ الحماية 
من الحروب التي أصبحت منظومة الصليب الأحمر, أو الدخالة البدويةء 


التي أمست ميثاق جنيف للاجتين.. الخ ('). 


أ من المعلوم بأن تلك الأفكار من أمهات أفكار السويسري الفرانكوفون هنري دونان (۱۸۲۸م 
- ۱۹۱۰)» حيث زار تونس وشمال إفريقيا واطلع على أحوال بعض القبائل العربية البدوية في 
أربعينات القرن التاسع عشرء ولاحظ عرف عزل المصابين والنساء والشيوخ والأطفال في محميات 
عند الحروب, فانتبه وطور الفكرة ولاسيما بعد رحلة عمل أجراها سنة ١859‏ إلى إيطاليا خلال 
فترة حرب سولفرينو. وسجل ذكرياته وخبراته في كتاب أسماه (ذكريات سولفرينو) الذي مهد 
لتأسيس فكرة الصليب الأحمر عام .١857‏ أما معاهدة جنيف سنة 218514 فقد نشأت من 
أفكار دونان كذلك من خلال رصده لنظام الدخالة البدوي؛ وظل يرتدي الطربوش التونسي الأحمر 
51 


وفي هذا السياق» نأخذ من تجارب الدنيا الناجحة. ونذكر مقولة 
روزفلت الرئيس الأمريكي منبهاً إلى خلل المنهجية ذاكراً: "ليس ما نملك 
هو المهم لكي نكون أمة عظيمة, ولكن المهم هو الطريقة التي نتعامل جا 
مع ما نملك". وهنا نرصد الخلل الذي بمكن أن يحدث بين ماديات 
وغيبيات الأمور» كما ذهب إليه الرئيس الأمريكي نيكسون في كتابة 
(الفرصة السانحة) ذاكراً: "لقد خطا تقدمنا العلمي والتكنولوجي في القرن 
العشرين خطوات أكبر من تقدمنا السياسي.. الأمر الذي ينبغي ألا ندعه 
يتكرر في القرن الحادي والعشرين من أجل زيادة فرص الأمن والسلام". 
ولا بد من الإقرار بأننا والآخر شركاء في الأداء الحضاري مهما حدث 
ويحدث. فالأنانية والمصلحة المشتركة لا بد أن توجد بينناء لكننا راضخون 
راضون با يملى عليناء ونلوم الدنيا وأنفسنا. ولا بد أن نبادر وننتقل إلى 
نظير وند وكفء, لنكون شركاء مع الآخرين في النهوض بمهمة "عمارة 
الأرض وإقامة الحياة", لذا فإننا نؤمن أن دائرة المشترك مع الآخر تأخذ 
بالانفتاح والانفراج بعد دائرة التعقيد في العقيدة والاعتقاد. ولا بد من 
إيجاد مساحة مشتركة وواسعة للتعايش والتعاون والتفاهم والتنافس في 
رحاب الفهم والتفاهم. وبحسب الشريعة فإن المشترك الحياتي بين المسلمين 
وغيرهم واسع وكبير. يتحول إلى التعاون والتنافس المفتوح في فعل الخير بين 
امجتمع المسلم وغيره من المجتمعات على مبدأ (لِكُلَ جَعَلَا مِنَكُمْ شرع 


حق أيامه الأخيره, ويعد دونان أول من حصل على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع فريدريك باس 
من فرنسا سنة 1م. 
YoY‏ 





وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ الله جَعَلَكُمْ أُمَهَ وَاحِدَة وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ في ما آتَاكُمْ 
فَاسَْبقُوا اخيرات إل اله مرْجعْكُمْ ميا فيكم با كم فيه تَخَفُونَ)(') 


إن مقاصد الإسلام كمنظومة مكثت منذ أربعة عشر قرن ومازالت 
نافذة لجحميع البشر دون تييز» وهدفها يتعلق بأربع منطلقات تخص المكان 
هي : 


.١‏ عمارة الأرض واستثمار خيراهًا 

۲. إقامة الحياة وفق متطلبات كرامة الإنسان 

۳. إقامة العدل دون تميبز بين الناس 

.٤‏ صون سلامة البيئة وعدم الإفساد في المكان. 

إن مبررات النهوض بمسؤوليات عمارة الأرض أوجد ها الإسلام 
أساس الإيمان, وأدخلها في دوائر الجزاء والثواب والعقاب» تأكيداً على 
التلازم والتكامل الأكيد بين محاريب العبادة الروحية والعبادة العمرانية؛ 
فالإسلام منهج حيان يكافىئ الباحث عن عمارة المكان» ويوفر الخير 
والرفاهية للعالمين» حيث يرد في الحديث الشريف "فمن اجتهد فأخطأ فله 
أجر ومن اجتهد فأصاب فله أجران". وإن (العبادة العمرانية) هى المعنية 
بالنهوض بمسؤوليات أمانة الاستخلاف في المكان» وحيث أن الناس جميعاً 
مكلفون بمهمة الاستخلاف, إذاً فنحن جميعاً شركاء بأدائها؛ فمن قام بجا 
طاعة لله فهي له كذلك؛ ومن اقترن بفكر آخر حت المادي منهاء فهي 


أ سورة المائدة - الآية 4/8 . 


عبادته الخاصة» مثل أي عبادة ها ثواجما وجزاؤها عند المولى وليس عندناء 
يعمل الخير على طريقته. 


وعلى أساس هذا الفهم. تحل إشكالية التمايز العقدي» ني إطار 
المشترك العمراني بين الناس جميعاً وتنتفى من جهة أخرى مفاهيم التناقض 
الوهمى عند بعضناء بين التمايز العقدي الدينى» وبين مسؤوليات النهوض 
بمهمة أمانة المشترك العمرانن» لتحقيق مراد الله تعالى في عمارة الأرضء» 
وإقامة العدل بين الناس» وبعد وني إطار ما عرض من تصورات ومفاهيم» 
فإننا حسب أن وجوب التعاون فيما بين أبناء الأمة أفرادًا ومجتمعات أصبح 
ملحاً. من أجل إغاء إشكالية أدائنا الديني والثقافي. ليستقيم مع حقيقة 
مقاصد رسالة الإسلام مثلما هو مُلح كذلك وجوب التعاون مع غيرناء 
من أجل بلورة إطار لثقافة عالمية مشتركة تكون أساساً لأداء حضاري 
عالمي مشترك» يكون أكثر تلاؤمًا وانسجاماً مع احترام حياة الإنسان 
وكرامته وحريته وسلامة البيئة. وليكون الأداء الحضاري العالمي كذلك 
جديرًا بأن يحقق التعايش البشري العادل والآمن بين المجتمعات .)١(‏ 


يعاني المسلمون اليوم وغيرهم من خلط في المفاهيم؛ فقد رفض الدين 
التواكل ونفر منه وحث على طلب الحلال ورغب فيه فالإسلام یری 
تعمير المكان عبادة» وشغل المسلم فيه ثواب واستدرار الأرزاق؛ فالسعي 


' د . حامد بن أحمد الرفاعى - عمارة الأرض - جدة .5٠٠١8‏ 


5-84 





في السبب لا ينافي التوكل» ومن أهم أسباب إعمار المكان أن يعمل 
الإنسان» فقد اتخذ بعض الناس موقفا فحواه أن العمل للآخرة عا يقتضي 
الانقطاع عن الدنيا واعتزال العالم» فأمسى في نظرهم أن المتدين لا تلهيه 
الدنياء وأنه ينتقل من بيته إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت ويعيش عالة 
على غيره كما في (التكية) التي لا ييرحها الصوفية في الحقبة العثمانية. وقد 
أدى هذا الأمر إلى تأخر المسلمين وهزيتهم في كل الميادين» وبذلك فلا 
رهبانية ولا انقطاع أو اتكاء وإن الدين ليس عزلة عن الحياة إنما هو محرك 
ومتحرك من صميمها. 


ومن أكثر الآثار المدمرة على عمارة المكان هو (الإرهاب) الذي وجد 
له مبررات واهية مستلة من فهم متشنج ومتخلف لتعاليم الدين» فاستحل 
القتل وتفجير العباد وترويع البلاد؛ بما أدى إلى خراب العمران» ولدينا 
درس في حروب عبثية يقودها هؤلاء في دول العالم. والحل يكمن في نبذ 
الناس لوعظ ورد من كهوف الماضي الجردة من العقل والضميرء والاهتداء 
بالحلول الدينية البناءة التي رسختها الأديان بالتسامح والصفح ورفض 
التكفير» واجتناب التخريب والارتقاء بالحس الجمالي وإشاعة الحمية 
العمرانية والحث على إعمار المكان. 


۰ 


الفصل الثالث 


/ا.المكان البيئى 
۸. المكان.. فضاء ثقافي 


.٩‏ المكان والشكل المعماري 


١ 


O‏ رعاية المكان 


0 معايير تصميمة 


6 


من الآثار المدمرة على عمارة المكان ليس التفريط فقط بل الإفراط 
كذلك. في معادلة الكون المتوازن الذي لا زيادة ولا نقصان فيه فلا تبرر 
عمارة المكان سحق الكائنات والتجاوز على حق المخلوقات في الوجود, 
وهذا ما حدث في الحداثة التي تعاملت بنزق مع البيئة وتمادت فيما ظنوه 
(عمارة المكان) فانقلب إلى (خراب المكان)» واليوم نعاني جميعا من ذلك» 
بعدما أصبحت البيئة مسرحا لانتهاك بدأ باق ضرره في كثير من معطيات 
سلبية تشعرنا باقتراب خطر تماية الحياة على الأرض. 


وهذا ما تداعى أن يتشكل تيارا مضادا واعيا وواعداء يسعى للعناية 
بالمكان البيئي» با دغدغ شغاف القلوب» وشاع كمفهوم متعدد المناحي 
والممارسات» وتدفق متماهياً مع لجة البحث في رتق الخيوط المتقطعة بين 
التراث والحداثة كشاهدين مكانيين/ زمانيين على المساهمة البشرية. 


واكتسى هذا الموى أهمية, وأمسى ثيمة واقعية لفهم التراث أو جسر رصين 


لربط الخيوط المتقطعة بين تراث مفعم بالروح المرهف المتعامل بعرفانية مع 
المكان, وحداثة منفلتة ومثقلة بسطوة المادة واستغلال المكان دون شفقة. 


تعرّف البيئة بأنها مجموعة العوامل الطبيعية والمستحدثة التي يعيش 
فيها الإنسان وتترك أثرا في نفسه وصحته ومعاشه وإنتاجه» وتستهدف 
مشروعات تحسين بيئة المكان تطوير المجتمع في مجالات حماية الأفراد 
والجماعات من أضرار وأخطارها الخاصة والعامة وتطويرها يوفر السلامة 
والأمن والراحة ويساعد على نمو شخصية الأفراد وتحسين صحتهم وزيادة 
إمكانياتهم الإنتاجية» وذلك من خلال استخدام العلوم ووسائل الحندسة 
والتقانة التي يئ مقومات البيئة الصالحة وتحافظ على مستوياتًا من 
التدهور (') وأن أي تغير في الظروف الطبيعية يؤدي إلى اختفاء بعض 
الكائنات الحية وظهور كائنات أخرى» وهذا يؤدي بدوره إلى اختلال 
التوازن» والذي يأخذ فترة زمنية قد تطول أو تقصر حتى يحدث توازن 
جديد. مثلما حدث مع اختفاء الزواحف الضخمة نتيجة لاختلاف 
الظروف الطبيعية للبيئة في العصور الوسطى مما أدى إلى انقراضها فاختلت 
البيئة ثم عادت إلى حالة التوازن في إطار الظروف الجديدة بعد ذلك. 


كذلك فإن محاولات نقل كائنات حية من مكاتما والقضاء على بعض 
الأحياء منها يؤدي إلى اختلال في التوازن البيئي. إن تدخل الإنسان 
المباشر في البيئة يعد السبب الرئيسي في اختلال التوازن المكاني, فتغير 


1 د.حيدر كمونه- مقال: دورالمعالجات البنائية في تحسين البيئة السكنية-جريدة المدى ه.."”- 
بغداد. 


1Y 





المعالم الطبيعية من تجفيف للبحيرات» وبناء السدود» واقتلاع الغابات» 
وردم المستنقعات» واستخراج العادن ومصادر الاحتراق. وفضلات 
الإنسان السائلة والصلبة والغازية» هذا بالإضافة إلى استخدام المبيدات 
والأسمدة, وكلها تؤدي إلى تكريس الإخلال. 


وهناك الكثير من الأوساط البيئية قددها أخطار جسيمة تنذر بتدمير 
الحياة بأشكاها المختلفة على سطح الأرض. فالغلاف الغازي لا سيما في 
المدن والمناطق الصناعية تتعرض إلى تلوث شديد» ونسمع بين الفينة 
والأخرى عن تكون السحب السوداء والصفراء السامة والتي كانت 
السبب الرئيس في موت العديد من الكائنات الحية وحتى الإنسان. أضف 
الى ذلك ما يتعرض إليه الغلاف المائي من تلوث من خلال استنزاف 
الثروات المعدنية والغذائية» وكذلك إلقاء الفضلات الصناعية والياه 
العادمة ودفن النفايات الخطرة كالنووية. أما ما حدث في اليابسة فحدث 
ولا حرج» فإلقاء النفايات والياه العادمة واقتلاع الغابات وتدمير الجبال 
وفتح الشوارع الواسعة وازدياد أعداد وسائط النقل وغيرها الكثير أدى إلى 
تدهور في خصوبة التربة وانتشار الأمراض والأوبئة خصوصاً المزمنة. 

لقد دمر إنسان العصر الحديث الغابات2, وغزا بالعمران على 
المساحات الخضراء وراحت مصانعه تنفث كميات هائلة من عوادم 
الأدخنة إلى السماءء وسبب ذلك أسوأ الآثار على الحواء الذي نتنفسه, 
وعلى توازن البيئة» وإذا سبرنا إحصاء الأرقام فسوف نفزع من تضخم 
التلوث» حيث كانت نسبة ثاني أكسيد الكربون المئوية الحجمية حوالي 


VE 


4 في نحاية القرن الماضيء وقد ارتفعت إلى ٠,٠۳۳‏ في عام 
٩١‏ ووطأ الرقم أكثر من 0٠,۰۳۸‏ عام ,5٠0٠٠‏ ولهذه الزيادة أثار 
سيئة جداً على التوازن البيئي. وأكبر مشكلة بيئية تواجه العالم اليوم غير 
ذلك تاكل طبقة الأوزون التي تحجب أو تقي تركيز الأشعة فوق البنفسجية 
الضارة بالإنسان وخرابما يتداعى إلى انتشار أمراض خطيرة مثل سرطان 
الجلدء وتدهور البيئة الحيوية والتصحر, وتلوث البحار والحيطات» وجرف 
التربة وغيرها من المشكلات البيئية. 


إن المخلوط الغازي الذي يملا جو الأرض يتكون أساساً من غازي 
النتروجين بنسبة ۷۸,٠۰۸٤‏ 90 والأكسجين 9/070,545, ويوجد إلى 
جانب ذلك غاز ثاني أكسيد الكربون نسبته ٠,٠۳۴۳‏ وجار الماء 
وبعض الغازات الخاملة. وتأت أهمية الأكسجين من جراء أهمية دوره في 
تنفس الكائنات الحية التي لا يمكن أن تعيش بدونه» وهو يدخل في تكوين 
الخلايا الحية بنسبة تعادل ربع مجموع الذرات الداخلة في تركيبها. 


ولكي يتم التوازن في البيئة ولا يستمر تناقص الأوكسجين شاءت 
حكمة الله أن تقوم النباتات بتعويض هذا الفاقد من خلال عملية البناء 
الضوئي» حيث يتفاعل الماء مع غاز ثاني أكسيد الكربون في وجود الطاقة 
الضوئية التي بمتصها النبات بواسطة مادة الكلوروفيل الخضراءء ولذلك 
كانت حكمته ذات أثر فاعل» فلولا النباتات لما استطعنا أن نعيش بعد أن 
ينفذ الأوكسيجين في عمليات التنفس والاحتراق» ولا وجود لأي كائن حي 
في البر أو في البحرء إذ أن النباتات المائية تقوم بعملية البناء الضوئي 


1o 


أيضاًء وتهد المياه بالأكسجين الذي يذوب فيها ويلزم لتنفس كل الكائنات 
البحرية. وتلوث الحواء يعني وجود مواد صلبه أو سائلة أو غازية به 
بكميات تؤدي إلى أضرار فسيولوجية واقتصادية وحيوية بالإنسان والحيوان 
والنباتات والآلات والمعدات» أو تؤثر في طبيعة الأشياء. وتقدر خسارة 
العام سنويا بحوالي خمسة مليارات دولارا من جراء تأثير الحواء على الحاصيل 
والنباتات الزراعية. 


وكان ثمة توازن بيئي موروث ومسترسل ما بين الإنسان والتربة والماء 
والجو استمر حتى قرنين مضيا ليشيع الإنسان بعدها خراباً ممنهجاً. حيث 
أكدت البحوث اختفاء أو انقراض حوالي ٠١١‏ نوعا من الحيوانات 
والنباتات كل يوم. وجاء في دراسة لأكاديمية العلوم الأميركية أن الأرض لم 
تشهد ارتفاعاً نماثلا للحرارة منذ 5٠٠‏ عاما على الأقلء ورا منذ 
٠6‏ عاماء بسبب حجم التطورات التي طرأت على النشاط الإنسان» 
ولا سيما في لمجال الصناعي (') 


العمارة المكانية 


لقد شاع اليوم مفهوم (العَمارة البيئيةقع11اءع]1ع3 (Ecological‏ 
أو العّمارة المستدامة (ع architect‏ eاSustainab)‏ الذي يهتم 
باخيط الطبيعي المادي للبيئة حصراً ويوصي باستعمال مواد طبيعية غير 
مصنعة أو نصف مصنعة لا تضر المكان أو تقلل من الآثار البيئية الناجمة 


' نشر التقرير في مجلة (نيتشر 1126116) لشهر حزيران - يونيو .5٠٠5‏ 
55" 


عن الأنشطة البشرية المختلفة» وتدعو إلى خفض المخلفات والملوثات» 
والحفاظ على قاعدة الموارد الطبيعية للمستقبل. وهكذا فسرها دعاة 
"الاستدامة" على أنها (تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون الإضرار بقدرة 
الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتًّا). وهكذا فإن بواعث تبني مفهوم 
الاستدامة في القطاع العمرانى لا تختلف عن البواعث التي أدت إلى ظهور 
وتبني مفهوم التنمية المستدامة (Sustainable Development)‏ 
بأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة. 


ويتعدى الأمر تداول الخامات البنائية والعوازل أو التوجيه الأمثل 
للمببى بما خص التشميس والتهوية إلى استغلال طاقات الطبيعة كالشمس 
والريح والعناية بنظم التخطيط وتفاصيل البناء» وتطبيق نتائج البحوث 
العضوية ودورماء لخدمة قاطني البناء. 


والإنشاءات المستدامة أو البناء الأخضر طرق وأسلوب جديد 
للتصميم» تستحضر من خلالها التحديات البيئية والاقتصادية التي ألقت 
بظلانها على مختلف القطاعات في هذا العصرء فالباني الجديدة يتم 
تصميمها وتنفيذها وتشغيلها بأساليب وتقنيات متطورة متماهية بيئياء وفي 
نفس الوقت منخفضة التكاليف وعلى وجه الخصوص تكاليف التشغيل 
والصيانة (005]5) ع«نصصنR)‏ كما الإسهام في توفير بيئة عمرانية آمنة 


ومريحة. 


لقد حفت العقائد والفلسفات والأفكار عموماً. على العلاقة بين 
الإنسان والبيئة لإقرارها بأن الإنسان كائن بيئي ويؤثر إيجابيا بالوعي» وإذا 
غاب وعيه فإنه يجنح نحو السلب والفضاضة والتخريب. وإن الحاجة التي 
حدت بالإنسان أن يتعلم كيف يسيطر على الطبيعة ويسايرهاء عا وجد يما 
من صعوبة يذللهاء لكنه حينما تقدم جخبراته المعرفية أصبح مؤذيا ومدمر 
هاء وثمة دعوات بأن يخفف الإنسان من قسوته على الطبيعة» التي قابلت 
المبالغة الإنسانية برفض مقابل. وقد وهب التراث الروحي والمادي في 
ثقافتنا أهمية للجانب البيئي من ضمن اهتمامه بعمارة المكان ودخلت 
علاقة الإنسان بالبيئة في مراتب الضروريات والحاجيات والتحسينات في 
مقاصد الشرع من حفظ للدين والنفس والعقل والمال والعرض (') 


ففي الثقافة الإسلامية فإن علاقة المسلم بالكون من حوله علاقة 
فيها مصلحة مشتركة وواعية, فالكون أو "البيئة " ليس عدواً للإنسان 
يريد أن يقهره, بل هو مخلوق مسخر خدمته وکوغما يشتركان كمخلوقين 
لمبدع مشترك واحد» وثمة علاقة قربى وحمية مشتركة» وثمة عاطفة تجمع 
الإنسان مع ما حوله من كائنات حية أو جامدة, فالأحياء كما يدعون أهل 
العرفان أمماً أمثالناء لكل أمة خصائصها وطرائقها على البدا القرآني: (مَا 


' رانيا نبيل زهران- هبة رءوف عزت - مقال: البيئة- من مركزية الإنسان والطبيعة.. إلى 
الاستخلاف - منشور في موقع إسلام أون لاين. 
1۸ 





من دَابّةٍ في الأرض ولا طَائرٍ يَطِيرُ بجَتَاحَْه إلا أَمَمْ أَمْعَالُكُمْ ما فَرَطَْا في 
الکتاب من شَيْءٍ ثم إلى ريم يُْسَرُونَ) ('). 

ولا ينظر الإسلام للبيئة على أا مادية بحتة, بل يراها مادية وروحية, 
وهذا ما أثر في العقلية التراثية» قبل حلول ماديات الأزمنة الحديثة التي 
كانت تتعامل حتى مع الجماد على أنه روح وكائن حي. ومن جراء ما تعانيه 
البيئة اليوم من تدهور واستنزاف وسوء استخدام, أصبحت من القضايا 
الملحة في عالنا المعاصر وتصاعدت إلى وضع حرج» أنضج حالة من 
الخشية في استمراره وحدوث مشكلات بيئية لا طاقة للبشرية على تحملهاء 
ولا دخل للمسلمين والشعوب المستضعفة يماء استنادا إلى خلفية تخلفهم 
الصناعي والحضاري الذي يقلل من وسائل الخراب الشامل» وحينما عم 
الجشع وشاع الفساد كانت البيئة أولى ضحاياها ومن وقع عليه حيف 
التهافت البشري. 


ويبدو أن الأمر برمته عقوبة إصلاحية ورّد مادي ورد من البيئة نفسها 
(تسمى في الغرب "التطهير 8411915515" أو غيي رباني بحسب المفهوم 
والاعتقاد الغيبي السائد لدينا منذ عبادات سومر حتى الإسلام: لكنه 
بالنتيجة واقع لا محالة. ونجد في النص القرآن إشارة إلى تداخل بين الفساد 
البشري وبين خراب البيئة» بما لا بخص زمانا ومكانا بعينه» بشكل يلفت 
النظر لكنه واقع: (ظَهَرَ الْمَسَادُ في الْبَرَ وَالْبَخْرِ با كُسَبَتْ أَيْدِي الاس 


أ سورة الأنعام - الآية /". 


ِبُذِيَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُوا لَعلّهُمْ يَرْجِعُونَ) (') والمراد بالفساد, المصائب 
والبلايا الظاهرة والضامرة لمنطقة من مناطق الأرض التي تتجسد بحروب 
عبر الحدود أو أهلية عبر خراب الضمائرء أو من الزلازل والأوبئة 
والطوفانات والجفاف والحرائق» وكل ما يفسد النظام السوي المسترسل في 
العام المكاني, سواء كان مستنداً إلى اختيار الناس أو فوق طاقتهم وعكس 
رغباتهم. 


والأمر برمته يوحي بميزان غيبي كما هو حال كل أنظمة الكون 
وعوامل الطبيعة التي تميل نحو الاستقرار والسكون في مسعاها اللا مدرك. 
وليس أدل على دقة خلق البيئة وتوازنماء أن مكوناتمًا أو عناصرها كلها 
مفيدة ومتماهية ومتكاملة مع بعضهاء طالما ظلت هذه المكونات أو 
العناصر محتفظة بخصائصها الكمية والنوعية بما فطرت عليه, دون تغيير 
جوهري يذكر. ولكن إذا ما تدخل الإنسان فى البيئة سواء متعمداً أو 
جاهلاً. وأحدث فيها تغييرات سواء على مستوى الكم أو الخصائص» عا 
يحدث خلل في توازنما وانقلاب في عناصرهاء وتحول في خصائصهاء من 
مفيدة إلى ضارة تحدد الحياة والوجود. 


لقد انشغل المعماريون في السنين الأخيرة بالأمر. ضمن هوى شاملء» 
وظهرت مفاهيم عدة جميعها أساليب جديدة للتصميم والتنفيذ تتفادى 
التحديات البيئية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على مختلف القطاعات في 
هذا العصر. فالباني الجديدة يتم تصميمها وتنفيذها وتشغيلها بأساليب 


أ سورة الروم - الآية .4١‏ 
1۷۰ 


وتقنيات متطورة تسهم في تقليل الأثر البيئي» وفي نفس الوقت تقود إلى 
خفض التكاليف وعلى وجه الخصوص تكاليف التشغيل والصيانة 
)Running )00515(‏ كما أا تسهم في توفير بيئة عمرانية آمنة ومريحة. 
وهكذا فإن بواعث تبني مفهوم الاستدامة في القطاع العمراني لا تختلف 
عن البواعث التي أدت إلى ظهور وتبني مفهوم التنمية المستدامة 
Development)‏ eاSustainab)‏ بأبعادها البيئية والاقتصادية 
والاجتماعية المتداخلة. 


والاهتمام بالبيئة المحيطة قديم قدم الإنسان نفسه» حيث وجد 
الإنسان الأول ما يقتبسه من الكائنات الأخرى بنزعتها البيئية» حينما 
أظهرت مهارة في إنشاء مأوى ها ما تسر من الخامات» مع بسيط الحلول 
كما عند الحشرات والطيور والندييات الصغيرة التي تغير مواقعها بما يتلاءم 
مع حياتا وحياة صغارهاء فالنمل يبني بيوتا تتوافر داخلها الرطوبة 
والدفء» وهو يستخدم في سبيل ذلك مادة بناء خاصة يتخيرها من الطين 
غير الموصل للحرارة» ويهيئ مكان الخزن بنظام دقيق يتناسب مع كل مادة 
يجلبها من بيئته. والأرانب البرية تختار فتحات ومداخل بيوقا كلها إلى 
الجنوب لكي تتلقى أكبر قسط ممكن من الإشعاع الشمسي المباشر. ولو 
تأملنا بيوت النحل والشكل المسدس للخلاياء لوجدناه الشكل الوحيد من 
بين الأشكال المضلعة والذي إذا جمع كل واحد منها إلى مثله لن يحدث 
بينهم مسافات خالية. وبذلك يعطينا النحل درساً في الاقتصاد والعقلانية؛ 
وكيفية إقامة أكبر عدد من الخلايا أو البيوت في أقل مساحة متاحة. 


۷1 


لقد ظهرت العمارة البيئية في الحضارات القديمة من خلال محاولة 
الإنسان للتأقلم والتعايش في بيئته» وتباينت صور هذا التأقلم من استخدام 
المواد المتاحة في البيئة الحلية في العمران مروراً بطرق استخدامها وانتهاء 
بالأساليب التي اتبعها للتعامل مع عناصر البيئة ومحدداتها من الأمطار 
والرياح والحرارة وضوء الشمس وغيرهاء ففي قرية أريحا الفلسطينية 
استعمل الحجر والطين في مداميك الأسوار المشادة. وفي العراق القديم 
استعمل الطين بصفته الطبيعية لإنشاء الحيطان الحاملة أو بتصنيع الطوب» 
وهو الطين الجفف تحت وهج الشمس بأبعاد حوالي (5 775 ا"“سم)؛ 
الذي شاع كأول مادة بناء مصنعة بالتاريخ الإنسانئ. وفي مصر نجد أن 
المصري استخدم المواد الحلية وهي الطوب اللبن والبردي والأخشاب في 
منظوماتم المعمارية» مثل مساكن العمال في حين استخدم الأحجار 
الطبيعية ونحت في الجبال منظوماته المعمارية المقدسة مثل المعابد التي 
وجهت بعضها بحيث تصل أشعة الشمس إلى داخل قدس الأقداس في 
شروقه يوما في السنة يطلق عليه يوم مولد المعبد. 


وقد قطعت أحجار البانى بحسب الجهات المناظرة لما في مقلع 
الحجارة في حاضنة الجبل» بحيث أن الحجر لم يجد غضاضة في تعامله مع 
موقعه المكانى الجديد, بعد أن أخذ من نفس الاتجاه المكاني الذي عاش به 
ملايين السنين» وهكذا لم تعان المبان من الخراب والنخر المتأتي من تغيير 
مواقع الأحجارء وهذا المبدأ طبق حتى في العمارة الإسلامية ونجده في 
واجهات مدرسة السلطان حسن اللمبنية بين أعوام (5ه١35-41١م),‏ 


والتي قاومت الأزمة وم يسوء حال حجارتًا بالمقارنة مع المبنى المتاخم 
Y۲‏ 


(مسجد الرفاعي) الذي بني عام 2١191١‏ ول يصمد بسبب عدم التوجيه 
المناسب لمداميك واجهاته الحجرية. 


أما في اليونان القديمة, فقد شيدوا الناس معظم مبانيهم بمواجهة 
الشرق مع وجود فتحات كبيرة تجاه الجنوب» وهذا الأسلوب في التشييد 
يسمح بالحصول على أكبر قدر من الأشعة الشمسية في الشتاء عندما 
تنخفض الشمس في السماء. وفي العالم الجديد بأمريكا فإن مدينة بابلو 
بونيتو 801110 2116510 والتي يطلق عليها الآن (نيو مكسيكو) كانت 
مخططة على شكل شبه دائري على هيئة مدرجات موجهة بأسلوب يراعي 
زوايا الشمس في الصيف والشتاءء كما أن الحيطان السميكة من الطوب 
اللبن تمتص الحرارة والأشعة الشمسية أثناء النهار وتشعها إلى المواء أثناء 
الليل» نما جعل حرارة المكان معتدلة طوال اليوم بينما تصنع الأسقف من 
القش والطين» لتعمل كعازل حراري في الصيف. 


إن الطفرات الحداثية وحمى الحوس المعماري قد غيرت من فكر 
الإنسان وأنسته التجارب والخبرات التي اكتسبها أسلافه في تعاملهم مع 
معطيات المكان عبر الآلاف السنين» وبدأت الآلة والصناعة تغير من توجه 
الإنسان» وتداعى أن يفقد مسكنه ارتباطه مع المكان المشاد به. 


لقد ظهر اصطلاح "علم البيئة" (إع010ع6 في الأزمنة الحديثة 
وتحديداً عام 5١م‏ على يد عام الحيوان الألماني (إرنست هايكل). 
ويشتق من الكلمة اليونانية 01105 والتي تعني الموطن. والكلمة مقتبسة 


YT 


من السومرية بصيغة (أيك) وتعني البيت» والتي أمست مثلا (أيكل - 
هيكل) وتعني البيت العظيم» وربما لها صلة بالمجاز مع شجر(الأيك) الذي 
يوحي كالمنزل لكبره (') وقد استخدمه (هايكل) للإشارة إلى "البحث في 
مجموع علاقات الحيوان ببيئته العضوية وغير العضوية". ومنذ أوائل القرن 
العشرين عرف "علم البيئة" بكونه فرعًا من فروع البيولوجيا (الأحياء) 
يبحث في علاقة الكائنات الحية ببيئتها. ولكنه أخذ يتحول إلى اصطلاح 
"سياسي" خصوصا من ستينيات القرن العشرين حيث استخدمته حركات 
"الخضر" المتصاعدة, وما فتئت تثير تلك الأفكار الجديدة قدرًا كبيرَا من 
الجدل. 


وظهرت تيارات عمارة القرن العشرين في الغرب التي سعى ها نفر من 
المعماريين الباحثين عن طرق خاصة تسمح بتحقيق التكامل بين الفن 
والصناعة, فأنشأت في ألمانيا مدرسة (الباوهاوس) عام ,١41١9‏ وكان أحد 
روادها المعماري (بيتر بحرنز) الذي أيد مبدأ الوظيفية دحضاً للجري وراء 
التأثير البصري. وقد تلقى دروسه الكثيرون من أساطين العمارة» من أمثال 
والتر كريبيوس وميس فان ديروه وحتى السويسري لوكوربوزيبه, من مثلوا 
وآخرون الاتجاه الجديد في العمارة» والذي دعى إلى تدمير الطرز المعمارية 
ا موروثةء والدعوة إلى عالم جديد في البناء ودعي (الطراز الدولي) الذي تيز 
' ترد الكلمة كذلك في اصطلاح 011507101/118 التي تعني (الاقتصاد)» وهي مركبة من: 
01S‏ وتعني المنزل و 71012105 وتعني القانون. واستعمل الاصطلاح في فرنسا منذ العام 
© , وشاع بعد ذلك في الثقافات. 


VE 


مفردات تختزل الشكل وتقلل من التفاصيل» وتتمثل في الأسقف الأفقية 
والأسطح المستوية وذلك بإملاء واستخدام مواد جديدة كالخرسانة 
المسلحة والحديد والألواح الزجاجية» دون أدن نظر للاعتبارات البيئية 
وذاتية العمارة الحلية الخاصة بكل ثقافة. 


وجربت مدرسة شيكاغو استعمال الحديد في هياكل المباني متعددة 
الطوابق منذ العام ۱۸۸۸ء بعد الحريق الذي ألم بالمدينة» وظهرت حمى 
الأبراج العالية وناطحات السحاب لتحل محل المباني المنخفضة والبيوت 
الأنيقة المنمقة والمزخرفة والمعتنى بواجهاتّاء والتي ازدانت بحدائق جميلة أو 
فناءات مبهجة. وتصادم مع هذا التيار اتجاهات أخرى عارضت فكرة 
الوظيفية والاختزال والنقاء الشكلي» وكان من أشهر روادها الأمريكي 
سوليفان ثم أورثها ل (فرانك لويد رايت) بما دعيت (المدرسة العضوية)» 
ومبدؤها لا ينحصر فقط في تجانس التصميم مع المكان الحيط» ولكن أن 
يكون التصميم ككل عضوي مثل الكائن الحيء يستمد مفرداته من 
معطيات محيطة ومن ضمنها خاماته البنائية» وتكون أشكاله تعكس محتواه, 
كما ظهرت بوادر التمسك بالتراث ولا سيما عند الثقافات الرائدة 
با موروث الحضاري كما الثقافة العربية(') 


لقد تجاهلت كثير من الباني المعاصرة المناخ وذاتية المكان. فهيمن 
"حل" تغشية الواجهات بستائر زجاجية» وشرعت البيوت تنجه نحو الخارج 
أ سبق وأن كتبت عن هذا التيار وعلاقته بالموروث الفكري الحلي والإسلامي في كتابي (العمارة 


الإسلامية. . سجالات في الحداثة) بيروت ۹۹ 
Vo‏ 





بدل الداخل في جدلية بيئية واجتماعية ونفسية عميقة. وقد انكشفت 
الفتحات الكبيرة المزججة في بيئتنا المشمسة الحارقة» حيث الزجاج يزيد 
من النفاذ الحراري إلى الداخل بمقدار يفوق كثيراً النفاذ الذي يحدث خلال 
الحيطان المتضامة. إن الستارة الزجاجية ولا سيما في المبان التجارية 
والمكتبية, المحكمة الإغلاق» تعتمد أساسا على التكييف والتبريد المركزي» 
مما جعلها عرضة للتراكم الحراري في داخل المبنى, با زاد من صعوبة العيش 
فيهاء وتبذير في الطاقة, ناهيك عن التأثير النفسي لتعود الإنسان» الذي 
أكسبت الكسل والخمول. وتلك المباني القانصة لحرارة للشمس بمكن أن 
تنفذ أكثر من 7١‏ 90 من حرارتًا إلى عمق المبنى» وهذا يخالف سنن 
البناء منذ أن اخترع الإنسان المأوى له خارج الكهف الأول في حاضنة 


الجبل. 


لقد أدرك الغرب مؤخراً ومتأخراً الخطر الداهم الذي أوجدته مغامرة 
الحداثة المعمارية» وطرح في عقد السبعينات من القرن الماضي نداءات 
لحماية البيئة وصيانتها وسياقاتما في فكرة "تقوم المردود البيئى" 
”Environ mental impact Assessment “ EIA‏ عند استغلال 
موارد البيئة ويعني هذا المفهوم ضرورة تقييم تأثير أي مشروع على البيئة. 
فإذا تبين أن له تأثير ضار أو مفسد بعناصر البيئة يتم تعديله لتفادي هذا 
الضرر أو هذه المفسدة, وإذا لم يتحقق ذلك يلغي المشروع من منطلق أن 
احافظة على موارد البيئة مقدمة ومفضلة على المنفعة الاقتصادية التي كثيرا 
ما تكون مؤقتة؛ فالحافظة على البيئة من المقومات الأساسية والضرورية 
لإنجاح مشروعات التنمية واستمرارها. 


۷٦ 


وأمسى الحاجس البيئي جزء من الاقتصاد تاهيا مع مفهوم التنمية 
المستدامة الذي أكد عا لا يدع مجالاً للشك أن ضمان استمرارية النمو 
الاقتصادي لا بمكن أن يتحقق في ظل تهديد البيئة بالملوثات والمخلفات 
وتدمير أنظمتها الحيوية واستنزاف مواردها الطبيعية. والعمارة المستدامة 
الخضراء تعزز وتتبنى هذا الارتباط الوثيق بين البيئة والاقتصاد» والسبب في 
ذلك أن تأثيرات الأنشطة العمرانية والمباني على البيئة بأبعادها الاقتصادية 
والعكس صحيح» فاستهلاك الطاقة الذي يتسبب في ارتفاع "فاتورة" 
الكهرباء له ارتباط وثيق بظاهرة المباني المريضة (وعم3ل11نا8 )ء8) التي 
تدشأ من الاعتماد بشكل أساس على أجهزة التكييف الاصطناعية مع 
إهمال التهوية الطبيعية» وهذا الكلام ينسحب على الاعتماد على الإضاءة 
الاصطناعية للإنارة الداخلية,» وهي تكلفة إضافية يمكن اقتصادها بسطوة 
الترشيد وطرق البدائل التصميمية. 


ناهيك في ذلك عن الفوائد البيئية والصحية فيما لو كانت أشعة 
الشمس تدخل البنى» فقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن التعرض للإضاءة 
الاصطناعية لفترات طويلة يتسبب في حدوث أضرار على صحة الإنسان 
النفسية والبدنية. لذا استحدث السويديون (معهد كارولينسكا) طريقة 
العلاج بالإنارة المكثفة» بما يغير من سلوك الإنسان نحو التفاؤل والمرح. 
وتعد عملية التعرض للذبذبات الضوئية الصادرة عن مصابيح الإنارة 
(الفلورسنت) والافتقار للإضاءة الطبيعية من أهم الآثار السلبية التي تعاني 
منها بيئة العمل المكتبي» فقد ظهرت نتيجة لذلك شكاوى من 
المستخدمين في بعض الدول الصناعية» تضمنت الإحساس بالإعياء 

VY 


والصداع والأرق وقلة الكفاءة. كما أن الإضاءة الصناعية الشديدة تعد 
في مقدمة الأسباب المرجحة لأعراض الكآبة على العموم ولا سيما في 
بيئات العمل. أما الحدر في مواد البناء أثناء تنفيذ المشروع فيتسبب في 
تكاليف إضافية ويلوث البيئة بالمواد السمية والكيميائية الضارة. وهكذا 
فإن الحلول والمعالجات البيئية التي تقدمها العمارة المستدامة الخضراء تقود 
إلى تحقيق فوائد اقتصادية لا حصر ها على مستوى الفرد والجماعة. 


وبحسب بعض التقديرات فإن صناعات البناء على مستوى العالم 
تستهلك حوالي )9014٠(‏ من إجمالي المواد الأولية (Raw Materials)‏ 
ويقدر هذا الاستهلاك بحوالي ( مليارات) من الأطنان سنوياً. في الولايات 
المتحدة الأمريكية تستهلك المباني وحدها (058,) من إجمالي الاستهلاك 
الكلي للطاقة بجميع أنواعهاء وتتسبب في )/0۳١(‏ من إنبعاثات مادعي 
(البيت الزجاجي). ويشير المعماري جيمس واينز (171/105 كعصه[) في 
كتابه "العمارة الخضراء" إلى أن الباني تستهلك سدس إمدادات الماء 
العذب في العام وربع إنتاج الخشب» ومين الوقود والمواد المصنعة. وني 
نفس الوقت تنتج نصف غازات البيت الزجاجي الضارة» ويضيف بأن 
مساحة البيئة المشيدة (610171102126126 611116) في العالح ستتضاعف 
خلال فترة وجيزة جداً تتراوح بين ١-١ ٠‏ 4 سنة قادمة. 


وهذه الحقائق تجعل من عمليات إنشاء وتشغيل الباني العمرانية 
واحدة من أكثر الصناعات استهلاكاً للطاقة والموارد في العالم. كما أن 
التلوث الناتج عن عدم كفاءة المباني والمخلفات الصادرة عنها هي في 


TYA 


الأصل ناتجة عن التصميم السيئ للمباني» فالملوثات والمخلفات التي تلحق 
أضراراً كبيرة بالبيئة ليست سوى نواتج عرضية (ءاءuلهإم-رط)‏ لطريقة 
تصميم الباني وتشييدها وتشغيلها وصيانتهاء وعندما تصبح الأنظمة 
الحيوية (610-53:5]6105) غير صحية نتيجة هذه الملوثات» با يعني 


وجود بيئة غير آمنة للمستخدمين. 


إن التكلفة العالية للطاقة والمخاوف البيئية والقلق العام حول ظاهرة 
"المباني المريضة" المقترنة بالمباني الصندوقية المغلقة في فترة السبعينات» 
ساعدت على إحداث قفزة البداية لحركة العمارة المستدامة الخضراء. أما 
في الوقت الحاضر فإن "الاقتصاد" هو الباعث الرئيس على التحول 
والتوجه نحو التصاميم والمباني الأكثر خضرة. إن المعماري مايكل كروزبي 
gill(Michael Crosbie)‏ يعمل في مكتب (Steven Winter‏ 
(455012]65 يشير إلى "أن زبائنه الراغبين في تصميم مبان خضراء أكثر 
بكثير من الطلب. لأنم يرون ويدركون التبذير الحاصل للحصول على 
مبنى, وبالتالي فهم يريدون عائداً استثماريا مجزياً يقابل ذلك الصرف غير 
المبرر". ويراهن المؤيدون للعمارة المستدامة الخضراء على المنافع امجنية, 
ففي حالة مبنى إداري كبير "مثلا" فإن إدماج أساليب التصميم الخضراء 
Green Design Techniques)‏ )والتقنیات الذكية 2۲ہ )S‏ 
(yرع0اممطءءا‏ في البنى لا يعمل فقط على خفض استهلاك الطاقة 
وتقليل الأثر البيئي» ولكنه أيضاً يقلل من تكاليف الإنشاء وتكاليف 
الصيانة» ويخلق بيئة عمل سارة ومريحة» ويحسّن من صحة المستخدمين 


ويرفع من معدلات إنتاجيتهم كما أنه يقلل من المسؤولية القانونية التي قد 
۷۹ 


تنشأ من جراء أمرض الباني. با يرفع من قيمة ملكية المبنى وعائدات 
الإيجار. وهذا التيار الداعي ل(الذكاء الصناعي) أخذ أبعادا وتوظيفات 
شتى» مثل البيت الذكي 101156 5٠2۲٤‏ الذي يجد الإنسان فيه راحته» 
حيث بمكن إعادة تشكيله بسهولة لدفع الملل عن نفوس ساكنيه. ولا 
يُستخدم أية طاقة صناعية على الإطلاق» بل يعتمد على الطاقة الأتجددة 
فقط. ووطأ الأمر مفهوم المدن الذكية 01]165 511216 التي تعمل حسب 
منظومات متطورة لحل إشكالاتاء من خلال تداول أنظمة الاتصالات 
والبرامج الحاسوبية والأقمار الصناعية. 


لقد أصبح التيار الأخضر في قطاع البناء يعمل على توفير تكاليف 
الطاقة على المدى الطويل» ففي مسح ميداني أجري على (44 مبنى) من 
المبانى الخضراء في الولايات المتحدة وجد أا تستهلك طاقة أقل بسبة 
(0/) مقارنة مع المبائى التقليدية المماثلة؛ لذا فإن أي تكاليف إضافية 
يتم دفعها في مرحلتي التصميم والبناء يمكن استعادتحا بسرعة. وبالمقارنة 
بذلك فإن الإفراط في النظرة التقليدية محاولة تقليل تكاليف البناء الأولية 
بمكن أن يؤدي إلى مواد مهدرة وفواتير طاقة أعلى باضطراد. 


وأمست العمارة الخضراء أو المباني والمدن الصديقة للبيئة,» أحد 
الاتجاهات الحديثة في الفكر المعماري التي تلت التفكيكية التي اهتمت 
بالأشكال على حساب المضامين. وهناك العديد من المفاهيم والتعريفات 
في الثقافات العالمية التي وضعت في هذا امجال؛ فالمعماري كين يانج ع1 
Ye28 :‏ رى أن العمارة الخضراء أو المستدامة يجب أن تقابل احتياجات 


YA 


الحاضر دون إغفال حق الأجيال القادمة لمقابلة احتياجاتهم أيضاء ويرى 
المعماري وليام ريد : 0عع1 17771111313 أن المباني الخضراء ما هي إلا مبان 
تصمم وتنفذ وتتم إدارقا بأسلوب يضع البيئة في اعتبارهاء ويرى أيضا أن 
أحد اهتمامات المبانى الخضراء يظهر في تقليل تأثير المبنى على البيئة إلى 
جانب تقليل تكاليف إنشائه وتشغيله.. أما المعماري (ستانلي أبركرومي 

Abercrombie‏ eyاStan)‏ فيرى أنه توجد علاقة مؤثرة بين المبنى 
والأرض» وهذا ما طرحه المصري حسن فتحي )۱۹۸۹-۱۸۹٩(‏ في 
تحاية ثلاثينات القرن العشرين» حينما أكد أن نثمة تواشج بين بناء الأرض 
والسماء مع الإيحاءات للحلول المعمارية» وأن الطين هو الخامة المثلى 
للتشكيل والعزل والأهم التماهي مع معطيات البيئة الحيطة. والأمر عينه 
طرحه المعمار العراقي خد مكية )5١١5-١91١8(‏ بعد عودته من لندن 
عام ١٤۱۹ء‏ حينما تكلم عن مبادئ بيئة وذاتية مكانية تخص كل قطر 
ومدينة وقرية ومبنى وحجرة, وإن الحداثة لا يمكنها أن تكون أحسن من 
معطيات التراث الذي يحمل الكثير من نفحات اللبابة» التي تحتاج دراسة 
ودراية. وهذه الحاجة الواعية هؤلاء الرواد. كان بمكن أن تشكل مشروعا 
رائداء لكن الوضع السياسي والثقافي القلق جتمعاتنا العربية والإسلامية, 
حالت دون ذلك التوجه. 


لقد حرص الإنسان على أن يتضمن بناؤه للمأوى عنصرين رئيسيين 

هما: الحماية من المناخ, ومحاولة إيجاد جو داخلي ملائم لراحته. لذا اضطر 

الناس في المناطق الحارة والجحافة والدافئة الرطبة إلى استنباط وسائل لتبريد 

مساكنهم باستخدام مصادر الطاقة والظواهر الفيزيائية الطبيعية» وتبين أن 
۲۸1 


هذه الحلول عموماء أكثر انسجاما مع وظائف جسم الإنسان الجسمية 
(الفيزيولوجية)2 ونمة مدن كثيرة في التراث الماكث من الحضارات القديمة 
طبقت بحذق مفاهيم بيئية مدروسة بعناية ورفق. 
وتتصف الباني والمدن السيئة التصميم بثلاث صفات رئيسية: 
٠‏ استنزاف في الطاقة والموارد 
٠‏ تلويث البيئة بما يخرج منها من انبعاثات غازية وأدخنة أو فضلات 
سائلة وصلبة. 
٠‏ التأثير السلبي على صحة مستعملي المباني نتيجة استخدام مواد 
كيماوية التشطيبات أو ملوثات أخرى مختلفة. 
ولاتقتصر فوائد المباني الخضراء على الجوانب البيئية والاقتصادية 
المباشرة فحسب» فاستعمال ضوء النهار الطبيعي في عمارات المكاتب 
مثلاء فإنه يقلل من تكاليف الطاقة التشغيلية ويحفز الروح الإنتاجية 
للعمال» وقد وجدت الدراسة التي أجراها المتخصصان في علم النفس 
البيئي بجامعة ميتشيغان (Rachel and Stephen Kaplan)‏ أن 
الموظفين الذين تتوفر لهم إطلالة على مناطق طبيعية من مكاتبهم أظهروا 
رضى أكبر تجاه العمل وكانوا أقل إجهاداً وتعرضاً للأمراض. وني إحدى 
الشركات العاملة بمجال الفضاء (24131]10 Lockheed‏ تبين لها أن 
نسبة غياب العمال هبطت بنسبة )9,0١8(‏ بعد أن قامت بنقل ۲.٠٠٠١(‏ 
موظفا) إلى مبنى أخضر منشأ حديثاً في كاليفورنياء والمردود الاقتصادي 


YAY 


هذه الزيادة في معدل الإنتاجية عوض المبالغ الإضافية التي أنفقت أثناء 
تشييد المبنى خلال عام واحد فقط. 


وعلى نفس النوال» فإن استعمال ضوء النهار الطبيعي في مراكز 
التسوق يؤدي إلى رفع حجم المبيعات؛ فامجموعة الاستشارية المتخصصة 
في تقنيات البانى ذات الكفاءة في الطاقة (Heschong Mahone)‏ 
ومقرها كاليفورنياء وجدت أن المبيعات كانت أعلى بنسبة )0٤١(‏ في 
المخازن التسويقية التي تمت إضاءتما من خلال فتحات السقف 
(5اطع51:11). وقد وجدت المجموعة أيضاً أن أداء الطلاب في قاعات 
الدرس المضاءة طبيعياً أفضل بنسبة (١٠؟907).‏ 


لقد صدم البشرء بكم الآثار السلبية التي تركتها الحداثة المادية غير 
المنضبطةء وتداعت غضاضة الحداثة في تكريس الكابة والتقوقع والأنانية 
المفرطة. وأصول الأمر تعود إلى أزمة الطاقة في السبعينات» فقد بدأ 
المعماريون آنذاك يفكرون ويتساءلون عن الحكمة من وجود مبانى صندوقية 
حاطة بالزجاج والفولاذ وتتطلب تدفئة هائلة وأنظمة تبريد مكلفة. وكرد 
فعل طبيعي» طفق الناس يتحمسون للعمارة الخضراء والباني المستدامة 
ومن هناك صعد تيار يطالب في ترشيد الطاقة وتقنين استهلاكهاء وتعالت 
أصوات المعماريين الذين طالبوا بعمارة أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة 
ومنهم: وليام ماكدونو» بروس فول» وروبرت فوكس من الولايات المتحدة» 
وتوماس هيرزوك من ألمانياء ونورمان فوستر» وريتشارد روجرز من بريطانيا. 


YAY 


وبدأ هذا الرعيل باكتشاف وبلورة التصاميم المعمارية التي ركزت على 
التأثير البيئي طويل المدى أثناء تشغيل وصيانة المباني» وكانوا ينظرون لما هو 
أبعد من هم "التكاليف الأولية" (005]5) 101131) للبناء.. هذه النظرة 
ومنذ ذلك الحين تأصلت في بعض أنظمة تقييم المباني مثل معيار 
EEA)‏ 6BR)الذي‏ تم تطبيقه في بريطانيا في العام ۱۹۹۰م. ومعايير 
رئاسة الطاقة والتصميم البيئي ((1.15111) في الولايات المتحدة الأمريكية 
وهي اختصار [:(1(65150 eadership in Energy and‏ 
7101281 ) وهذه المعيار الأخير تم تطويره بواسطة المجلس 
الأمريكي للبناء الأخضر(٥0568)‏ وتم البدء بتطبيقه في العام 
.٠٠‏ والآن يتم منح شهادة ((15811) للمشاريع المتميزة في 
تطبيقات العمارة المستدامة الخضراء في الولايات المتحدة الأمريكية. 


إن معايير ((115111) دف إلى إنتاج بيئة مشيدة أكثر خضرة, 
ومبان ذات أداء اقتصادي أفضلء وهذه المعايير التي يتم تزويد المعماريين 
والمهندسين والمطورين والمستغمرين جا تتكون من قائمة بسيطة من المعايير 
المستخدمة في الحكم على مدى التزام المبنى بالضوابط الخضراء ووفقاً 
هذه المعايير يتم منح نقاط للمبنى في جوانب مختلفة» فكفاءة استهلاك 
الطاقة في المبنى تمنح في حدود ١١/(‏ نقطة), وكفاءة استخدام المياه تمسح في 
حدود (ه نقاط)» في حين تصل نقاط جودة وسلامة البيئة الداخلية في 
المبنى إلى حدود ٠١(‏ نقطة). أما النقاط الإضافية فيمكن اكتسابما عند 
إضافة مزايا محددة للمبنى مثل: مولدات الطاقة المتجددة, أو أنظمة مراقبة 
غاز ثانى أكسيد الكربون. وبعد تقدير النقاط لكل جانب من قبل اللجنة 


50 


المعنية يتم حساب مجموع النقاط الذي يعكس تقدير ((1,1111) وتصنيفها 
للمبنى المقصود., فالبنى الذي يحقق مجموع نقاط يبلغ (9" نقطة) يحصل 
على تصنيف (ذهي)» وهذا التصنيف يعني أن المبنى يخفض التأثيرات على 
البيئة بنسبة )⁄0٥١(‏ على الأقل مقارنة بعبنى تقليدي مماثل له. أما المبنى 
الذي يحقق مجموع نقاط يبلغ (07 نقطة) فيحوز على تصنيف (بلاتيني)» 
وهذا التصنيف يعني أن المبنى يحقق خفض في التأثيرات البيئية بدسبة 
)⁄0۷٠(‏ على الأقل مقارنة عبنى تقليدي ممائل. 


إن تقييم المباني بمثل هذه الطريقة يمكن أن يكشف لنا عدد الباني 
التقليدية التي لا تتمتع بالكفاءة (Inefficient Buildings)‏ وبالتالي 
نتعرف على أسباب ذلك في ثنايا الأساليب المتبعة في تصميمها وتشييدها 
وتشغيلها. تحدث فيليب بيرنشتاين (86705]610 م1111 6) وهو أستاذ 
في جامعة (9731) عن مشكلة المباني التي تفتقر إلى الكفاءة: (هي ليست 
فقط استخدام الطاقة» ولكنها استخدام الوادء وهدر اليا 
والاستراتيجيات غير الكفئة التي نتبعها لاختيار الأنظمة الفرعية لبانينا). 
وقد أرجع المعماري يرنشتاين عدم الكفاءة في المباني إلى ما أسماه (التمزق 
أو التجزيء) في أعمال البناءء حيث يرى بأن المعماريين والمهندسين 
والمطورين ومقاولي البناء كل منهم يتبنى قرارات نخدم مصالحه الخاصة فقط, 
وبالتالي يحدث عجز ضخم وانعدام كلي للجودة والكفاءة في المبنى بشكل 
عام ('). 


' المصدر: موقع المهندس- الرابط: 
YAo‏ 


رعاية المكان 


إن فكرة تقوم المردود البيئي تعكس تاما فلسفة روحية» وهي تخالف 
مفهوم الخراب, وأمست علاقة الإنسان مع البيئة ذات محتوى واقعي 
وليس غيي حصراًء وشكلت إحدى سنن الله في خلقه. ونلمس الأمر جليا 
في مجتمع الظلم الممزق الذي يعمل على تدمير البيئة» وسوء استغلاها. وما 
يحصل الآن في العالم تحقيقاً لمصالح اقتصادية أو أغراض عدوانية. فحمى 
بناء المفاعلات النووية وإنتاج الأسلحة الفتاكة واستعمال اليورانيوم 
المنضب من جانب» ومن جانب آخر قطع الغابات أو إحراقها في 
إندونيسيا والأمازون وإفريقيا وأوربا الشرقية» واستعمال طرق مص ضرع 
البيئة بشكل جشع أدى إلى إماتتهاء بما سيقضي على حياة الإنسان من 
حولها. 


وعلى نفس المبادئ المعادلة بين الغيبيات والأخلاقيات» نشأت دعوة 
مبكرة إلى الإنبات والتشجير والارتقاء بالبيئة الخضراء الحيطة. حيث نقل 
عن أبي قتادة» قال رسول الله (ص): (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم 
فسيلة» فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها) (') وورد في 
حديث أخر (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعا فيأكل منه طبر أو 
إنسان إلا وكان له به صدقة) ('). 


http://www.almuhands.org/forum/showthread.php?t=71017 
روى هذا الحديث الشريف أحمد ومسلم.‎ ١ 
. رواه أحمد عن أي الدرداء‎ 1 
۲۸٦ 


وقد حدد المنهج الأخلاقي للإسلام ماهية التعامل مع العلم 
ومنهجيته وانشغالات البحث العلمي التي لا تمس ما لا طاقة للبيئة به 
بحجة التنمية والتوق إلى التقدم كما نلمسه في حضارة اليوم وبذلك 


اختارت من العلم ما يناسب ونبذدت الباقي. 


إن احترام البيئة جاءت ضمن الممارسة الأخلاقية في عمارة الإسلام 
كوا مصدر مواد البناء التي تجسد العناصر المعمارية» وتشارك في خلق 
فضاءات معمارية موائمة للعيش وأجواء صميمة تراعي فيها الراحة 
الجسمية والنفسية.. والبيئة في جل الدول الإسلامية تتميز بالجفاف 
وانخفاض معدل الأمطار وارتفاع شدة الإشعاع الشمسي وارتفاع معدل 
الفاقد الإشعاعي ليلاء وبثبات نسبي في أنواع الرياح اليومية وال مومية. وإن 
تكريس شعور الإنسان بالراحه للساكن» يكون مصدرا من مصادر بناء 
حالته النفسية المستقرة» ومن ثم ممارستة الأخلاقية إزاء مجتمعه التي تعد 
وسيلة وغايةء وبذلك توصلوا إلى تلك المعادلة التعليليةء وتبنوا أسلوباً في 
البناء متناغما مع تلك المعطيات المناخية ومستفيدة منهاء وعلى العموم 
تدكرمن المناحي البيئوية للعمارة في البيئات الإسلامية بالصيغ التالية: 


٠‏ قللوا الأسطح الظاهرة من الباني» وكذلك معدل الانتقال الحراري 
وذلك بمراصفة البناءات في مجموعات وكتل. 

٠‏ الاستفادة من التراوح في درجات الحرارة باستعمال الطين في بناء 
حيطان سميكة مع تقليل عدد الفتحات» وبذلك حد من تبادل 
الطاقة مع الهواء الخارجي وكذا تسرب وتجمع الغبار. 


YAY 


عملوا صهاريج عميقة في الأرض لحفظ المياه. 

حدوا من معدلات اكتساب الحرارة الشمسي» وذلك ببناء أفنية 
عميقة تحيط جا الغرف ويتم تشجيرها. وكذلك الاحتفاظ جواء 
الصباح البارد عدة ساعات والتقليل من تأثير الرياح الحملة بالأتربة 
وباستعمال الأسوار العالية والتي توفر قدرا من الظلال المرغوب جا. 
استعملوا (الملاقف أو البادكيرات) أو (البقدش) في الخليج. 
استعملوا السراديب التحت أرضية, التي ما أحوج العمارة اليها 
اليوم لتعدد وظائفها. 

استعملوا السقوف المقببة من اجل الزيادة من معامل الانتقال 
الحراري ومسطحة, با يحتم شفطا للهواء الساخن في أعلى القبة. 
وتستعمل في المناطق التى تسودها الرياح فتحات التهوية الطبيعية 
بدلا من البادكيرات. 

استعملوا الطاقة الشمسية في الغرف المصممة للأشغال الشتوية 
وخزنوا الطاقة في الحيطان والسقوف» وجعلت التدفئة في الشتاء تتم 
في الحجرات المستعملة للسكن والنوم فقط من أجل الاقتصاد في 
الطاقة. 

روعي في التصميم احترام الموروث في كل بيئة طبيعية بما يناسبهاء 
واحترام الأعراف البنائية المناسبة للبيئات (الثابت). وجاء التكريس 
من خلال إشادة الحيطان من مواد محلية وبسمك يضمن صمودها 
وتحملها وزر أحمال البناء المحمول, ومقاومتها للحرارة والرطوبة. 


TAA 


م يمانع الإسلام بالاسترسال في القيم الأخلاقية للشعوب عا يتناسب 
مع مراميه, ولا سيما في العمارة على المبدأ النبوي (إنما جئت لأتمم لكم 
مكارم الأخلاق)» وهكذا أقر الخليفة عمر (رض) أن يبني العراقيون 
بالقصب مدائن الكوفة والبصرة؛ كونها زاهدة وفعالة وتتماشى مع البيئة 
الحلية. 


وعلى هذا المبدأ لم يكن الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثه الإسلام 
قد أثر في تصميم البيوت» فقد راعى المعمار في كل بيئة طبيعية بما يناسبها 
من ميراثها. وعلى العموم فقد بقيت الفناءات (الأحواش) نافذة التطبيق 
ومتعددة الاستخدامات والشيوع في البيئات الإسلامية» واستعملت 
السقائف للتظلل» وعني بغرس الأشجار في الحديقة التي تقع عادة شمال 
المبنى لتلعب صفة المصفي ضد الأتربة وتنظيم عملية البخر التي تضطلع 


بها الفسقية التي يبث خريرها وندى هوائها أجواء صميمة. 


والفناء أو الحوش أو الباحة أو وسط الدار» ويسمى في عمارة شرق 
أفريقيا (كيواندا)» وهو من العناصر المميزة لعمائر البيئات الإسلامية التي 
ألغتها الحداثة, واستبدلت با النوع المتضام الوارد من بيئات المناطق 
الباردة. والفناء في اللّغة هو السعة أمام العقار» ويقول ابن منظور 
(ت:١1لاه-١111م):‏ (هي الساحات على أبواب الدور» وفناء الدار 


ما امتد من جوانبها) (') 


١‏ ابن منظور - لسان العرب 
50 


والفناء تقليد معماري وارد من الميراث المحلي في الشرق القديم 
وأقدمها وجد في مدن سومرء أور واوروك. ومكثت جدوى هذا العنصر 
التخطيطي مناخية ثم اجتماعية ونفسية. والحوش ساحة وسطية سماوية تفتح 
عليها حجرات المنزل وليس على الخارج أو حتى على ثمرات تحيط بالجنان 
كما في قصر الحمراء على النظام المسمى (أتريوم). ويعد الفناء قلب الدار 
وجزءا أساسيا في ظاهرة (التدرج الفضائي) من الفضاء العام الذي هو 
الزقاق» والفضاء شبه العام هو بمو الدخول /امجاز أو السقيفة, والفناء 
يعثل الفضاء شبه الخاص» والغرف هي الفضاء الخاص. وهذا التدرج 
نفتقده في الدور الحداثية» حيث يلاحظ اتصال فضاء المعيشة مباشرة» مع 
الباب الرئيسي» وهو مدعاة في عدم الشعور بالراحة والخصوصية, التي 
جبلت عليها العقلية المسلمة 


والفناء المفتوح هو أفضل تعبير عن الفضاء المتعدد الاستعمالات, 
ويمثل فضاء الفعاليات الاجتماعية المختلفة (الأفراح والأتراح), كما أنه 
فضاء المعيشة اليومية ولعب الأطفال والتنظيف والطهي والاستحمام 
صيفا. ويساهم استعمال الماء وسقي الأشجار في الفناء في رفع نسبة 
الرطوبة في الفضاء. فتؤدي إلى تلطيف الجو ولا سيما في المناطق الحافة. 
ويوفر تسقيف الفناء (كما في الصحراء الكبرى) إمكانية الحفاظ على 
البرودة المكتسبة ليلاء ومن الممكن تسقيف معظم الفناء أو بعضه. حماية 
من العواصف الرملية والحرارة الشديدة. ويبلط الفناء عادة بمواد باردة 
كالآجر المربع (يسمى في العراق الفرشى) ويلعب بعد ترطيبه» دورا مهما 


في زيادة نسبة الرطوبة وتكريس الشعور بالراحة. لكن الحداثة أوجدت 
۹۰ 


البلاط الأسمنتي الذي لم يعد مناسبا في تبليط الفناءء وأدى إلى نتائج 
سلبية» فالأسمنت مادة بناء تخزن الحرارة تماراً وتشعها ليلاً وببطء. وبذلك 
تكون مولدة للحرارة بدلا من أن تكون ممتصة لما كما المواد الطبيعيةء 
ويكتسب الفناء مهاما بيئية في الدرجة الأولى أهمها: 


0 تلطيف الجو في المناطق الحارة حيث أن وجود الأشجار والماء يجعل 
الفناء مظلل والحواء الموجود فيه بارداً وينتقل إلى الغرف المجاورة حيث 
النوافذ تكون سفلية وإذا دخل الغرفة وصار حار فإن كنافته الحواء 
الحار أقل من المواء البارد لذا يصعد إلى أعلى الغرف ليجد النوافذ 
العلوية الخارجية ليخرج منهاء وهكذا يتجدد الحواء في دورة مستمرة 
لتبريد المنزل. 


0 الخصوصية لساكني المبنى با يحققه من ستر لتجمعاته ومتعة في 
خضرته» وكذلك يشكل مصدر أمان للأطفال وهم يلعبون بالقرب 
من أمهم دون ملل أو كبت. والخضرة في الأفنية تقوم بلتطيف الجو 
الداخلي وتكون بمجموعها في النسيج الحضري رئة للمدينة الإسلامية 
بينما في العمارة الحديغة كل الأشجار في الطرقات والميادين والحدائق 
العامة لا تشكل نفس النسبة في المدينة الإسلاميةء ولا تحظى 
بالاهتمام الذاتي التي توليه البيوت لأفنيتها. 


۲۹۱ 


0 إن المسلمين لهم علاقة روحية بالسماء فترى صحن المسجد مفتوحاً 
للنظر إلى السماء والنجوم والظواهر الطبيعية بما يرتقي بروح كل 
مؤمن إلى التدبر وتزرع فيه الرحمة والراحة النفسية. 


0 يحدد حجم الفناء حجم الدار وموقعه بالنسبة إلى اتجاه حركة 
الشمس. وفي المناطق الحارة الجافة يكون ارتفاع جدار الفناء أكبر 
من طول أي من أضلاع قاعدته, أي أن يكون عميقاء ليوفر أكبر 
مساحة من الظل. وفي المناطق الحارة الرطبة يفضل أن يكون ارتفاع 
الفناء أصغر من أضلاع قاعدته لخلق تيارات هوائية. والفناء المفتوح 
يسود المناطق الحارة. مع تغيرات بسيطة» مثل وجود أروقة أو أعمدة 
في بعض جوانبه كما في العمارة الرومانية ما دعي (أتريوم). ومن 
الممكن تسقيف معظم الفناء أو بعضه. حماية من العواصف الرملية 
والحرارة الشديدة. ويوفر تسقيف الفناء (كما في الصحراء الكبرى) 
إمكانية الحفاظ على البرودة المكتسبة ليلا. 


وقد أختلف في تحديد مقاسات الفناء فهناك آراء تقول بأن طوله 
بطول الجدار الملاصق للعقار بناحية الباب» وهنالك آراء فقهية كما جاء 
لدى الشيخ ابن تيمية» تقول أن الفناء لا يختص بناحية الباب بل جميع 
الجوانب. وقد اختلف طوله تبعا لظروف الأحياء والبناء. أما عرض الفناء 


فيقول ابن الرامي (بأنه يتحدد بعرض مصب ميزابه» ومصب اليزاب فيه 
أربعة أشبار إلى ستة بقدر سعة الطريق لي ا-ء.ةاسم) وبذلك فإن 


۹۲ 


الطريق الذي يحتوي على ميازيب طويلة فإن الطريق كله يصبح فناء. 
وبذلك فإن مساحته تحددها الأعراف الحلية. 


ومن العناصر المعمارية التي وجدت قبل وبعد الإسلام (السرداب) 
وهي القبوات المطمورة كليا أو جزئيا في الأرض» وهو فضاء متعدد 
الوظائف كالخزن والنوم والجلوس في القيظ. ويتداخل ذلك الفضاء مع 
عنصر الملقف أو البادكير» حيث يذكر المؤرخون أنه كانت هناك سراديب 
تصل القصور بعضهاء وقال ناصر خسرو أن قصور الفاطميين كانت مؤلفة 
من بيوت كبرى وصغرى تصل بينها سراديب. ووصف المقدسي سراديب 
قصر عضد الدولة بشيراز» ويستغل السرداب للقيلولة ولحفظ الفواكه 
والمربيات والمخللات, لكنه يهمل شتاء» بسبب الرطوبة وارتفاع منسوب 
المياه الجوفية 


والملقف: ومى في العراق البادكير أو في الخليج والجزيرة الباركيل وهو 
ما يقابل wind catcher‏ بالإنكليزية): وهو متلقف المواء. ومنه وردت 
(بادكير) الفارسية المركبة من مقطعين: باد - هواى وكير - جالب» أي 
جالب الحواء. والملقف أحد أهم عناصر التهوية الطبيعية المساهمة في 
خفض درجة الحرارة داخل الدار إلى أقل من "٠١‏ درجة مئوية صيفا في 
حين تكون الحرارة في الخارج أكثر من ٠‏ هدرجة. والملقف مجرى هوائي, 
وظيفته تشبه وظيفة مدخنة مفتوحة نحو الرياح الشمالية الغربية (تسمى 
الغربي) فتنجه كافة الملاقف نحو اتجاه واحد» بغض النظر عن موقع أو 


1۹۳ 


حجم الملقف. وتساهم جدران الملقف السميكة في العزل الحراري للهواء 
النافذء ولكل إقليم ملقفه الخاص. 


يمر المواء الى الملقف المواجه لفتحته» وثمة سبب آخر يحرك الحواء 
يكمن في خاصية الإشعاع الحراريء فيفقد السطح الحراره ليلا في الصيف› 
نما يؤدي إلى انخفاض الضغط الملامس للسطح» فيحل هواء الرياح 
السائدة الأكثر رطوبة, بدل المواء الحارء فيمر قريبا من السطح نحو 
الملقف ليهبط خلاله نحو الأسفل. وخلال مروره يفقد جزءًا من حرارته 
وتزداد رطوبته. يواجه المواء الداخل, جرار الماء المبتلة» فتنخفض حرارته 
وتزداد رطوبته. يمر جزء من المواء النافذ إلى السرداب في مجرى هوائي 
خاص تحت أرضيته, ليخرج من خلال قاعدة تغطى بمشبك خشبي توضع 
عليه الفواكه وجرار الماء لتبريدهاء تسمى الفتحة (الزنبور). 


وللسرداب فتحات إضاءة على الفناءء تسمح بمرور المواء البارد إلى 
الفناء ليزيح الحواء الساخن والخفيف نحو الفضاء وفي ذلك يؤمن دورة 
التهوية الطبيعية. ونلتقي فى مدن الخليج كدي والبحرين ملاقف ضخمة 
ذات فتحات كبيره بكل الاتجاهات» وذلك لطبيعة المناخ الحار - الرطب» 
الذي يستدعي قوية مستمرة وكبيرة؛ ففي الصيف يكون الحواء حارا 
ومشبعا بالرطوبة. وللتخلص من "قل" الهواء الرطبء لا بد من تيارات 
هواء مستمرة » ثم إن كبر حجم الملقف تقتضيه ظاهرة نسيم البر والبحر. 
إن إلغاء الملقف اليوم (أو تسقيف الفناء وتحويله الى حجرة وسطية) يعني 


۹٤ 


ببساطة إيقاف التهوية الطبيعية» وبالتالى إلغاء المواءمة البيئية لعمائر 
الإسلام. 


وهناك عنصر التختة بوش وسمى ما يحاكيه بالديوانية أو (الآرشي) 
بالتركية أو المقيل في اليمن, والواقعة بين شناشيل الزقاق وإطلالة الفناء. 
وهي فضاء/ شرفة, تكون أرضيتها من الخشب» ومنها جاءت التسمية. 
تقع فوق السرداب لتستفيد من انخفاض حرارة السرداب. يتألف مدخلها 
من إطار خشبي مع شبكه معدنية» وتستغل التختة بوش لحفظ الأدوات 
المنزلية الموهمية وكفضاء لقيلولة كبار السن, من تزعجهم رطوبة السرداب. 


ومن العناصر الصميمة في العمارة الإسلامية عنصر المشربية أو 
الشناشيل أو الرواشين» التي تعددت تسمياتها وتوحدت صفاقاء وتعتبر 
إحدى الردود الحاذقة على مقتضيات بيئية واجتماعية ونفسية أوجبت 
انتشاره في عمائر المسلمين. وكلمة شناشيل ترد من أصول عراقية قديمة 
(نمش- أيل) أي الشمسية. أما المشربية (والأصح مشرفية) أي التي 
تشرف على الطريق وفسرها البعض من وظيفتها في اكتنافها لقلة البناء. 
أما كلمة رواشين فهي واردة من فعل رشن التي تعني "تطفل" أو ترد بمعنى 
طريف فحواه "الكلب عندما يدخل رأسه في الطعام" وهي تدل على 
وظيفتها كحاجز لمنع المتطفلين من النظر إلى داخل الحجرات. 


والمشربية نافذة بارزة من الخشب» المتشابك أو المتقاطع أو المتصالب 
تقام بأشكال هندسية مربعة أو مثلثة أو معينية وبعناصر زخرفية ونقوش 


490° 


وتقع على واجهة الطابق الأول المطلة على الزقاق بشكل طنف يخرج على 
خوابير خشبية أو كوابيل كما في قصبة مدينة الجزائر أو حارات دمشق أو 
حتى طنف ممتد من الجسور الخشبية الرئيسية في أكثر الأحيان كما في 
بغداد» ويسمى الجزء البارز من الشناشيل في العراق (الكرصون) وتسمى 
الشبكة الحاجبة الخشبية (قيم) وقد توسع استعماها في البيئات التي لا 
تتوفر على الخشب بكثرة كما في العراق أو الحجاز أو مصرء واستعمل في 
إنشائها ومعالجاتا الجمالية الخشب كعنصر أساسي» وعادة ما يوظف هذا 
العنصر العماري في: 


0 نثر الضوء الطبيعي داخل الغرفة بحيث لا يحدث السطوع في 
الداخل 


ه لحجب ما بداخل الدار بحيث يتسنى هم رؤية ما بخارجها ولا يسمح 


العكس . 


0 لتبريد جرات الماء صيفا بوضعها ضمن فتحة دائرية في أسفلها 
فيعمل تيار المواء على التبريد. 


0 وتستعمل كتشبيكات في الواجهات الصماء تسمح بمرور تيارات 
الحواء التي تحتاجها المناطق الحارة الرطبة كما هو الحال في الحارة 
الحافة. 


۲۹٦ 


ومن أهم الميزات البيئية في المباني في البيئات الإسلامية هي عملية 
انتقال المعيشة صيفا وشتاء؛ فمن المتعارف عليه في تصميم مسكن اليوم» 
وضوح فضاءات المعيشة والطعام والنوم» حيث سعى المصممون إلى خلق 
فضاءات متعددة الاستعمال. والدار الإسلامية لا تتميز بفضاءات متعددة 
الاستعمال فحسب» بل إن العائلة كلها تنتقل من فضاء إلى آخر بشكل 
موسممي. في الصيف تستغل العائلة الطابق الأرضى» وخصوصا (الليوان) أو 
الطارمة أو السقيفة أو التختبوش المسقفة الحمية من الشمس» والواقعة 
فوق السرداب البارد. وهكذا انتفت الحاجة إلى أجهزة التبريد التي لولاها 
ولولا التيار الكهربي لأصبح المكوث في البيوت الحديثة من ضرب الحال. 


ويعد السطح» بعد الفناءء من أهم فضاءات المعيشة؛ فهو في الصيف 
فضاء النوم والعشاء وأفضل فضاء لتجفيف الملابس وقضاء شؤون البيت 
نحارا. أما فى الشتاء فالسطح هو فضاء لعب الأطفال» وطارمة الطابق 
الأول تكون فضاء العائلة تماراء لقربما من أشعه الشمس ولأن الليوان 
يكون باردا ورطباً. وهكذا بمكن القول أن فضاء العائلة صيفا هو السطح, 
الطابق الأرضي والسرداب. أما في الشتاء فهو الطابق الأرضى والطابق 
الأول. 


وقد أثر هذا الخطاب البيئوي للعمارة الإسلامية في المدن الإسلامية 


في المناطق المعتدلة مثل جنوب أوربا (إسطنبول» سراييفو. ومدن الأندلس) 
بالرغم من اعتدال حرارة الصيف نسبياء وبرودة الشتاء لديهم. وقد 
واءمت تلك البيئات عمائرها في انتقال العائلة على عكس ما ذكرناه في 


۹۷ 


المناطق الحارة. حيث يتم استغلال الطابق الأرضي شتاء الذي يبنى عادة 
من خامة الحجر وبسمك مناسب للعزل والمقاومة, وكذلك للحماية من 
تيارات المواء البارد أو العواصف الثلجية. أما الطابق الأول فيستغل 
صيفاء ونادراً ما يستغل السطح 0( 


وقد جاءت الدار الحداثية المتضامة في الأقطار الإسلامية على خلاف 
ما ترتضيها سجية المكان في تحفيز حركة المواء بين الفضاءات المشمسة 
والمضللة التي تكون أحياناً عكس تيارات الحواء السائدة. وبذلك فقدت 
تلك العمائر مواءمتها مع البيئات احلية ناهيك عن المؤثرات الوخيمة في 
البنية النفسية للفرد والأخلاقية للمجتمع المسلم الذي يحتاج إلى إعادة 
النظر بماء وإلا أمست نتائجها وخيمة. 


0 ۰ 


محايير تصميميه 


ه٠4‏ جو 


يظهر تأثير العوامل المناخية - سواء في المناطق الباردة أو الحارة - 
على الإنسان والبيئة المبنية من خلال استخدام الطاقة من أجل التبريد أو 
التدفئة حسب المنطقة المناخية لتوفير ما يطلق عليه (الراحة الحرارية داخل 
المبنى) ويعرف البعض الراحة الحرارية 000701016 1261021 بأنما 
الإحساس الفسيولوجي (الجسدي) والعقلي الكامل بالراحة» وفي هذا 
الصدد كان لا بد من توضيح استراتيجيات التصميم المناخي الواعي 
بالطاقة والذي يسعى إلى تحقيق هدفين أساسيين وهما: 


' د.جاسم الدباغ - الدار الشرقية - مجلة الثقافة الجديدة. 
۲۹۸ 


أولا: في فصل الشتاء يجب أن يراعى في تصميم المبنى الاستفادة 
القصوى من الاكتساب الحراري عن طريق الإشعاع الشمسي مع تقليل 


الإشعاع الشمسي وتقليل الاكتساب الحراري والعمل على فقد الحرارة من 
داخل البنى وتبريد فراغاته الداخلية بالوسائل المعمارية المختلفة» ولكى 
يتم تدفئة أو تبريد المبنى فإن هذا يستلزم وسائل ونظم سواء كانت تعتمد 
على الطاقة الكهربية (كمكيفات الحواء) أو الطبيعية (باستخدام الطاقات 
الطبيعية كالشمس والرياح والأمطار). 
وبنظرة فاحصة للمباني الحديثة نجد أن أغلبها يعتمد تماما في عمليات 
التدفئة أو التبريد على مكيفات الحواء بالرغم من السلبيات المتعلقة يما 
والتي بمكن إيجازها فيما يلي: 
١‏ - تعرض الجسم إلى اختلافات كبيرة في درجات الحرارة ما بين المبنى 
المكيف والشارع أو الفراغات الخارجية الحارة نما يؤدي إلى تقليل 
؟- تساعد المكيفات على دخول البكتيريا والأتربة إلى المباني» وإن 
إغلاق الغرف المكيفة إغلاقا محكما يؤدي إلى زيادة نسبة الملوثات 
المختلفة مقارنة بالأماكن جيدة التهوية. 


8 


۴ - إن عملية صيانة المكيفات مكلفة, كما ينتج عن عدم تنظيفها 
وتبديل الفلترات نمو البكتيريا والفطريات الضارة بصحة الإنسان. 


5 - يحتاج التكييف الميكانيكي على مستوى المدن مجهودات وتكاليف 
كبيرة من ناحية توفير الطاقة الكهربائية لتشغيل هذه المكيفات. 


وبالرغم من كل الأضرار والسلبيات الناتجة عن استخدام المكيفات 
فإن الاتجاه إلى استخدامها يزداد باضطراد في حين أن الموارد والطاقات 
الطبيعية والتي تتمثل في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح متوفرة وبمكن 
استخدامها بأساليب تصميمية معينة وهو ما كان يحدث في مباني التراث 
الذي مازال حياء فهذه المباني كانت تستعمل مواد بناء ذات سعة حرارية 
كبيرة كالحجر أو الطين أو الجص وحتى القصب مثلا بمعنى أن هذه المواد 
تعمل على تأخير انتقال الحرارة من خلاها إلى داخل المبنى وحتى ساعة 
متأخرة من النهارء وبذلك يظل الجو الداخلي للمبنى مريحا أغلب ساعات 
النهار الحارة» كما كانت الفتحات الخارجية ضيقة (بعكس ما نراه من 
مسطحات زجاجية كبيرة في المبانى الحديثة) وذلك لتلافي دخول كمية كبيرة 
من الإشعاع الشمسي المباشر. مع وضع بعض الفتحات العلوية والتي 
تسمح بدخول الضوء الطبيعي دون أن يتعرض الجالس أسفلها إلى الإشعاع 
المباشر, أما في حالة الفتحات الكبيرة فكانت تستعمل المشربيات الخشبية 
ذات الخرط الخشبي والذي يعمل على كسر حدة أشعة الشمس مع 
السماح بدخول المهواء ونسبة معقولة من الضوء كما تم استعمال ملاقف 
الهواء في بعض البانى والمنازل لتهوية بعض الحجرات أو القاعات؛ أما 


on 


الأفنية الداخلية المكشوفة والتي كانت القاسم المشترك بين المباي» فقد 
وفرت أماكن مظللة بالصيف وقدرا معقولا من دخول الشمس أثناء الشتاء 
عا يوفره الفناء من خصوصية تامة لأهل المنزل ومكان آمن للعب الأطفال 

ومن الطاقات الجديدة والمتجددة والتي يمكن استخدامها لتوفير طاقة 
نظيفة قابلة للاستخدام خاصة بالباني السكنية وخصوصا بالمناطق الريفية 
وغير الحضرية هي طاقة الكتلة الحية 81021355 والتي يتم إنتاجها من 
المواد العضوية المتجددة ذات المنشأ النباق والحيوان» فالمخلفات الزراعية 
الناتجة من حصاد الحاصيل المختلفة تعد مصدراً مهماً من مصادر الطاقة 
الكامنة يشاركها في ذلك مخلفات النباتات المائية الناتجة عن تنظيف المجاري 
المائية» ولا تقل المخلفات الحيوانية أهمية عن سابقتها في هذا المجال, كما 
تكون المخلفات الآدمية بما تحتويه من مواد عضوية مصدراً هائلاً للطاقة. 
وتعد تقنية إنتاج الغاز الحيوي 810835 أحد أهم الوسائل لتوفير الطاقة 
النظيفة والمتجددة كما أنحا أحد أهم الوسائل المهمة للاستفادة من 
المخلفات والفضلات الآدمية والحيوانية والنباتية إلى جانب القمامة أيضا 
يما يعد أحد الوسائل التي تساعد وتساهم في نظافة البيئة. 


مواد البناء الصديقة للبيته: 
يلاحظ أن المباى في الحضارات القدبمة كانت تستعمل مواد بناء 
شديدة الاحتمال متوافرة في البيئة كالحجر والطين والخشب والقش 


والقصب. ويعد الطين والطوب الحروق من أقدم مواد البناء مدذ الرافدين 


5 


القدي» ولكي تكون مواد البناء صديقة للبيئة يحب أن يتوفر فيها شرطان 
أساسيان: 


ه ألا تكون من المواد عالية الاستهلاك للطاقة سواء في التصنيع أو 
التركيب أو حتى الصيانة. 


ه ألا تساهم في زيادة التلوث الداخلي بالمبنى أي أن تكون من 
مجموعة مواد البناء (والتشطيبات) التق يطلق عليها مواد البناء 
الصحيحة وهى غالبا ما تكون مواد البناء الطبيعية. 


كما يجب الاهتمام باستبعاد المواد والتشطيبات التي ثبت تأثيرها 
الضار على الصحة أو على البيئة» ومحاولة البحث عن بدائل هاء ومن 
هذه المواد والتشطيبات الضارة مادة ۲.۷.٣‏ (لبلاستك)» 
والفورمالدهيد, والذي يستخدم كمادة لاصقة, ومادة الفنيل المستخدمة 
في الأرضيات و(الملدنات) التي يصنع منها الأثاث والستائر والأبواب 
والشيش والأرضيات حيث تنبعث منها غازات تضر بالصحة, لذلك 
يوصي العديد من الخبراء بأهمية استخدام المواد الطبيعية والدهانات التي 
تعتمد في تكوينها على الزيوت الطبيعية كزيت بذرة الكتان أو القطن مع 
استبعاد الدهانات الكيماوية الحديثة والتي ينبعث منها مركبات عضوية 
متطايرة تضر بالصحة 


أساليب الحفاظ على الماء داخل المباني: 


رعا يعتقد البعض أن الماء يستعمل فقط في المباني من أجل عمليات 
الشرب والاستحمام أو طهي الطعام» ولكنه يستخدم أيضا في ري الحدائق 
المنزلية وعمليات تجميل المبنى وترطيبه عن طريق النوافير وأحواض المياه أو 
الشلالات أو حتى في حمامات السباحة, فالماء له استخدامات جالية 
وبيئية حيث يساعد على ضبط الرطوبة النسبية بالموقع كما يؤدي إلى تنقية 
وتبريد الحواء المار عليه. هذا ولعملية إعادة استخدام الياه المستعملة والتي 
تسمى بالمياه الرمادية اماه '(ع11) وهي النانجة عن استعمال الحمامات 
والمرشات (الدوش) والمطابخ ها أثر كبير في خفض استهلاك الماء بالمباني, 
حيث يتم تجميعها في خزان أرضي ويتم معالجتها وترشيحها باستخدام 
الرمل والحصى (البحص) والمرشحات البيولوجية ثم يعاد استعمالها لري 
الحدائق أو تستعمل مرة أخرى في صناديق الطرد. 


كما تعد عملية تجميع مياه الأمطار أيضا من العمليات المهمة في 
خفض استهلاك الاءء حيث تسقط هذه المياه في بعض المناطق الحافة على 
هيئة زخات كنثيفة ولمدة زمنية قصيرة» ويتم تجميعها وتخزينها بأساليب 
مختلفة» ومن أشهر هذه الأساليب الآبار والخزانات الأرضية (الصهاريج) 
حيث بمكن استخدام هذا الماء في الحمامات وري الحدائق وغسيل 
السيارات» كما بمكن استخدامها أيضا بعد التأكد من خلوها من الملوئات 
في حمامات السباحة ونوافير المياه. وكمثال لعملية تجميع مياه المطر هناك 
شبكة صرف تحقنها مباشرة إلى التربة. 


۳.۳ 


جودة الهواء داخل المباني: 


التنفس هو الحياة, وإذا كانت عملية التنفس في حد ذاقا هي العملية 
الأساسية لاستمرار حياة الكائنات الحية فإن نوعية المواء الذي تتنفسه 
هذه الكائنات لا يقل أهمية عن العملية نفسهاء فاستنشاق الحواء الذي 
يحتوي على العديد من الملوثات يكون له أضرار صحية كبيرة حتى على 
الأصحاء من الناس, وقد استفحلت مشكلة تلوث المواء داخل المباني 
خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين مع زيادة استعمال مواد البناء 
والتشطيبات الصناعية المخلقة ]5902 وكيماويات البناء المختلفة, 
وكل هذه المواد غير الطبيعية تساهم في تركيز الملوثات في الحواء وخلق بيئة 
داخلية غير صحية إلى جانب أن المباني الحديغة تكون محكمة الغلق حتى لا 
تسمح بأي تسرب للهواء من أجل التحكم في عمليات التدفئة أو التبريد 
وزيادة كفاءتاء وبذلك تصبح هذه الباني سيئة التهوية ويقل معدل تغيير 
المواء جما لدرجة تصل إلى مرة واحدة كل خمسة أو ستة ساعات نما يساعد 
على زيادة تركيز الملوثات داخل هذه النوعية من المبانن. وسيكون التأثير 
كارثيا لو قطع التيار الكهربي لأسباب عدة, ولم تعد حركات الحواء مجدية. 

إن التهوية الجيدة للمبنى تعد أحد أهم العوامل للتغلب على تركيز 
الملوثات بماء وهنا تظهر أهمية توجيه فتحات المبنى إلى اتجاه الرياح السائدة 
كما الغربية والشمالية والجنوبية الغربية في الشام والعراق» والتي تختص جا 
كل منطقة بشكل بيان يدعى (زهرة الريح) مع تواجد أكثر من فتحة بكل 


غرفة لخلق تيار هوائي مناسب باء وني حالة الغرف غير المواجهة للرياح 
السائدة فيمكن الاستعانة بملاقف المواء (البادكير -الباركيل). 


كما تجدر الإشارة هنا إلى أن استخدام بعض المواد المسامية أو 
الفضفاضة 7)12]61121 2010105 مع شرط استخدامها دون تغطيتها أو 
طلائها بدهانات تسد مسامها سيكون له الأثر الأكبر في ضبط نسبة 
الرطوبة داخل المبنى حيث أن هذه المواد تحتفظ بالرطوبة في مسامها ليلا 
حيث الرطوبة تكون أعلى (خاصة بالمناطق الجافة) وتنطلق هذه الرطوبة 
من مسام هذه المواد في أوقات النهار الحارة بفصل الصيف مما يوازن من 
نسب الرطوبة بمذا المناخ الجاف» ومن أمثلة هذه المواد: الطوب والأحجار 
الطبيعية أو الأخشاب غير المدهونة بدهانات تسد مسامها. 


الإضاءة والمبئى: 


الشمس هي المصدر الأساسي للضوء الطبيعي على أرضناء والضوء 
ينتشر على هيئة موجات كهرومغناطيسية» وللتعرف على أهمية كمية 
الإضاءة فإن عملية الرؤية تستهلك ربع الطاقة الكلية اللازمة للجسم في 
حالة الإضاءة الصحية والنظر السليم. وإن نقص كمية الضوء يؤدي إلى 
أمراض نفسية صعبة العلاج» يحاكي ما يعانيه سكان سال الأرض» وإن أي 
نقص في هذه الإضاءة معناه استنزاف الطاقة من الجسم لتعويض هذا 
النقص, ويمكن توفير الإضاءة داخل المباني بطريقتين: الأولى عن طريق 
الإضاءة الطبيعية القادمة من الشمسء والثانية عن طريق الإضاءة 


الصناعية فبالنسبة للإضاءة الطبيعية داخل المبابي, فإن التصميم الجيد 
للمبنى يجب أن يشتمل: 


ه أن يكون بكل حجرة نافذتان بقدر الإمكان موزعتان على حائطين 
حتى يتم تجنب ظاهرة الزغللة 


© توزيع الشبابيك واختيار أماكنها للحصول على أكبر قدر من الضوء 
الطبيعي وجخاصة المنعكس مع محاولة تجنب الضوء المباشر. 


ه تخصيص بعض الفراغات المكشوفة, كالأفنية مثلا التي تسمح 
للإنسان بأن يستفيد من الأشعة البنفسجية مع مراعاة عامل 
الخصوصية. 

ه. أن يراعى في تخطيط الموقع ارتفاعات المباني والمسافات بينهاء بحيث لا 
يحجب مبنى الضوء الطبيعي عن مبنى آخر قريب منه أو يواجهه. ومن 
هنا تظهر أهمية دراسة زوايا الشمس المختلفة على مدار العام لتجنب 
ذلك. 


الآثارالبينية السابية للحداثة 


إن الرؤية البيئية صعبة التحقيق لو استقام الناس عليها؛ لأنما تتضمن 
تضحيات لا يريد الكثيرون تقديمها ويفضلون المصالح العاجلة» ويبدو أن 
القيود التي تكبل الدول النامية قد سلبتها فرصة اللحاق بركب الغرب» 
حيث تطورت الدول الغربية بالصناعات الكبيرة وباستنزاف الموارد الحدودة 


۳٦ 


والتلوث.. إخ» وجرت وراءها شعوب ما يسمى (العالم النامي) وجلهم من 
المسلمين» وهم يسعون اليوم إلى إنكار تلك الممارسات على الدول 
الساعية للتقدم. والغرب الصناعي مثله مثل العام النامي غير مهيأ لأخذ 
الأولويات البيئية في الاعتبار. حيث يعني الأمر لحم التخلي عن الرخاء 
الذي ينعمون به بوصفه أكبر مستهلك للطاقة والموارد الخام. 


لقد استجد الإنسان حلول "ترقيعية" لما أقترفت يداه من خطايا بحق 
المكان البيئي» وحاول إضفاء حلول بعضها واه مغل محاولة التظليل بواسطة 
كاسرات الشمس أو استعمال زجاج عاكس وعازل..الخ. وكلها لم تخرج 
الإنسان من ورطته في عدم المواءمة مع المكان المبني, ونجد من جا للتظليل 
باستخدام العناصر النباتية كالأشجار والشجيرات والمتسلقات دائمة 
الخضرة في الواجهات الغربية والنفظية (متساقطة الأوراق) في الواجهات 
الجنوبية. والتظليل من أهم العوامل المساهمة في توفير الطاقة بدسبة تصل 
لأكثر من ٠١‏ %. بالإضافة لما تضفيه من لمسات جمالية على المكان» 
فالاختلاف بين المساحات المشمسة والمظللة يحدث تباينا يرسم لوحات 
جمالية في المدينة ناهيك عن أن المناطق المظللة والمشمسة تولد حركة هواء 
محلي» يعاكس أحياناً الريح الغالب. ولا بد أن كثيرا من تلك المعالجات 
المنسجمة مع روح المكان البيئي تشجع اجتماعيا على العيش والتمتع 
وتحفز على المشي والتلاقي وهذا يزرع الألفة والمودة في المجتمع, وهو يقلل 
استخدام وسائل المواصلات المختلفة والشوارع العريضة التي أضرت 
بالمكان حتى انعكست على الإنسان الذي يبقى تابعا له. 


ورغم تلك الإضافات والاضفاءات لكن مشكلة ترشيد الطاقة 
مكثت قائمة, وحري الاستفادة من الإشعاع الشمسي باستخدام لوحات 
حساسة تتلقفه» حيث تنتج الكهرباء مباشرة من الضوء الساقط عليهاء 
بطريقة غير ملوثة أو مؤثرة سلبا على البيئة» وكذا غير مزعجة وبدون 
إشغال أي حيز داخل البنى, بالإضافة إلى أنما تحتاج إلى القليل من 
الصيانة» نظراً لأنما لا تحتوي على أجزاء متحركة, كما يمكن تركيبها 
واستخدامها بدون عوائق. وهذه الألواح مصنوعة بشكل أساس من مادة 
السيلكون (الرمل) وهي متوفرة, ولا يؤدي استخدامها إلى الإضرار بالبيئة. 
وبما أن الخلايا مجمعة في وحدات فهي سريعة التركيب» وبمكن زيادة عددها 
والاتساع من نطاق تداوهاء ويمكن الاستفادة منها مكانيا لذا فإنما لا تفقد 
الكهرباء نتيجة التوصيل» وتجمع هذه الخلايا تحت طبقة عازلة (غالبا من 
الزجاج) لتكوين لوحة كهروضوئية ( 3261م «م) وذلك للحصول على 
أكبر كمية من الطاقة.. هذا وتصنع بأشكال وألوان ومواصفات مختلفة 
لتتناسب مع التطبيقات المختلفة في المباني دون التأثير على طابعها 
المعماري» فمنها الشفاف والنصف شفاف الذي يسمح بنفاذ الضوء 
والذي يستخدم بدل الزجاج العادي في الشبابيك والواجهات الزجاجية 
والإضاءة السماوية» وبعضها مرن ولدن وقابل للف واللي لتعماشى مع 
الأسطح المنحنية والدائرية 


وتستخدم الخلايا الكهروضوئية الضوء المباشر بالإضافة إلى الضوء 

المئشتت والمنعكس من الأسطح المجاورة لتوليد الكهرباء, حيث يبمكنها 

العمل حتى عندما تكون السماء غائمة, وهذا ما وجدناه حتى في دول 
۳۰۸ 


الشمال ذات الشتاء المكفهر الطويل» على عكس ما قد يظن البعض من 
أن هذه الخلايا تعمل فقط عندما تكون الشمس ساطعة والسماء صافية.. 

أما خلال فترة الليل عندما تغيب الشمس فإن الخلايا الكهروضوئية 
تتوقف عن العمل لذلك يمكن تخزين الكهرباء المولدة خلال النهار في 

بطاريات ليتم استخدامها في ساعات الظلام. وبمكن تركيب الأنظمة 
الكهروضوئية في المباني بطرق مختلفة. حيث بمكن تنبيتها على السقف أو 
على الحيطان الخارجية للمبنى» هذا بالإضافة لإمكانية استخدامها كمادة 

تشطيب خارجية أو كمظلة للمطر أو كاسرات لأشعة الشمس. 


ففي اللحظة التي ينتهي فيها البناء يصبح جزءا من المكان» كشجرة 
أو حجرء ويصبح شاخصا معرضا لنفس تأثيرات الشمس أو الأمطار أو 
الرياح كأي كائن آخر متواجد في البيئة. فإذا كان بمقدور المبنى أن يواجه 
الضغوط والمشكلات المناخية وفي نفس الوقت يستعمل جميع الموارد 
الطبيعية المتاحة من أجل تحقيق راحة الإنسان داخل البنى ليصبح هذا 
المبنى متوازنا مناخيا. وتبدو التوقعات بخصوص المذهب البيئي للقرن 
الحادي والعشرين شديدة الارتباط بحالة الأزمة البيئية؛ فمن المتوقع أن يزيد 
البحث عن بديل للتقدم الصناعي المولع بالنمو. وإحدى المشاكل التي 
تواجه الأحزاب الخضراء أن منافسيهم قد اتخذوا مواقف "صديقة للبيئة" 
كانت قبل ذلك حكراً على الخضر (مثلما اتخذت الرأسمالية بعد نقد 
الشيوعية لما سياسات دولة الرفاهة والحقوق الاجتماعية)؛ إذ لن يكون 
للجنس البشري بد في القرن الحادي والعشرين من قلب السياسات 
والممارسات التي كادت أن تدمر كل من الجنس البشري والعالم الطبيعي.. 


۲۰۹ 


لقد أساء نزق السلطات للبيئة ولنأخذ الحقبة الشمولية في الاتحاد 
السوفييتي مثالاء حينما تعاملت برعونة مع (بحيرة آرال) أكبر بحيرات العالم 
العذبة» بحجة استثمار مياهها في زراعة القطن, با أدى إلى انحسارها ويباسها. 
وني العراق جففت السلطة البعفية الأهوار (الأجمة أو البطائح) دون وازع أو 
رادع أو حتى داع» فأمست أرضها جمادا. وأبيدت غابات الشمال العراقي بحجة 
مطاردة "متمردين". وجرفت بساتين النخيل للقرى التي عارضت السلطة كما 
في منطقة الدجيل» واستخدمت بساتين نخيل البصرة كجبهات حروب عبثية, 
وأمست بساتين المدن مواقع لإخفاء الأسلحة الثقيلة» وبالنتيجة هدف سهل 
لقصف كل من هاجم العراق.. وما أكثرهم!. وتداعى الأمر أن تصبح أرض 
العراق خراباء ومن أكثر البيئات تلوثاًء وأمسى الإنسان يموت بأمراض لم تعرف 
أو تشخص. وأفاق الناس بعد حروب عبثية مستمرة منذ أربعة عقود بأخم 
محرومون من الكهرباء في بيوت "حداثية" متضامة» فأصابحم الندم على بيوت 
التراث التي عاشت جا أجيال العراقيين» وبنفس البيئة» دون مكيف ولا مروحة, 
وكان السرداب والبادكير والحوش كافي لدرء قسوة القيظ» وقد تبدو امجتمعات 
الإسلامية تئن من الكثير من المشاكل التي تكافئ ما فاق إليه الغرب» دون أن 
تدخل عام التصنيع والتنمية الشاملة. لكن يبدوا أنما بدأت تصحو وتلتفت 
للجانب البيئي بعد الذي تناسته من ضمن الكثير من سياقات الأهم والمهم في 
توجهاتها السياسية والاقتصادية, والنأي عن مبادئ موروثة من التراث» بالرغم 
من إقرارنا أن الجانب البيئي اليوم يعد ترف» فمن يجوع أو يبرد لا يهمه أن 
يقطع شجرة ليبيعها أو يتدفء بنارهاء فسد الرمق والدفء أهم وأولى دائماً. 


56 


6 المكان...فضاء ثقافي 


م 
ه المكان الحضري والأدب 
0 الوجه الآخر لتناشزات المكان 


يعد المكان المديني أسمى ما توصل إليه الإنسان في تنظيم المكان, لذا 
أمست منهلاً لا ينضب في معرفة الفكر والنظام العقلي واللساني 
والأعراف الاجتماعية والعقائد الدينية للأمم خارج الإطار العمراني 
والمعماري والأذواق وفنون البنيان» وأمست تلك الأمكنة سجل الأمم 
ومحفوظ أرثها الحي» وذاكرتًا الملموسة» وتصنف بعضها متاحف شاخصة 
ماكثة مفتوحة» تذكر باستمرار الدنياء حيث يصفها أرسطو بأتما المكان 
الذي يعيش فيه الناس حياة جماعية من أجل هدف نبيل» وقال عنها عبد 
الرحمن بن خلدون: (إن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية 
المطلوبة من الترف ودواعيه, فتؤثر الدعة والسكون وتتوجه إلى اتخاذ 
المنازل للقرار)('). 


وعرف مارتن لوثر المدينة بأنما "المرآة التي تنعكس عليها صورة 
الجتمع"» وقال عنها (إيتالو كالفينو) كلام بليغ بأن لا يشترط بالمدينة أن 
تبوح لك بسر ماضيهاء لكنها تحمل كنهها مقروء مثل خطوط راحة اليد. 


أ عبد الرحمن بن خلدون - تاريخ المبتدأ والخبر - المقدمة 
51١‏ 


وقال عنها برنارد شو "أنما التي تعيش اليوم كما كانت تعيش في عام 
الأمس وستبقى حية في المستقبل". ويصفها الإنكليزي (جون راسكن) بأنها 
كتاب مفتوح من الحجر. ونقول عنها اليوم في خضم تاجن وانفتاح أنساق 
الثقافات بأنما فضاء ثقاني متعدد القراءات» يشي عن صلة متجذرة بين 
الإنسان والمكان. 


مفهوم الثقافة 01110116 يعني من جملة ما تعنيه التصورات الذهنية 
التي يحملها الناس ويحددون في إطارها توجهاتهم في جوانب الحياة» والعمارة 
حك مهم ومة بارزة للحضارة العاكسة لذاتية التجمع البشري في أي 
مكان وزمان» وهي تحمل أبعاداً وهموماً اقتصادية وسياسية واجتماعية 
فضلا عن حملها للبعد الحضاري بجانبيه الروحي المعنوي والاعتباري من 
جهة والمادي الفيزيائي من جهة أخرى» فتعكس كله ثقافة المجتمع. ولا 
يتعامل المعمار مع المكان على أنه لوحة فنية مفتوحة» بل يراه بمنظار عالم 
السياسة الذي يحمل ريشة فنان تشكيلي» وعالم النفس بحيوية رجل أعمال 
وعالم الرياضيات بفكر فيلسوف. وعالم الجغرافيا بموضوعية رجل القانون. 
كما يراها بروح المؤرخ الذي بمسك بقلم الأديب واللساني ليكتب قصة 
وأثر الإنسان على المكان المتجسد في البنيان» محاولاً أن يطأ عوالم مثالية 
فحواها "المدينة الفاضلة" الخالية من الطغيان والعنف» وتلوث البيئة. مكان 
تجتمع فيه القيم الجمالية والروحية في تناغم مع المتطلبات المادية. 


لقد مكثت العمارة تشكل دائما نتاج تفاعل فكري بين أفراد 
وجماعات أي مجتمع وعاكسة حاجاته وقناعاته التي لم تتبلور مرة واحدة أو 


1۲ 


طفحت بالصدفة (كما مدائن الحداثة الخلاسية)» ولكنها تكونت من 
خلال خبرة طويلة مارسها المجتمع. جرب فيها الصواب والخطأ حتى 
تبلورت قناعات شكلت نظم» تسن ها أن توظف ععناصر اتصال بين 
أفراده وجماعاته وتمتعت هذه النظم بسلطة القانون وأطلق عليها اصطلاح 
تقاليد أو أعراف. وثمة حتمية لارتباط العمارة بالفكر والثقافة كناتج من 
وجود حوار متبادل بين ملق ومتلق ليفعّل الجدل والتفاعل ويطور وينظم. . 


إن أكثر القضايا التي لم تحظ باهتمام النخب في الثقافة العربية عموما 
هي العّمارة كظاهرة ثقافية ما همش هذا المتن الثقافي وأبعده عن الحم 
الثقافي رغم أهميته سواء من الناحية الفكرية البحتة أو حتى الاقتصادية, 
فضلا عن تأثيره في جودة الحياة وتطور الذائقة الجمالية للإنسان. ويمكن 
أن نطبق على ذلك مبدأ (كيفما تكونون» يبنى لكم أو تكون عمارتکم)» 
أي أن الوعي بالبناء يعكس سابق وعي» وفقه في شجون المكان والبنيان» 
ومكثت شاهد على شجون الحدث التاريخي؛ فالمدن التي عرفت بكثرة 
قلاعها وحصونًا وبمك أسوارها بنيت في زمن الحروب والغزوات والطغاة, 
والمدن التي تعج بالقصور الفاخرّة والحدائق الغناء قد بنيت في زمن 
الاستقرار والرخاء والإسراف» وملكاتها تعبر عن الرفاهية التي عاشها أهل 
ذلك العصرء إذن فهي شواهد على التاريخ والفكر والحضارة وثقافة 
الشعوب. والمدن التي لا تتضح بين أحيائها السمات الطبقية بجلاء هي 
مدن أقرب للأثر القيمي من المدن الصارخة بالطبقية كما هو الحال في 
مدن الغرب» ولا سيما في الحداثة التي ألبستنا إياهاء ولم تلحظ في تراثنا. 
وجدير أن نشير إلى أن أحياء الأغنياء تطورت وأخذت طابعا خاصا بجا في 

۳۳ 


الغرب منذ قرنين ونيف فقط. أي بعد الثورة الصناعية» وتوسعت طبقات 
المستفيدين من حركة رأس المال والصناعة الذين فضلوا العزلة في أحياء 
بعيدة عن أعين وفضول وحسد الفقراءء الذي ترك لهم مهدوية (الصراع 
الطبقي) ضمن الفكر الماركسي وجدليات وصراعات نزقة أنتجها الغرب 
وابتلينا بتقمصاتا. 


إن مفهوم (الثقافة) له شجون من التعريف تتعدى ما تداولته الثقافة 
العربية, الحصور بالمعرفة المكتسبة الآنية (التغاقف)» بينما حقيقتها تمت إلى 
عالم أعمق وأقدم من الثابت المتراكم والمتراكب من التجربة البشرية في بيئة 
معينة. والثقافة ليست حضارة شرطاًء فئمة شعوب مثلنا لديها ثقافة ثرية 
لكنها تفتقد إلى جذوة الحضارة التي تعني الارتقاء بالحياة إلى مصاف من 
التنظيم والانضباط والرخاء. وثمة تجاذب حاصل بين تلك الحيثيات التي 
ندعوها "ثقافة" والمكان الحضري» من خلال فعل إنسان. وإن العلاقة 
بينها هي أشبه بقطبين أو مركزين متواصلين» تتحرك على مساره المفردات 
الحضارية» فأصبحت المدن مصنعا يقوم فيه البحث عن الحرية» ومهوى 
المتطلعين للحياة الحضرية (') 


٤‏ - مصطفى عباس الموسوي: العوامل التاريخية لدشأة وتطور المدن العربية والإسلامية» وزارة 
الإعلام والثقافة بالجمهورية العراقية - بغداد ۱۹۸۲ ص5١.‏ 
1٤‏ 





المكان الحضري والأدب 


وبمكن أن يسجل الفضاء الحضري المفتوح أحداث الحياة بكل 
انطباعاتها وتأثيراتها رغم ثمة أسرار دفينة في المدينة» وثمة مجال دائماً لإبداء 
الرأي وإضافة الكثير على الواقع» حت المادي منه وهو ما يحتاجه الأدب 
الروائي. والصور التي تنقلها الرواية تدوينياًء هي ذات نافذة مفتوحة على 
الخيال» لتصنع "المكان المفتوح" على التأويلء كما أن الرواية تمثل حالة من 
التداخل الشديد بين المكان المادي والشخصيات الخيالية» فهي تدفع 
ببعض الحقيقة المادية من أجل فتح الاحداث برمتها على الخيال. 


وني المكان الحضري هناك شيء غامض يصعب فهمه كلياً» ويمكن 
للرواية أن تسجله بتفاصيل شخصية للراوي» يصعب على المعمار رصدها. 
ونعلم في مسار المنتج الأدبي الإنسان» أن المدينة شكلت حيّزاً أو فضاءً في 
الإبداع الأدبي والشعري, واحتلت موقعا متميزا في بؤرة الاهتمام العلمي 
والجغرافي والهندسي والفني. ويأخذ مفهوم الفضاء هنا أربعة أشكال هي: 
الفضاء الجغراني المكاني» وفضاء النص» والفضاء الدلالي» والفضاء المنظور. 
وميّر تمييزاً نسبياً بين الفضاء والمكان, فالفضاء شمولي يشير إلى المسرح 
الروائي بكامله» والمكان بمكن أن يكون متعلقاً فقط بمجال جزئي من 
مجالات الفضاء الروائي, غير أن المكان شديد الأهمية كمكون للفضاء 
الروائي, لأن الأمكنة بالإضافة إلى اختلافها من حيث طابعها ونوعية 
الأشياء التي تحويها تخضع في تشكلاتها إلى مقياس آخر مرتبط بالإتساع 
والضيق أو الانفتاح والانغلاق, فالمنزل ليس هو اليدان» والزنزانة ليست 


1° 


هي الغرفة» لأن الزنزانة ليست مفتوحة دائماً على العام الخارجي بخلاف 
الغرفة» فهي دائماً مفتوحة على المنزل, والمنزل على الشارع» وكلّ هذه 
الأشياء تقدم مادة أساسية للروائي لصياغة عالمه الحكائي» حتى أن عمارة 
المكان تساهم أحياناً في تقربب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد 
١ ۰‏ 

بينهم ( ). 


وتبدو نظرية "التقمص العاطفي" رابطا مهما يجمع بين الحدث الذي 
تم به الرواية بكل جوانبه الاجتماعية/ العاطفية وعمقه الإنساني وبين 
المكان الذي هو أساس العمارة الذي يحتوي الحدث ويعرفه ويصنع له 
إطاره البصري. ويقول المعماري (السير دينيس لاسدن) 10005 511 
7) «uلءه)‏ أن "المكان هو أنمن شيء بمكن لأي واحد أن يقدمه 
لأي إنسان باسم العمارة". وهو الأمر الذي يؤيده الفيلسوف (هنري 
ليفبفر 1974 ع511ع1.61 )Henr1‏ عندما أكد أن "أي تعريف للعمارة 
نفسهاء يتطلب تليلاً مسبقاً وعرضاً لمفهوم المكان". ومن الواضح أن 
المكان كمشكل للفضاء البصري/ الحياق له تأثيره العميق على مخيلة كل 


إن فكرة المكان لم تتطور من الناحية المعمارية إلا بعد أن أصبح فن 
الرواية معروفاء فمصطلح "المكان" Space‏ 0 يكن معروفا في الكتابات 
المعمارية قبل عام ١۱۸۹م»‏ وأصبح مهما كجزء من حركة الحداثة 


١ 


الدكتور عبد الله أبو هيف جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر مجلة جامعة تشرين 
للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية الجلد (۲۷) العدد ”٠٠28)1(‏ 
515 





المعمارية مثل مصطلح "الشكل" 1017 و"التصميم" 1265157 لذلك فإن 
ربط فكرة "المكان" بالرواية ها ما يبررها من الناحية النقدية؛ فالرواية 
الحديئة في الغرب هي نتاج لمولدات الحداثة في القرن الثامن عشرء أي 
بداية مع التحضر والمدنية التي سبقتها النهضة الأوروبية» وكان ظهورها 
ترجمة لظهور الطبقة الوسطى في المجتمع, وإمكانية التعبير عن همومها 
وإشكالاتها('). 


ويذهب شاكر النابلسي إلى "أن الرواية العربية المعاصرة قد ظهرت 
كما هو الحال في أوروباء مع ظهور الطبقة الوسطى, وتشابك العلاقات 
بين جماعات هذه الطبقة. سواء كان ذلك في المدينة, أو في البلدة أو 
القرية. وبما أن البيئة التي ترعرعت فيهما الطبقة الوسطى» كانت بالدرجة 
الأولى المدينة» ثم البلدة, ثم القرية فقد كان هذه الأماكن الثلاثة حضور 
مالي واضح" (") 


ونجد الإبداع الروائي قد اخترق التاريخ قبل أزمنتنا الحديثة» فقد كتب 
السومريون ملحمة گلگامش» والإغريق إلياذة هوميروس» والفرس 
الشاهنامة. وكل تلك الأعمال الأدبية مترعة بملامح الفضاء المديني التي 
انبتقت منها. وورد في التراث العربي مسترسلاًء توثيقا لتلك الآصرة 
المتراكمة بين اللّغة والعمارة والأدب والمدينة. حيث ورد في "الليالي العربية" 


أ د.مشاري النعيم - مقال المدينة والادب. 
" د.شاكر النابلسي - جماليات المكان في الرواية العربية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - 
بيروت .١19985‏ 

۳1۷ 


إشارات لبيبة لذلك التواشج من خلال امي بطليها شهريار وشهرزادء 
وما كلمتان مركبتان كل منهما تحمل اسم (شهر) التي تعني بالفارسية 
المدينة؛ فاسم شهرزاد يعني ابنة أو وليدة المدينة» واسم شهريار يعني رفيق 
المدينة. ومن الطريف أن تلك القصص التي زيد عليها وحورت وزورت 
مرات بحسب الأهواء والآراءء أمست تُشكّل دلاله مدينية» تعج منها 
مات "الفساد" حتى حوكمت في مصر إبان المد الأصولي عام 2.١9/28‏ لما 
تحمله من إيحاءات "جنسية"» أو رعا كان تحمل دلالات أعمق لصراع أزلي 
بين عقلية المدينة والبادية التي مثلها الفكر الديني السلفي دائماء والتي ركز 
من خلاها على الفساد الجنسي دون غيره من بؤر الفساد» ولا سيما في 
السياسة المترعة بالنخاسة!. 


وربعا أثبتت الأحداث الأخيرة في مصر والعراق وغيرها من الدول 
الإسلامية» بأن القوى السياسية المتبرقة بالدين هى المكافأة أو الأكثر 
فساداً من غيرهاء ودليلنا أن السلطات الدينية في العراق جعلته على رأس 


قائمة الأفسد في العالم. 


ونقرأ سياقات لإيحاءات أو قراءات ثقافية في كنف الليالي كما في 
مؤلفات الدكتور د عبد الرحمن يونس با يتعلق بالملامح الثقافية 
والاجتماعية والسياسية الواردة في متون الليالي الذي راجعته إيمان أحمد 
ونوس .)١(‏ وكذا تأثير الف ليلة وليلة في المسرح العربي الحديث والمعاصر 
بالاشتراك مع الدكتور منذر رديف العاني ورجاء إبراهيم سليمان» وعبد 


:3 صدر عن مؤسسة الانتشار الأدي 2 بيروت/ لندن ٩۹۹۸‏ ١م.‏ 
1۸ 


الكريم شعبان('). وكذا كتاب الاستبداد السلطوي والفساد الجدسي في 
ألف ليلة وليلة ('). وتدور تلك الدراسات حول ملامح الحياة الثقافية 
والسياسية في المدن الذي عدّها جوهرية في حكايات "ألف ليلة وليلة" 
وهي: (بغداد, البصرة» دمشق» والقاهرة» وبعض مدن إقليم خراسان) ثم 
تأ الإسكندرية وحلب بعد ذلك, إضافة لغيرها من المدن الفرعية الأخرى 
أو الأقل مركزية» ويتناول وبشيء من التفصيل والدراسة التحليلية دور 
المرأة في حكايات ألف ليلة وليلة سواء أكانت (حرّة أم جارية) وعلاقتها 
بالقصور والرجال في هذه القصورء ودورها الفاعل في تشكيل العلاقات 
السياسية والاجتماعية» ومن خلال هذا الدور يدرس طبيعة العلاقة بين 
الحاكم والمحكوم وبنيتها في المدن المذكورة. 


وقد لت هذه الحكايات من بنية الواقع بعلاقاته وعاداته ومكوناته 
الفكرية» ولا ينفي أن تكون الحكايا رصداً أنثربولوجياً لحضارة الجماعات 
البشرية بأزمنتها وأمكنتها التي من الحتمل أن يكون بعضها متخيلاً بفعل 
الخبرات المعرفية للرواة الذين قرأوا كثيراً من معارف عصورهم والعصور التي 
سبقتهم أو حفظوها بعد أن سمعوها شفاها وقد تكون حقيقية» بل هي 
أقرب إلى الحقيقة منها إلى التخيّل'"("). 


أ صدر عن دار الكنوز الأدبية- بيروت-عام .١9498‏ 
' صدر عن الدار العربية للعلوم . ناشرون / بيروت» ومكتبة مدبولي » القاهرة , عام ۷٠٠٠م‏ 
۳ الدكتور ج عبد الرحمن يونس- الملامح الثقافية والاجتماعية والسياسية في الف ليلة وليلة- 
ص . 
۳1۹ 


وقد أثار الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض فكرة الحيز أو الفضاء في 
نقده التطبيقي لأول مرة بمثل هذا العمق والشمولية. ولا سيما كتابه (ألف 
ليلة وليلة: تحليل سيميائي تفكيكي لحكاية حال بغداد) (الجزائر 
۳) وقد استفاد في تحليله من إنجازات علم السرد عند جينيت على 
وجه الخصوص. وبدأ تحليله بأن حكايات ألف ليلة وليلة أزخر الآثار 
الإنسانية بالتنوع في الحيز والتنوع في الفضاء والغرابة في المكان» ويلاحظ 
التقارب بين ألفاظ (الحيز) و(الفضاء) و(المكان) في تطبيقه النقدي. ولعل 
مفهوم (الحيز) عنده ممائل لمفهوم (الفضاء), وإن وجد في (الحيز) قابليات 
تحديده لفضاءات النص المكانية» فقد درس الحيز من عدة مستويات هي: 
الحيز الجغراني» والحيز الشبيه بالجغرافي. والحيز المائي, والحيز المتحرك, 
والحيز التائه. والحيز الخراني» والحيز العجيب الغريب» على أنه لم يقصر 
الحيز على أطره المتعددة والمتنوعة» بل نظر إليه ضمن المنظور السردي 
برمته» بوصفه حركة بالنسبة لأهم الشخصيات المركزية في هذه الحكاية, 
فوجد (أن حيز ألف ليلة وليلة طليق واسع لا يكاد يشكو من ضيق ولا 
من انحصار, فالعفاريت تميّر فضاءها وحيزها في حرية مطلقةء (لنلاحظ 
التقارب بين اللفظين!) كما نجدها قادرة كل القدرة على الغوص في أعماق 
الأرض واتخاذها مثوى جيلاً للعشيقات المختطفات شأن العفريت 
جرجريس. ورأى مرتاض أن الحكايات تميل إلى اصطناع الحيز المستحيل 
والحيز البعيد الذي ل يره أحد قط كجبل قاف العجيب الذي نجده يتردد 
في هذه الحكاية عدة مرات» وهو يذكر في موطن القدرة على الوصول إلى 
هذا الحيز العجيب الذي تتحدث عنه الحكاية الخرافية والكرامات 


۲۰ 


الصوفية, فهو حير مستعصم إلا على عتاة العفاريت, وأكابر الأولياء من 
الأقطاب والإبدال. 


فأكبر خاصية إذن يختص بما هذا الحيز في ألف ليلة وليلة هي التحييز 
الأسطوري» لا التحييز الجغرافي أو المكاني, أي الحيز المستحيل الذي يكون 
فوق طاقة البشر )١(‏ وهذا المنهج النقدي الذي اتبعه مرتاض يأخذ ببعض 
معطيات النقد: السيميائي والتفكيكي. 


ولابد من الإقرار بأن الليالي العربية ضرب من الطرق الأدبي الذي 
يدعى (الأمالي). حيث قرأنا عن شخصية يدعى صاعد البغدادي مؤلف 
كتاب (الفصوص). الذي رحل إلى الأندلس وعلم أهلها كيف يسترسلون 
بالفكرة على طريقة (الأمالي) أو ما دعي (النوادر) العراقيةء أو كما يسميها 
ا مغربي الدكتور عبد الوهاب سعود التازي بكتب (الأنس والدرس) وهذه 
المنهجية بالسرد تحاكي ملحمة گلگامش وملاحم سومرية وبابلية وآشورية, 
وشجون قصصها المتداخل. ونفس الأمر ظهر بعد قرون في لف ليلة وليلة 
التي كتبت في الحقبة العباسية» استرسالا هذا الطرق القصصي المحلي 
المتكرر. ونجد الإجادة في مثل هذا الضرب في علاقة الثقافة بالمكان في 
الثقافة الشعبية دائماً كما في سياق (القصخون)(') في العراق أو 


١ 


الدكتور عبد الله أبو هيف جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر مجلة جامعة تشرين 

للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية الجلد (۲۷) العدد ”٠٠28)1(‏ 
قصخون, متراكبة من كلمتين هي (قصة) العربية و(آخون) وهي فارسية وتعني قارئ» ومعناها 

إجمالاً قارئ القصة. ونجدها في (روزخون) أي قارئ كتاب الروضة (روضة المؤمنين)..اخ. 

Hh 


(الحكواتي) في الشام أو (القوّال) في المغرب» حينما يسرد رجل موهوب 
اللسان الملاحم البطولية وسير المدن كما الليالي أو تغريبة بني هلال أو 


بيبرس أو عنترة. 


وطريقة الأمالي هذه يمليها الشيخ على مريديه أو تلاميذه. ويدونون 
عنه فيظهر على يديهم كتاب عنهم فيه استرسال متشعب واستطراد 
للفكرة وحيثياتهاء وهو ما يدلل على الثراء الذهني والمكتسب التراثي 
للمجتمع المكاني» حتى ليجد الكاتب نفسه مشتتاً بين شطط الأخبارء 
يسهل على الشيخ قوهما على تدوينها. وهو نفس الأسلوب والمنهج الذي 
سلكه (طوق الحمامة) لابن حزم الأندلسي أو (البيان والتبيين) للجاحظ 
البصري ("5١-هه”‏ ه /8.6/ا-859م) بيد أنه لم بمليها على 
تلاميذه» بل كتبها بنفسه. ونجد به الكثير من سمات العلاقة بين المدينة 
والثقافة. ونجزم في هذا السياق أن الباحثين عن الحداثة وفكرها وتشعباتًا 
أجدر يحم قراءة ما أنتجه فكر الجاحظ والتوحيدي وابن عربي وابن 
مسكويه(') ففي جنباتا الكثير من نفحات الحداثة والأنسنة والحس 
الحضاري والسرد المديني. 


إن فن السرد المكاني الحديث جاء استرسالا من ميراث الشرق القديم 
حتى قبل بزوغ عصر الإسلام» فكان "گلگامش" سابقا للإلياذة والأوديسة 


1 ابن مسكويه هو أبو علي أحمد بن غك بن يعقوب بن مسكويه (۳۰-۹۳۲ ۰ 1(« هو فيلسوف 
ومؤرخ وشاعر إيراني الأصل أصله من مدينة الري(طهران حاليا) في إيران. كان ناشطاً في الميدان 
السياسي زمن الدولة البويهية» وعمل مدة طويلة موظفاً رسمياً في بغداد. 

TTY 


بليس أقل من ألفي عام» أما "الليالي العربية" فقد سبقت الأدب الغربي 
الروائي بحوالي ألف عام» وكانت سببا محفزا وموحيا في ارتقاء الفن الروائي 
الغربي الذي نضج حينما أفل الشرق الحضاري وجاء على أعتاب خفوته» 
ول يكن (روبدسن كروسو) موجودا إلا بعد أن قرأها كاتبها من أصلها (حي 
بن يقظان) لابن طفيل الأندلسي, ولم تكن (الكوميديا الإمية) تخرج للنور 
إلا من جراء قراءة دانتي الأليكيري لرسالة الغفران لأبي العلاء المعريء ول 
يكن دونكيشوت لسرفانتس الإسّبانن إلا إيحاءات فلسفية آتية من عمق 
تراث الشرق ومسترسلة في التراث العربي الإسلامي المغاربي. 


وكما لا يمكن أن تنشأ فنون دون نظرية حمالية للفن كما الفنون 
الإسلامية, فإنه لا بمكن أن تنشأ رواية دون مكان مديني كمولود بار 
للأعراف الفكرية ليراث الحياة الحضرية, فكانت أريحا وأوروك وأور وطيبة 
وبعلبك حتى توجها الإسلام ببغداد والقاهرة وفاس. 


وكان هذا الدفق قد وطأ النضوج في الأزمّنة الحديثة» واخترق الأدب 
الغربي إجمالا وتجسد في سيرة (جان فال جان) في قصة البؤساء لفكتور 
هوگو وصور بنية باريس التحتية ومسالك مجاريها. وكذا في قصة بين 
مدينتين لتشارلز دیکنز 10101625 في روايته (قصة مدينتين 02 م ]هاه 
ناء 077)) حيث يرى ديكنز أن البيوت الممتدة في شارع هي كما 
مسرحية أو اجتماع لشخوص بعينهم» كل بيت يتكلم بذاتية أحدهم. وة 
وصف مديني لديكنز لمدينة شروبري القديمة في إنكلتره من خلال نظرة من 
نافذة فندق الأسد» حيث كتب: (من النافذة أستطيع ان أنظر إلى أسفل 


5 


التلء وإلى الجوانب لأرى البيوت البيضاء والسوداء البالغة الاعوجاج, فهنا 
تلتقي بكل الخطوط ماعدا الخطوط المستقيمة). فمن يزور إحدى المدن في 
شروبشير» ولاحظ بيوتها الخشبية على الطراز التيودوري المطلية بالقطرانء 
سيتذكر ذلك الانطباع الذي تتركه الخطوط السوداء العريضة على الخلفية 
الخلفية البيضاء, وهذا ما جعل ديكنز يرصد أشكالا وليس شخوصا(). 


يحتاج المكان في المدن الكبيرة إلى من [ ] يكتب عنه مثلما حاجتها إلى 
مَنْ يعمّره» ليس كاتب المدينة هامشاً ملحقاً| | بالمدينة إلا في المدن التي 
يحكمها برابرة طغاة, لأن الكاتب قادر على خلق مدينته من[ ]أنقاضهاء 
بل من لا شيء كما فعل "برس" في "أناباز" وكما فعل "كالفينو" في 
"مدن[ ]لا مرئية" وماركيز في سائر رواياته التي خلق با "ماكوندو". أو كما 
فعل| ]فولكنر قبلهم في مدينة "يوكنا باتاوفا" التي لا وجود لما إلا في 
عبقربة| ]مدؤناته | ] وهناك المدن التي ظلت كبيرة موشومة أسماؤها في 
ذاكرة| ]العام مع أن برابرة حكموها وكرهوها فلم يتعبوا أنفسهم في وضع 
آجرة (طابوقة) واحدة| الإعمارهاء مثلما بغداد اليوم التي تعتاش على 
اسمها الذي رفعه كتابما عالياً فوق كراهية[ |البرابرة والحتلين والطغاة, 
والبصرة كذلك لم يبق منها "بعد خراب البصرة " سوى عمران| | كتابيّ بناه 
مواطنوها الأبديون ومحبوها الذين عمروا المدينة في ظلّ سلطة[ | الهدامين. 
ونجد الأمر عينه في قاهرة نجيب محفوظ في شوط بين قصرين يبحث عنه 










































































1 1959- London- Experiencing Architecture -Seen Eiler 
Rasmussen. 


AE 













































































كل من يزور القاهرة, أو زقاق المدق أو الحارة التي كتب عن أولادها.. 
اح لقد بنى خڅ خضير مغلاً يوتوبيا مدينته البصرة. في[ ]"بصرياثا", 
ويوتوبيا المستقبل في عديد من قصصه» فهل فعل ذلك هرباً من الحاضر أم 
من | آرثاثة المدينة في ظلّ هيمنة قوى الارتكاس التي تكره إعمار المكان 
كراهيتها| ا لإعمارها كتابياً؟ أو تنميق الخراب دعائياً. وخداع الحاضر 
ليتفاجاً الناس في الغد عن مدى الدمار الذي جرى على المكان» لكن 
الحقيقة هي أخرى فالخراب كان واستمرء بخراب الإنسان 


























ومثلما هدمت البصرة إبان الحرب العبثية بين صدام وخميني. في 
ثمانينات القرن العشرين وحرب اجتياح صدام للكويت ۱۹۹۱ء أو مدن 
قناة السويس التي هدمها الإسرائيليون المغتصبون كما صورها محفوظ في 
(ثرثرة على النيل) كمدعاة استفاقة وناقوس خطر الدمار المبرم الآ. حيث 
يبقى المكان المديني مادة خصبة في الأدب الروائي للحروب» كونه أكثر 
مكان تتطلع له الجيوش في غايات إذلال العدو واحتلاله في عقر داره» 
حتى أمست احداث احتلال الحواضرء مادة أدبية وشعرية وسينمية 
ومسرحية غزيرة» وتصبح بؤرة لويلات الحروب, والمتضرر الأكبر بالمقارنة 
مع أي مكان آخر. حتى تصبح العَمارة في جنباتًا هي الخاسر الأكبر بعد 
خسارة الأرواح في خضم عبثية يحرق في أتوتما الأخضر واليابس وتصلى في 
خضمه نفحات الجمال وتدمر مات الإبداع الإنساني مأسوف عليها. 
ونجد شاعرا صينيا يدعى (تو فو) وصف المدينة بعد حالة الاحتلال 


والدمار منشداً: 


o 


























في البلدان الحتلة 

تبقى التلال والجداول قائمة أبدا 

وة ربيع للمدن 

حيث يتكاثر العشب والأوراق 

مع أنه في أوقات كهذه 

قد تذرف الأزهار الدموع 

مفارقة الأحبة 

العصافير تغرّد فريسة المخاوف الخفيّة 

وني المنتج الروائي العربي الحداثي, نجد سردا للحواري والأزقة في (بين 
القصرين) لنجيب محفوظ التي شل الجزء الأول من ثلاثية تسرد حياة 
القاهرة الفاطمية في بداية القرن العشرين. وفي السياق نجد (مدن الملح) 


للسعودي عبد الرحمن منیف› وتتضمن هذه السلسلة حمسة أجزاء هى: 
تقاسيم الليل والنهار, بادية الظلمات. المنبتء» التيه. الأخدود(' ). وتأت 


١ 


عبد الرحمن منيف (۱۹۳۳ - )5١١84‏ ولد لأب سعودي وأم عراقية» وقضى مرحلة الطفولة 
والصبا في العاصمة الأردنية عمان؛ و لم يعش في السعودية التي حمل جنسيتهاء بعد أن غادر الأردن 
للدراسة» بل عاش في بغداد وباريس ودمشق بقية حياته. وتصنيفه روائيا سعوديا جاء على أثر 
موضوعات رواياته. في بداية مشواره الأدبي حيث كنب عبد الرحمن منيف روايتين تجريبيتين وضعتا 
امه بين الروائيين العرب البارزين في سبعينيات القرن الماضي؛ فقد حاول منيف في "شرق المتوسط" 
و"الأشجار واغتيال مرزوق" أن يرى جذور انحطاط العرب وهزعة 21941 من خلال قراءة التاريخ 
القربب للعرب بعد الاستقلال. 

كس 


هذه الخماسية لتؤرخ وتروي في شبه أسطورة لمدن ال ملح بالخليج العربي؛ 
تلك المدائن التي انزاحت من عالم الصحراء لتصبح عالماً آخر تنبعث فيه 
رائحة النفط التي تخدر أحلام ساكنيه وتنقلهم نقلات متسارعة يتخبطون 
عبرها بين الوهم والحقيقة» مساحات طويلة يعبرونها بأزمان قصيرة ينتقلون 
خلاها من عالم البداوة إلى عالم الحضر. في ذلك العالم يصور عبد الرحمن 
منيف لوحات إنسانية واجتماعية تحدث بنفسها عن أثر النفط في بلاد 
النفط العربية ويروي مأساة الحداثة المفاجأة في هذه المناطق. 


وثمة الكثير من المنتج الروائي العربي المتضمن لسرد مدائني ومنها من 
تحول بسلاسة إلى منتج سينمي في بلدان شحيحة بمذا المنتج كما في 
العراق» مثل فيلم (الأسوار) المأخوذ عن رواية الأديب (عبد الرحمن 
الربيعي) الموسومة (القمر الأسوار) في عام ١919‏ حزيران يونيه» رغم 
إملاءات السلطة الشمولية في حينهاء مما شوه بعض محتواها الذي أراده 
الكاتب. 


وتعدت الرواية المدينة لتفصل في العمارة وإيحاءاتهاء وثمة رسوم بيانية 
تقطع المبنى أفقيا أو عمودياً لتكشف المخفي في الحركتين الأفقية والعمودية 
للناس. وكان مشهد عمارة متصدّعة وشيكة الاهيار هو إرهاصة رواية 
"عمارة يعقوبيان" بعدما استوقف علاء الأسواني منظرُ عمارة منشطرة 
رأسيًا. شطرٌ منها انار وسقط بينما ظلّ الآخر سامقًا يبكي نصفه. توقفت 
عين الكاميرا داخل الأديب لتنصت إلى بكاء قطع الأثاث المهجورة على 
الطلل؛ هنا كان المكان عامراً بالبشر, هنا كانت مفردات الحياة كاملة» 


¥ 


جماها وقبحهاء تمردّها وضعفهاء لحظات ميلادٍ موت» عرس وفراق» تأمل 
وانزام وربما قتل. قطع الأثاث التي عنقت من العبودية بزوال المالك 
وانتفاء سبب الملكية» تحمل ذاكرة المكان. وتحكي بمرارةٍ لوحة أجناسية 
(بانوراما أنثروبولوجية), تتقاطع معها المغرافيا والتاريخ. 


تلك التقنية استثمرها كتا كثيرون, أعني القبض على بقعة صغيرة 
فوق المعمورة» وتشريح الإنسان الذي استعمرها حقبة من الزمن» من 
خلال سبرٍ مناطق النور والظلام داخله ومناطق القوة والضعف عبر الحدث 
وأمثلة ذلك كثيرة» مثل "سفينة" جبرا إبراهيم جبرا و"أمواج" فرجينيا 
وولف" و"سكة سلامة" سعد الدين وهبة» و"فضيلة" المنفلوطي وغيرها. 
يسعى الكاتبُ دائما في كل عمل إبداعيّ إلى استخلاص نقاط النور من 
العتمة» ورصد البقع السوداء في الثلج. وتذهب بعض الرؤى الفلسفية أن 
للأشياء الجامدة ذاكرةً وطاقة تختزنان داخل ذرَاتا الصامتة, بل تتجاوز 
ذلك بعض الدراسات التي تحاول إثبات أن كل كلمة وهمسة وزفرة تمت 
فوق الكوكب منذ نشأته لم تتلاش ولم تندثر» انطلاقا من قانون نيوتن 
"الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من عدم" والصوت طاقة. ويمكن التقاط 
كل الحوارات التي دارت في سكون المدينة وصخبها لدهمائها وثقاقاء 
تتقاذف ذبذباتًا الحيطان مترددة منذ أزمنة غابرة» ليسجل للمدينة وظيفة 
حفظ السجلات الصوتية للبشر. 


لقد بحث الفلسطينى غالب هلسا في ثيمة (المكان في الرواية العربية 
- دمشق )١9894‏ وأثار أسئلة تتعلق بجماليات المكان عامة» وضمن 


۲۸ 


الفهم الباشلاري بخاصة, لقد رأى هلسا المكان» معزولةً عن الزمان 
والحركة, ووجد (أن المكان هو العمود الفقري الذي يربط أجزاء الرواية 
ببعضها البعض). ثم انتشر بعد ذلك الولع بدرس المكان وحمالياته وشعريته 
حسب الممارسة النقدية هذا الناقد أو ذاك, فوضع التونسي عبد الوهاب 
زغدان كتابه (المكان في رسالة الغفران: أشكاله ووظائفه) (صفاقس 
6»؛ وعالح العراقي ياسين النصير (إشكالية المكان في النص الأدبي) 
(بغداد )١985‏ ولا يلتزم فيه أيضاًء شأن هلساء عنهج معين» ويتضح 
ذلك بجلاء في كتابه اللاحق (جماليات المكان في شعر السياب) (دمشق 
65 فقد غلبت على لغته النقدية خصائص من التحليل والتأويل 
على صيغة القراءة التاريخية الشارحة كما في هذه الخلاصة: (هذا الإطار 
الجغرافي هو إطار شعري قصصي موروث لا وعي جمعي تكوّن عبر 
ممارسات أقوام عاملة. وتجمع فيه الماضي بأسراره وخفاياه وأساطيره وحروبه 
وغزواته وانتصاراته وفتوته والحاضر عا بمتلكه من قوة مد ودفع وإدامة 
وتغيير) ويفصح نقده عن أسلوبية التحليل القائم على التأويل اللغوي 
الشارح(') 


وإذا كان للروائيين والشعراء العرب» شأهم شأن الغربيين» مواقف 
محددة من مكان ومكانة (المدينة) التي يشخصونًا في أعمالهم الروائية, 
متباينة بين الرفض والمعاداة والنفور والتضايق من المدينة والكراهية المطلقة 


١ 


الدكتور عبد الله أبو هيف جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر مجلة جامعة تشرين 
للدراسات والبحوث العلمية _ سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية الجلد (۲۷) العدد ”٠٠28)1(‏ 
584 





لحاء وذلك إلى درجة يصفون فيها المدينة أحياناً "بالعاهرة" وبكونما عدوة 
الإنسان, ومنهم غالب هلسا ودوستويفسكي وجويس وتولستوي('), ففي 
مناخات حروب أوروبا الطاحنة» وصولاً إلى الحرب الكونية الأولى» تفشى 
اليأس والإحباط لدى مبدعي الغرب» الذين شهدوا بأم أعينهم ماكينة 
الرأسمالية المسعورة» ماكينة التقدم العلمي والتقني» وهي تتجه صوب 
البشرء وتطحن لحوم الشعوب والأمم» وتطأ بأحذيتها الملطخة بالوحل 
وغبار البارود والدمار أحلامهم الإنسانية الطرية, وتحول دون تحقيق كل ما 
هو جميل وطيب. وحتى حلم العيش بسلام. لقد شهد هؤلاء المبدعون 
النتائج الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية للحرب. شهدوا التشرد والفقر 
والمرض ودمار المدن وضياع الشعوب وقهر الأمم المغلوبة» واستباحة 
الأوطان وحرق خضرة الأرض وحجب غيوم السماء والشمس والقمر 
بسحابة كثيفة من رماد العلم الأسود. وني غياب المنظومة الأخلاقية 
الرادعة لهذا الموس الغربي الدامي» نكص مبدعو أوربا الرومانسيون عن 
المشاركة في الحياة العامة للمدينة (مركز الشر) لنظرهم» ومطبخ الحروب, 
ومصنع الدمار.. فراحوا يلعنونها ويبحثون عن البديل» عن محطات للراحة 
والاستشفاء والتوازن النفسي من أثر ذلك المشهد الدموي المرعب» الذي 
يعكس قدرة الإنسان اللا متناهية على ممارسة الحقد والجريمة, واستمراء 
البشاعة على أنمها "وطنية" أو "قومية". 


' كان أعداء بابل يطلقون عليها (بابل العاهرة)؛ بغل يعكس ضغينة على ترفها ورقة طبع أهلها 
وثقافتهم وتجملهم, كما ذكر ديورانت ول في قصة الحضارة. 
r.‏ 





وهكذا وجد المبدعون "الرومانسيون" في العودة إلى الأرض والارقاء 
في أحضان القرية الطاهرة. والطبيعة الحانية» ونموذج الريف الوادع ملاذا 
هم. هرباً من ذلك المشهد البشع للمدينة؟!. مركز التهديد الصارخ 
لإنسانية الإنسان المبدع الرافض للمشاركة في الحروب» وللمنطق 
الاستغلالي البشع للنظام الرأسمالي الاستعماري في مرحلة الكولونيالية('). 


وراهن روائيون آخرون على المكان (المديني) كفضاء يجسد أفقا آخر 
لتشخيص التحولات العميقة الطارئة على الذات والمجتمع. بناء على ما 
يوفره من إمكانات كبيرة للتشخيص والتخيل والتعبير وبلورة الدلالات 
والمعاني» كون المدينة» تتجسد ك (عالم خصب مليء بالنماذج الإنسانية 
والحياة والمفارقات» يستطيع الإنسان إذا رصده بشيء من القبول أن يجد 
فيه عوالم لا حد ها من التجارب, وإذا كان لا بد أن يدين الحياة في المدينة 
فإنه لا يستطيع أن يدينها من خلال انطباعاته لعوالمها المختلفة» لا عن 
طريق التقرير المباشر والرفض الكلي منذ أول وهلة) ("). إن كل ذلك قد 
لا يبرر سوى كون المكان المديني أصبح يشكل مفهوما جديدا للكينونة, 
وموضوعا شائعا للرصد والاستيحاء والتشخيص والتأمل» ورمزاً متعدد 
الإيحاءات والاستعارات والمعاني. وفضاء مفتوحا على تجدد التأويل وإنتاج 
الدلالات. 


' سليمان الأزرعي - لعنة المدينةء دراسات في القصة الأردنية - منشورات اتحاد الكتاب العرب - 
دمشق ۲۰۰۱- ص6. 
' د.مختار علي أبو غاليء المدينة في الشعر العربي المعاصرء سلسلة عالم المعرفة, عدد 2195 
الكويتء أبريل ©ه99١.‏ ص۷۷. 

۲۳١ 


وإذا كان بعض الروائيين والشعراء العرب» شخصوا في نصوصهم 
الروائية والشعرية جوانب من تلك الصورة الرافضة للمدينة, كوا صورة 
للاغتراب والضياع والأسى وفقدان التواصل مع المجتمع المديني المحكوم 
بسرعة الحركة وعدم التجانس وانفلات العلاقات الاجتماعية فيه أمام 
هيمنة النزعة الفردية» بحيث يصبح الريف أو القرية لدى بعضهم ملاذا 
للاحتماء من صدمة المدينة» ومن زيف العلاقات وغربة الموت فيهاء فإن 
هذا الانجذاب الجديد بين الروائي والمدينة يتخذ عدة أوجه للائتلاف» منها 
ما هو وجداني وحنين ماضوي "نوستالجي". ومنها ما هو تاريخني وسياسي 
واجتماعي» ومنها ما هو ثقافي وفلسفي وجمالي» وذلك بحسب طبيعة 
التحولات الطارئة في الفضاءات المدينية('). 


فالشعراء العرب في الجاهلية منذ امريء القيس» مرورا بأبي نواس وابن 
الرومي والصوفية في العصر العباسي» وابن حمديسى وابن زيدون وأبي 
البقاء صالح الرندي في الأندلس» ووصولا إلى شعرنا المعاصر من أحمد 
شوقي وحافظ إبراهيم والجواهري والرصافي وحتى بدر شاكر السياب ونزار 
قباني وغيرهم, ل يدخروا وسعاً في رسم صورة ثقافة المكان, والتي هي في 
الواقع نتاج الفكر والعقل الإنسان في هذا الحيط. 

وثمة رصد أدبى جميل للثقافة الحضرية مدن الشرق كتبته المؤلفة 
جينيفر سكيرس في کتابجا الذي صدر عام ١995‏ بعنوان 
١‏ عبد الرحيم العلام-مقال (المدينة فضاء إشكالياً في الرواية المغربية)-مجلة نزوى العدد ١ه‏ 


يوليو ۰۰۷ ۲- مسقط 
لحرن 





0111 CULTURE IN THE MIDDLE EAST" 
حيث نكتشف من خلاها الحيط الداخلي للمنزل" وعلاقته بالعقلية وطبيعة‎ 
امجتمع والإنسان في زمان ومكان معينين (مصر وتركيا وإيران) من خلال‎ 
رصد المنزل أو الحياة العائلية والاجتماعية والعامة» حيث تقدم جينيفر‎ 
سكيرس وصفا للحياة اليومية في امجتمع الإسلامي في نمايات العصور‎ 
الوسطى وبدايات العصر الحديث» وتحديداً في الفترة الممتدة من القرن‎ 
السادس عشر وحتى التاسع عشر الميلادي» أي ما بين أوج نضج ثقافة‎ 
هذه الجتمعات» وبداية النهاية واضمحلاها أمام تزايد التأثيرات الأوربية‎ 
الفكرية والفنية» غير أتما لا تقدم تفصيلا لشرائح المجتمع في هذه المدن‎ 
التي تغلب عليها الشريحة المسلمة, وتعيش في كنفها الشرائح المسيحية‎ 
واليهودية. وهي فترة مبهمة حدثت خلاها فجوة وانتقالة بين هبوط‎ 
التدوين الحضاري في الشرق وصعوده في الغرب» وأخذ صفة الاستشراق‎ 
والرحلات الذي لم يتعمق ويبلور دراسة لثقافة مدن الشرق. وني السرد‎ 
نجد دعوة من جينيفر سكيرس للقارئ بولوج المساكن الحضرية الثرية في‎ 
تركيا ومصر وإيران في تلك الفترة» والاستمتاع بأجوائهاء وركزت على‎ 
ثلاث من كبريات المدن الشرقية: القاهرة وإسطنبول وطهران. التي لم يتبدل‎ 
فيها المنزل الشرقي بحد ذاته, والأسرة الممتدة, وأن الجمال كان جزءا يومياً‎ 

من الحياة. 


' صدر عن سلسلة عام المعرفة في الكويت (العدد )"٠/‏ وترجمته ليلى الموسوي. 
TT‏ 


بدأت سكيرس كتابما بالحديث عن المدينة» وترى أن مدتما الثلاث 
الخاضعة للدراسة تشترك مع غيرها من مدن المنطقة بثقافة حضرية تعكس 
تنوعاً تاريخيا واقتصادياً واجتماعياً ودينياً وعرقياً. وأن المصنوعات 
المستخدمة في العوالم الداخلية لنازها هي عرض جلي هذا التنوع؛ 
فإسطنبول ظلت آهلة بالسكان منذ تأسيسها في القرن السابع قبل الميلادء 
كمستوطنة فينيقية تجارية متوسطة الحجم عرفت باسم بيزنطة('). أما 
القاهرة فتتميز باستمرارية استيطاتما منذ العصر الفرعونئ. عندما كانت 
ثمفيس, ثم الجيزاء ومرورا بالعصر الإغريقي فالروماني, ثم العصرين الوسيط 
والعنماني. والعصور الحديثة» وهي تشبه إسطنبول من حيث إا تقع 
استراتيجيا على مجرى مائي كبير. 


أما المستوطنات الحضرية الإيرانية» فترى المؤلفة أتما كانت أكثر 
تخلخلاً منها في تركيا أو مصر» ففيما عدا المنطقة الحصورة بين بحر قزوين 
في الشمال والخليج في الجنوب, فإن بقية البلاد قاحلة وتفتقر إلى المجاري 
المائية التي يمكن استخدامها كوسيلة للمواصلات. ولكن عندما نقلت 
العاصمة إلى مدينة طهران (اسمها الري في التراث الإسلامي) في الشمال 
عام ١7/85‏ تساوت اعتبارات توافر الماء والغذاء, فقد اشتهرّت طهران 
منذ القدم بحودة حدائق الفاكهة والخضراوات» وبسهولة الحصول على الماء 
من الينابيع ومن قنوات جبل "ديمواند". 


' يرد عند الغربيين اغا (يونانية) وهو محض مغالطة, ويشهد على فينيقيتها اسمها المركب (بيز- 
آنات) أي ضرع الآهة أنات المقتبسة من السومريين(أنانا) و(بز) ما زالت تستعمل في اللغة الدارجة 
في العراق والشام وتعني الضرع. 

سا 


وعلى العموم فإن إحدى المشاكل القائمة في المدن هي مشكلة توفير 
السكن والخدمات لقاطنيهاء لذا فإن البانن اللازمة لخدمة حياة المدينة 
اليومية ثقام في المساحة ما بين أسوار المدن والمباني الملكية وحوضماء 
وشبكات الطرق الرئيسية التي تقوم دروب المواصلات بتقسيم الطرق 
الرئيسية إلى قطاعات الخدمات والسكن. أما الشوارع ضمن كل قطاع فقد 
كانت في الغالب معقدة وضيقة, قذرة ورطبة في الشتاء ومليئة بالغبار في 
الصيف. 

وعن إسطنبول تذكر المؤلفة أن سكاتما الفقراء يعيشون في أجواء 
مكتظة, في حين أن منازل الأغنياء كانت تقع نحو الشمال والشرق. أما 
طهران فكانت أكثر اكتظاظاء ولكن المدن لا تظل ثابتة على حال واحدة 
ورعا تكون طهران هي المدينة التي تعرضت لأكبر قدر من التغير السريع» 
فقد تضاعف تعداد سكانها إلى درجة أن الاستيطان قد انتشر خارج 
الأسوار مسببا مشاكل أمنية؛ لذا فقد أصدر ناصر الدين شاه القجري 
قرارا بإعادة بناء طهران في كانون الأول ديسمبر .١81‏ وفي إيران يتضح 
الفهم العميق للتوازن بين المباني والمساحات الداخلية في عمارة المنازل» 
وأن توسعة طهران عبر برامج البناء في الستينات من القرن التاسع عشر 
شهادة جلية على ذلك('). 


لقد أمسى الحديث عن العمارة بشجوهها يتداخل مع الحياة البشرية 
التي اضطلع فن الكتابة الروائية فيها بشكل اتسع نطاقه في كل الثقافات 


' قراءة للكتاب كتبها أحمد فضل شبلول ونشرت في عدة مواقع. 
o‏ 


بعد اتساع وانفتاح أنساقها وتلاقحاقا في شجون ثقافات الدنيا. ولا يمكن 
أن تنأى عمارة وعمران مدن عن سرد أدبي نابع من كينونتها وشارحا 
ساوقا 


وثمة فضاء معرفي ثقافي يتعلق بالظاهرة اللسانية للمدينة التي ها ما 
يميزها في كنف الثقافة الواحدة عن الريف وعن الثقافات الأخرى. فرّقة 
الطبع ورهف النفس وتوق الجمع للتجمل؛ تنعكس بشكل جلي في لغة 
المدينة» التي ينظر إليها من طرف البداوة والريف باستخفاف» وبكونًا 
ضرب من الدعة, وتقليدها هبوط ومسخ. وبالرغم من الرفض الشكلي 
لتلك الظاهرة وغيرهاء لكن ثمة إغواء وجذب ودعوة للتقليد والتقمص 
تصيب هؤلاء القادمين من خارج أسوار المدينة» كي لا يشذوا ويمسوا محل 
كم وازدراء من أهلها المترفين. وتذكر التواريخ كيف أن "غنج" النسوة في 
المدن وطأت بغداد (لفظ الغاء بدل الراء) بعد صعود العافية وسطوع 
الترف. وشكلت أكبر حاضرة في دنيا تلك الأزمنة. وتداولت نسوتّا تلك 
العادة اللسانية» واستحلى الأمْر لغيرهم» حتى انتقل كظاهرة لسانية إلى 
تكريت والموصل ثم حلب ووطأ قرطبة المتطلعة للشرق وبغداد تباعا (قبل 
ق.١١»2‏ بفعل الرعيل المهاجر من بغداد). ويذهب البعض إلى أن تلك 
الظاهرة انتقلت من هناك على يد بعض الدارسين إلى باريس لتصبح (الغين 
الباريسية) التي تميزها عن اللّكنات الفرنسية, ثم قلدها الألمان والدنماركيون 
وبعض أهل جنوب السويد, بيد أن الضيم ينعكس على لسان البشر في 
المدينة» فبعدما دمرت بغداد اختفى الغنج من أفواه نسوقاء بالرغم من 


بقاياها حتى اليوم في تكريت والموصل وباريس ومالمو. 
T1‏ 


إن طرق التماه أو التناص بين الأدب وشجون الثقافة والعمارة أمر 
نافع» ويصب في مشروع تطوير إدراك الظاهرة الحضرية ويرتقي بالمعلومة 
العمرانية والمعمارية والفنية» لتسمو بالحس الجمالي للحياة المدئّية. وأن 
لفت النظر إلى مشيمية العلاقة بين المدينة والأدب يصب في تنبيه الروائيين 
إلى توسيع مداركهم المعمارية» لتُشْكّل مفاهيمها جزءً من سياق السرد 
الرامي للارتقاء بالوعي والحس المكاني. ونجزم بمذا الصدد أن ثراء المعلومة 
المدينية والمفهومة المعمارية الواردة بزخم ما في الرواية تعكس المستوى 
الحضاري ووعي امجتمع, حينما تكون شاهدة على حقبة من عمرها ودالة 
على ميراثها التراكمي. فمقامات الحمذاني أظهرتًا صورياً منمنماتا جى 
الواسطي (7777١م)‏ حينما عكست مستوى الحياة الفكرية حينئذ في 
بغداد. وكذا رواية البؤساء لفيكتور هوكو عكست صراع الرومانسية 
والواقعية مخلوطا بتوجهات فلسفية لحقبة الأنوار والغورة في الثقافة 
الفرنسية. 

وإذا كان شعر الملاحم قد صور أحداث المدن فإن القصائد ذات 
الصوت الواحد في العصور المختلفة ابتداءً من الجاهلية وحتى العصر 
الحديث كان ها دور بارز ونميز في إبزاز ملامح المدينة. ونقلت إلينا كتب 
الأدب العربي صوراً متعددة لمظاهر الحضارة العربية عند بدوها وحضرهاء 
في قراها ومدنماء في بلداتها وأقاليمهاء في سواحلها وعمقها البري» في أمكنة 
تحولت إلى بؤر للجمع ومصدر للثراء الفكري الإنسائي. ويكفي المرء نظرة 
إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهان» والأمالي للقالي» والعقد الفريد 


لابن عبد ربه» والكامل في الأدب للمبرد؛ وغيرها من مراجع التاريخ الأدبي 
r۷‏ 


ليتعرف على أحوال المكان في المدينة العربية من وجهة النظر الأدبية كوعاء 
للثقافة وصورة لما. وحتى الحداثة التق حملت همومنا في أوطان مستقرة نقرأ 
للشاعر الجزائري أحمد حمدي: 


ما زلت أجوب الشوارع 

ضيق شارع الاستقلال 

فسيحة ساحة الشهداء (') 

فالشاعر هنا لا يهدف إلى تصوير المكان واقعياء ولكنه يقصد رمزيا 
إلى شعور بخيبة أمله ما بعد الاستقلال؛ والأماني المجهضة فيه. وهكذا 
فالمكان كتاب مفتوح يقرأ من أي صفحة وفقرة, وكأنحا بداية ولا نهاية 
لذلك العام المترامي على بسيطة الأرضء فالتعمق والتحدق والحذق في 
القراءات والرصد يحفز على المقاربة والمقارنة» وهذه هي سمة الثقافات في 
التمييز والتميزء الذي يصب في غايات الفقه بالذات» وهي الوسيلة الأهم 
في تشخيص العلل ووضع الحلول من أجل غايات الارتقاء وبناء حضارة 
المكان, التي تبقي توق الإنسان السرمدي للانعتاق من البدائية واهمجية. 


الوجه الآخر لتناشزات المكان 
الجتمع المكان لا يقتصر على الرومانسية والفضيلة والرواية والشعرء 


فثمة (ثقافة) أخرى تتسم بالعنف وتمركز بؤر الجريمة المكانية التي صنفت 


أ أحمد همدي - قائمة ا مغضوب عليهم, الشركة الوطنية للدشر والتوزيع, الجزائرء ٠‏ ص 
"١‏ 
TA‏ 





كفرع للجغرافيا الاجتماعية ضمن علم الجغرافيا البشرية» من خلال دراسة 
أغغاط ظاهرة الجريمة اعتماداً على البحوث دف التعرف على توزيعها 
والعلاقات التبادلة بين مناطقهاء والبيئات التي تساهم في انتشارهاء 
وخصائص المجرمين» والسياسات الرادعة. ولدينا آراء في سياق الدراسات 
التطبيقية للمشكلات الثقافية والاجتماعية, حينما تمثل الجرعة مصدر 
خوف وهلع وخشية مكان. حيث نقرأ عن دراسة أجراها هربرت عام 
5 عن بعض مناطق مدينة كاردف في ويلز بالمملكة المتحدة» إن جل 
الجرمين هم من صغار السن» لذا درست كافة الجوانب البيئية والقيمة وفي 
هذه المناطق والتي تعكس التصورات الذهنية في البيئة المكانية؛ فلا يمكن 
الوصول إلى تعليل مقنع لتباينات الجريمة بدون دراسة جواهر الإشكال 
"الثقاني", مثل مبررات جذب بعض الأماكن للمجرمين أكثر من غيرهاء 
وهل هذا راجع للأماكن نفسهاء أم لسلوك ساكنيها. ضمن سياقات أبعاد: 
(القانون, المجرم, الهدف. المكان) وأقر الباحث أن علم الجريمة لا بد أن 
يدرس المكان أولا. 


والأمر عينه بحنه (لامبيرت) بشأن تباين العنف في جزء من مدينة 
برمنكهام الإنكليزية» وجل الحالات كانت نزاعات منزلية» أو خصامات 
في الشوارع أو في المساكن الجماعية, وأكثرها عنفاً توجد في المنازل المؤجرة 
لساكنيهاء والنزاع بين المالك والمستأجر. وجل ما يحدث على خلفية تعاطي 


المسكرات. 


۳۹ 


وثمة حالات أكثر حدة بسبب وجود أعراق متنافرة» وفي هذه 
الدراسة ظهر كيف يتولد العنف نتيجة فوضى الشارع والذي له علاقة 
بتوزيع المساكن العامة وساكنيهاء وتأثير طريقة الحياة المفروضة على سكان 
بعض المناطق كالزحام والتزاحم والتفكك الاجتماعي» ويتداعى إلى الجدل 
والنزاع بين الأفراد, مما يؤثر في العلاقات بينهم وعلى استقرار العلاقات 
الشخصية؛ ودور الهجرة والعمليات الاجتماعية والاقتصادية» وخاصة بين 
المهاجرين الجدد. ومثل هذه الظروف بمكن أن تقلل من قدرة السكان 
على الصمود, فتنهار مقاومتهم وينخرطوا في الجرائم. وقد اعتمد (لامبرت) 
على المنظور الجغرافي في أن طبيعة الجريمة وتوزيعها غير متساوي ولا يتم 
بصورة عشوائية» ويجب ملاحظة أا لو أصبحت سمة لمنطقة ما فإن هذه 
الصورة لا بد أن تخضع للبحث عن الأسباب. 


وعمليات الإجرام تعكسها الاختلافات في الثروة وأصول الجماعات 
المختلفة, ومقارنة معدلات الجربمة بين الطبقات المختلفة وبين الجماعات 
العرقية. ومكافحة الجربمة يأخذ في اعتباره ثلاثة عناصر هي: تحركات قوات 
الأمن والمقايبس المادية والإدراك الاجتماعي. ويتضمن الإدراك الاجتماعي 
استجابة السكان لما يعرف بنظام حراسة منطقة الجيرة والذي لم يكن 
معروفاً في بريطانيا حتى عقود قليلة مضت» وني عام 1۹۹۲ء فإن حوالي 
© مليون أسرة في بريطانيا يعيشون في ظل هذا النظام. 


ويفسر البعض أسباب العنف من خلال ازدياد الأدرينالين المفروز 
بالجسم» وما يتبع ذلك من استجابة نفسية» كذلك التفاعل بين الضغوط 


F4 


والضبط الاجتماعي المتداعي إلى المرض الذي يؤثر في السلوك الإنساني 
وبنتج عنه الانتحار أو الاكتئاب. وبعد أن كان الجغرافي يسجل الجربمة في 
البيئة كما هي» أصبح يطلب إليه أن يفسر الأحداث الإجرامية من خلال 
ربطها بالبيئة الطبيعية أو المادية, والاجتماعية والعمرانية والبحث عن 
وجود تباينات بين مستويات الأماكن, ويتضمن اليوم مفهوم مكافحة 
الجربمة أبعاداً مكانية مادية, غير الأبعاد الاجتماعية والحضارية والنفسية. 


ونجد بحوثا ربطت بين الطقس الجوي والجريمة وأثرها في النواحي 
الصحية» وفي دراسة عن جرائم مدن الخليج العربي أظهرت أن معظم 
الجرائم التي سببها الخلاف على الالء تحدث بالقرب من حي الأعمال 
المركزي (منطقة التجارة الوسطى) مثل حي المناخ بالكويت. لا بل أن 
بعض الأحياء القديمة التي أهملت وسكنتها طبقات الوعي الدنيا في بؤر 
المركز» أمست من أكثر المناطق خطرا للفوضى البنائية والإهمال وغياب 
جماليات وهندمة المكان» حيث نجد أحياء الفضل في بغداد والباطنية في 
القاهرة والشميسي في الرياض وقصبة الجزائر الأكثر خطراً من أماكن 
حضرية أخرى. 


ولوحظ في لندن أن النسيج العمراني يرتبط بأغغاط الجنوح, ومنها 
تلوث المواء والتلوث البصري. ويبحث المختصون في المسافة المكانية بين 
سكن امجرم والمهدف الذي يرتكب الجريمة عنده» فالجرائم تقل حينما نبعد 
عن سكن الجان؛ لذا فإن وجود أحياء للفقراء متاخمة للأغنياء لا يمضي 
"عقداً اجتماعياً" البته» حيث أن تقسيمات (دوكسياديس) لناطق بغداد 


۲٤١ 


الحضرية» جعل شارع سريع (أوتوستراد) يفصل بين حي الشعلة المتهالك 
وبين أحياء الجامعة والعدل للأثرياء. وحينما سقطت الدولة والسلطة على 
يد الأمريكان في نيسان أبريل 25٠0٠7‏ انقض الفقراء على الأغنياء, 
ودخل الأمر بإطار ثانِء هو صراع طائفي حيث الفقراء جلهم شيعة 
والأغنياء جلهم سنة» وهكذا حينما تضطرب الأمور وتتحول من واقع 
اقتصادي محرك إلى روحي وطائفي مدمر. وفي دراسة في هذا المجال خاصة 
عن الجربمة الحضرية في مصر وخاصة في القاهرة والإسكندرية» وكذا عن 
الجريمة في مدن الخليج العربي خاصة في إماراتي (دبي وعجمان) في دولة 
الإمارات العربية المتحدة» حيث اتضح أن الجرائم تكون أقصر بالمسافة 
عن سكن امجرم. فالسلوك المكان الإجرامي» ووجود فضاءات في النسيج 
العمراني أي المساكن المهجورة أو الخرائب في كل منطقة يزيد الفرص 
المتاحة جرائم التخريب والسرقة. 


ولا بد من ربط الاتجاه الإجرامي, خلفيات في التركيب السياسي 
والاقتصادي والاجتماعي والسكاني. والعوامل السكانية تتعلق بالعمر 
والجنس والعرق ومسقط الرأس ومعدل المواليد والوفيات والعمر الوسيط 
والمهنة والحالة الزواجية والمهنية والبطالة ومستوى التعليم والدخلء» 
والكثافة والتزاحم الخ.. وفي الدراسات الأمريكية والأوروبية يجري التركيز 
كذلك على السلالة والعرق» وتأثير الثقافة الفرعية» غير أن بعض 
امجتمعات الشرقية والعربية يبدو فيها تأثير الجانب العرقي والثقافة الفرعية 
بشدة» وذلك لوجود عشرات الجدسيات في دول الخليج العربية مغلاء 
حيث تحمل كلا منها ثقافتها الخاصة (عقلية الكيتو)» مكونة في مجموعها 


EY 


مجتمعاً عالميا (كوزمويوليتيا) أثر في نمط الجرعة. والجرعة في كل بلاد العام 
من نتاج الذكور أكثر من الإناث» وإن الأعمار الشابة هي الغالبة على 
النشاط الإجرامي» ونجد أن الخليج مثالا حينما استقطب الملايين من 
الوافدين وهم في سن الشباب. 


وتؤثر الجوانب السياسية تأثيراً واضحاً في الجربمة, فالنزاعات السياسية 
ومشاكل الحدود, وانتشار العصابات وحرب المخدرات والنزاعات الطائفية 
والعرقية والطائفية» وما إلى ذلك أدى إلى مزيد من الجرائم التي قد تفوق 
الجرائم العادية بمئات المرات. وقد رصدنا تزايد الجربمة بكافة أنواعها بعد 
انيار الاتحاد السوفيتي» ولا سيما في المحدن» وأصبح جرد السير في الشوارع 
مشكلا من جراء الأوضاع الاقتصادية السيئة وانفراط السلطةء وهذا ما 
حدث في العراق بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط سلطة البعث التي كانت 
توحي "على علاتا" هيبة الدولة. 


نعلم أن أحياء باريس الحامشية كانت البيئة المناسبة لكل الاضطرابات 
التي حدثت» وهياجانات التشفي ب(الحرق) التي حدثت عام ۲٠٠٠١‏ وكان 
موئلها أحياء المهاجرين المهمشين, والأمر عينه حدث عام ٠١١7‏ في 
ستوكهوم في حي رنكبي لإاع01ع1 وهوسبي ریں] اللتان يقطنهما 
الأجانب» وكان محرك الفوضى الجيل المولد والناشئ تواً فيهاء رغم ما 
يدعون من أسباب واهية للشرارة الأولى» لكن الاحتقان في النفس حقيقة 
لا مفر منهاء وهي أساس كل اضطراب لاحق. وقد شهدنا تجربة طبقت في 
شمال لندن» في ضاحية (لوتن 1.110), حيث اختيرت أماكن خربة يؤمها 


EY 


الكحوليون والمدمنون ومتعاطو المخدرات والدعارة في ثنايا المدينة» وتم تنفيذ 
خطة لتهيئتها عمرانيا بحيث يضفي عليها تنظيم ونظافة وجمالية من خلال 
مفردات العمارة الحدائقية (12205036) وتشجر بعناية وتشذب وتزود 
بالنافورات والأرائك وصنيع الأثاث المديني والإضاءة, عا يغير مجمل معالمها. 
وبعد الافتتاح عاد إليها روادها الأوائل من السكيرين؛ فوجدوا أن بؤرتهم ومكان 
عبنهم قد أمسى حضارياً ونظيفاً. ولم يعد يناسب صعلكتهم وعربدقم ويحوي 
أزبالهم. وهكذا خف تواردهم إلى أن تواروا عن الأنظار تدريجياً ليجدوا لهم 
مكانا متسخا آخر يؤمهم. وكأنهم يطبقوا الهاجس الفطري بأن (الشيطان يسكن 
في الخرائب), كما كنا نسمعها ونحن صغار, وإن الفراغ مدعاة سكن الشيطان. 
فلا ننتظر من القبح والإهمال إلا إرهابيين يجدون لهم العذر والوسيلة. وإن 
الحضارة والعناية والتنظيم الحضري تفتح رأس الإنسان على تلقف الخير مثلما 
الغابة التي تجتذب الغيوم والغيث» على عكس التخلف والخراب والمكان 
المجدب الذي ينفره الغيم؛ ويجور ثم يبور.. 


لقد وجهت نصيحتي للحكومة العراقية» التي تتشدق ب "محاربة الإرهاب" 
نيابة عن الأمريكان, وذلك من خلال تجفيف منابعه "معماريا", حيث أن مدينة 
خربة مغل بغداد وغيرهاء لا بد أن تكون بۇرا لؤلاء. فلا يسكن الخرائب إلا 
المخرب» ولا متعة هم إلا بتفجير أجساد فقراء العباد في الشوارع الخلفية 
للمدينة وتجمعات الكادحين (مسطر عمال البناء) والمطاعم والمقاهي الشعبية 
بدواعي "إحراج السلطة العدوة" غير العابئة بالأمر أصلاً. كون تلك المناطق 
الخربة قريبة من أحياء التراث المتهالكة في الكرخ والرصافة, حيث يجدون با 
ضالتهم» وتناسب أذواقهم وطباعهم وتحقق حاجاقم ومآريهم. 


الهلا المكان والشكل المعماري 


مه مه فى 


ثمة حقيقة مفادها أن منتج الإنسان الإبداعي ولا سيما في العمارة 
والعمران قد ورد متأخراً جداً. بعدما مكث 0۹٩‏ من تاريخ وجوده على 
أدبم الأرض هاملاًء وأقرب إلى التوحش من التحضر, حت انتقل إلى إرساء 
القرى والمدن وتطوير ملكات العَمارة التي لم تكن من مستجداته, بل قلد 
فيها الكثير من معطيات المكان البيئي الذي نشأ به» من حيوان ونبات. 
فلم يجد حلولا معمارية بعينها من أجل وقايته كبناء الخص (عusهط)‏ 
وتسقيفه» أو النفق في الأرض» إلا من تجارب سابقة كان قد مارسها 
الحيوان, وما كان للإنسان إلا أن يرصدها ويحاول تقليدهاء ثم ارتقى ما 
من خلال سطوة عقلهء التي أوصلته الى فتوح, أثمرت عن تطوراته اللاحقة, 
حتى يومنا الحاضر. وبذلك فالإنسان "كائن" مقلد أولاء ثم متفذلك بعدها 
9 مبدع» بعد رحلة التطور اللاحقة. يقول الفرنسي باشلار (1//5 - 
) واصفاً الصناديق والأدراج والخزائن بأتما: (بيت الأشياء) وأن 
(العش يبعث إحساسنا بالبيت» لأنه يجعلنا نضع أنفسنا في أصل منبع الثقة 
بالعالم.. هل كان العصفور يبني عشه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم)؟. 


القوقعة تجسد انطواء الإنسان داخل المكان في الزوايا والأركان؛ لأنَ 


فعل الانطواء ينتمي إلى ظاهراتية فعل (يسكن)('). وهكذا فإن بناء عمارة 


١ 


باشلار - حماليات المكان: ترجمة غالب هلسا - دار الشؤون الثقافية - بغداد .٠۹۸۰‏ 
to‏ 


التي ماها السومريون (توكيل أنانا) التي وهبت به الإنسان نصف الألوهية 


كي يستطيع أن يتكل على نفسه» ويشيد المدن. 


يمكن أن نشبه البناء المعماري بجيئة المخلوقات, فلم ينأى الإنسان 
عن تقليد كيانه وصنعه الجسمي البني بتراتبية معمارية وبعناية إلهية 
إعجازية» وأمست كل مخترعاته مستلهمة من ذلك الخلق الرائع» فلم تكن 
الكتابة سابقا ولا الحاسوب اليوم إلا لمساعدة الذاكرة الإنسانية الواهنة. 
فكانت ومازالت العمارة تحمل صفة الفن الذى يتخذ من المادة ركيزة» ومن 
الفعل والخيال وسيلةء وإنتاجه هو ذلك الحيط المكاني الذى يوجده الفرد 
ليمارس فيه نشاطاته الحياتية والروحية ضمن بيئة بنائية تفصله عن مؤثرات 
الطبيعه غير المرغوب فيها. 


ويرى البعض أن العمارة هى نتاج إنساني معبر عن الوجود المعرفي 
والإبداعي للفرد وامجتمع والتي من خلاهما تكتسب قيمتها؛ فهى نتاج 
هذا الفهم والإدراك.. وهكذا يمكن أن نعقد مقاربة بين ما خلق عليه 
الإنسان وما خلقه في عمارته» فنشبه هيكل البناء الإنشائي بالعظام وجوفه 
بالوظائفية والعلاقات بينها والفضاءات عموماء أما لحمه فهي حيطان المبنى 
وجلده محض تشطيب وأقته» ومظهر مغلف لبكة وظيفية فذة» تبوأت 
صفة الجمال المثالي (خلقناكم في أحسن تصوير) وللحلول العضوية لعلاقة 
الكل بالجزء والجزء بالجزء والجزء بالكلء صلات متجذرة بمجمل حلوله 
تلك الحبكة, ابتداء من التجمعات الحضرية» حتى التصميم الوظيفي 
المعماري بكل حيثياته. وما فتئ الإنسان يستلهم من ذاته المخلوقة حتق 


5515 


اليوم في شجون كل ما أبدع» حتى وطأ الحاسوب الذي هو صورة 
متفذلكة لعقل الإنسان» وأمست كل فنونه مصدرها خيال مستلهم من 
واقع مكان» وجدها الإنسان في عقله فرام تقليدهاء وهكذا أمسى سر 
تطور هذا الإبداع مقروناً بسبر أغوار ومواصفات ذات الإنسان العضوية. 
رغم أن البعض يعدون هذا الجسد موطتا للشرور وبؤرة للدنس والرذيلة» 
هذا تمت معاملته باحتقار كبير» وتم السعي إلى ستر عيوبه» ولا يزال 
الحديث عن مفهوم العورة لصيق به في كثير من الثقافات؛ بل أن الجسد 
حيز للتعفن» وأن الروح جلال وطهارة» بل إنما هي من تحفظ للجسد 
طهارته لكنه حالما يتعفن فهي تغادره بالموت إلى نبعها الطاهر. (') 


إن المياكل العظمية للمخلوقات كانت أول استلهام للهياكل البنائية, 
ورا أدرك الإنسان أن تغليف ذلك الميكل» يؤسس لفضاء معماري يمكن 
أن بحميه من الحر والقر والمطل» بعيداً عن حاضنته في كهوف وناي 
الجبال. وهكذا كان انتشاره في الأرض وإعماره للمكان هبة لوسع خياله 
في التقليد. وربما كان هذا سبباً كافياً لفشل تيار البنائية الذي رام إظهار 
المياكل وهي بيئة مرئية عاريةء بما يخالف سنن الخلق الذي يراد فيها إخفاء 
أسرار الصنعة من خلال تغشيتهاء ولو أن سر الإبداع يكمن في أصغر 
المصنوعات, والمياكل ليست أصغر ما بالإبداع الربانن للمخلوقات. 


ويمكن أن تكون الحجارة والأخشاب المستلة من الشجر أولى 
الخامات البنائية» ثم تبعها الطين الذي فتح حرية تشكيله للحصول على 


' رشيد عوبدة الجسد شرارة حراك .. الجسد أيقونة تغبير» مقال على موقع معابر. 
4۷ 


حلول فذة» مازالت ترتع في عالم العمارة » كما عناصر القبة والقبو 
والعقد, التي كان أساسها طيني» ثم ووئمت مع خامات أخرى تباعاً. 
وكانت سنن التطور وليدة روح الخيال والمبادرة والجرأة والإقدام في 
التجريب التي أعانته في الاقتراب من الأرض المسطحة والرخوة ومسارب 
الماء والأخار الجاريةء أين أسس أولى التجمعات المكانية في وديان الرافدين 
والنيل والسند والكنج. وهنا تحولت الخامات البنائية الى الطين» الذي هو 
حجر مفتت وطمي تجلبه السيول المنحدرة من الجبال؛ فقد شرع بتطوير 
المعطيات المكانية» بما يخدمه. فتحول من القنص للزراعة» وهي نقله كبرى» 
جعلته يؤسس للقرى» التي طورتها العملية الاقتصادية لدوران الغلة إلى 
تكوين مراكز المدن, وعلى أثرها نشوء سمات الحضارة كاختراع الكتابة 
وتنظيم المواجس الروحانية بصيغة أديان ممنهجة» طورت مفاهيم فلسفية 
وأجابت على تساؤلات أزلية» وكانت تلك الارتقاءات سبب التسامي في 
إدراكه. 


إن عمل العمران والعمارة جاء دائما مضادا للأشكال الطبيعية 
العذراءء فهو عملية إقحام أشكال مستجدة على البيئة المكانية من خلال 
خلق فضاءات وظيفية محمية» سواء كانت أشكاها الظاهرة مؤتلفة أو 
مختلفة عن سياقات الخطوط التي تشيع في المشهد الطبيعي العام» وقد لعب 
التأثير الإبحائي المستلهم من محيط الخطوط المهيمن على دواخل نفس 
المصمم في طبيعة التصميم» ويكمن نجاحه أو فشله بانسجام أو تضاد تلك 
المستجدات على ما يحيطها من خطوط الطبيعة العذراء. 


EA 


وطبيعة الأشكال بمكن أن تشكل حالة (زمانية) لا سرمديةء إنما هي 
تتغير بتغير العصور والمجتمعات والحاجات البشرية؛ فكل مرحلة تاريخية 
وهي تصعد على مرحلة سابقة. إنما تقدم للحياة أبنيتها الاجتماعية 
والاقتصادية والسياسية في الوقت نفسه الذي تقدم أبنيتها الفكرية وصيغها 
الفنية والجمالية. ولقد أورد علماء الاجتماع وفلاسفة الجمال والمؤرخون 
والإجناسيون (الإنثربولوجيون) بأن من الممكن استنباط طبيعة الحياة 
الاجتماعية والعقائدية والسياسية (بل والاقتصادية) جتمع معين, من أغاط 
العمارة» ومن أشكال الملبس والحلي وأدوات الاتصال والتنقل وهيئة 
المقابر وغير ذلك. وليس من العبث» إذاً الاهتمام ب .(فلسفة الشكل) 
في كل منشط بشري» خصوصاً إذا تعلق الأمر بالفن» حيث (ماهية) العمل 
الفني غير متحصلة في غير (هيئته)» وتبقى الأشكال هي الأكثر حضوراً 
لأنما ليست مجرد أوعية محايدة سلبية» بل هي (أشكال بمضامين) في آن 


واحد. 


أما طبيعة ومعطيات وخامات المكان فتشكل تكوينه وسر تطوره» 
وهنا جدير أن نشير إلى الموقف الثالي السلفي الذي يسقط الماضي على 
الحاضر دون تمحيص وبحث في السبب والنتيجة, كونه يحتاج إلى سطوة 
عقل» وهو مغمور ومغرم في النقل» وبذلك فهو يؤيد الشكل الموروث 
ويعلقه في السماء عالياً فوق العصور وتطورات امجتمعات وتغير الآليات 
والمستجدات وسنن الله في خلقه» بالارتقاء. 


۲4۹ 


وهنا تشكل المندسة الجوهر الثاني الأساس في العمارة المختلفة 
والمؤتلفة مع الفن» وقد فرضت شرطها في الحدود» كون مفردة "الهندسة" 
تعني الحدود لسانيا (من السنسكريتية)» وتصل حد القيود أحياناً, حينما 
تجعل من السياقات بين البيئة العذراء والفضاء المعماري فواصل "سجنية", 
"لو صح التعبير"» وهذا ما اقترفته العمارة الحديثة أكثر من الفطرية 
والتراثية» التي وجدت دائما سياقاتها جامعة وموافقة بين مفهومي الداخل 
والخارج المعماري الذي يشكل أحد أهم نجاحات الإنسان المعمارية. 


لقد ناقش الفرنسي باشلار )۱۹٦۲ - ۱۸۸٤(‏ مفهوم الداخل 
والخارج في (جماليات المكان) لكنه تطرق الى الجانب الأدبي و(الحلزوني) 
الذي يجعل الإنسان حائرا في الانعتاق نحو الحركة الخارجية أو التقوقع 
للمركزية التي تفرضها تلك الحركة الدوارة الواعية أو غير الواعية؛ فالشعر 
والأدب حاولا الانعتاق من الداخل بعالم الخيال» بينما العمارة بسطوة 
الواقع والملموس والجدوى مكثت تجنح نحو مركز المكان. ومكث الأمر 
يعني التقيد أو التحرر, فالداخل محدود بمنداز ومحسوب, والخارج مفتوح 
ومرغوب» ويحتدم الصراع بينهما بشكل أوجده الإنسان نفسه» حينما 
حدد في خلجاته وعواطفه ومفاهيمه حجم الأشياء ووسعها. وكما يقول 
باشلار أن نثمة أشياء متناهية في الصغر» يمكنها أن تكدس حجما كبيرا 


وشاسعا بطريقته الخاصة, وأن الحجم بحد ذاته قيمة أوجدها الإنسان(') 


١ 


باشلار - جماليات المكان - ص 85 .١9‏ 


ووظيفة المكان بحسب رأي باشلار يشكل محتوى أو ظرف ركز 
الزمان» وحامل ملامح تراكمية على كاهل النفس التي تمكث شغوفة 
بالذكرى الأولى. وهذا يذكرني ثل يتداوله أهل الجزائر بأن (الضيق في 
القلوب)» أي الشعور بالضيق يكمن في داخل النفس الشاحةء وأن 
البيوت الفرهة الحتازة من المكان شيئا وفيراًء لا بمكنها أن تتسع أحداً أو 
نفراً» لو شحت النفس وضاقت. وفي السياق فإن الشحة والبخل سليقة 
تجد تفريغات الممارسة في كل شجون الحياة وحتى الجانب العاطفي. 


لقد مكث صراع دائم منذ البدائية الأولى بين فسحة البيئة الواسعة 
وحريتها لكنها بنفس الوقت تكشر عن خطرها وسلبي أثرها كون الإنسان 
"اخترع" العمارة لينأى ويأوي بعيداً عن شرورها في البرد والحر والريح 
والمطر وأخطار البيئة والكائنات الحدقة بوجوده» أو بين الانغلاق في فضاء 
العمارة الموحي بكهف النفس أو الروح الموحش» لكنه الحامل للأمان 
والحماية والسكون الموحي بالتأمل» الذي كان وراء تطوير ملكاته في 
صراعه الأزلي لتطويع وترويض الخارج. فعمارة المسكن هي جسد ومادة, 
لكنها تؤمن للروح الإنسانية سكينتهاء خلال حركتها بين داخل مؤتمن 
وضامن وحام» وخارج غير مأمون الجانب. وهنا يمكن التفريق بين سكون 
وثبات وكسل البيت وحركية ونشاط وفاعلية الشارع الشعورية في مرجعية 
العمران النفسية. 


إن تلك الأماكن تخلق لدينا توقا نحو النشاط الذي لا بد أن يسبقه 
خيال جامح. وني التحليل النفسي نجد أن الشخوص الانبساطيين 


o! 


والانفتاحيين تواقون للخارج وتلك الحركة الدؤوبة على عكس الانطوائيين 
الذين يخيفهم التواصل والانفتاح المكان. وكم هو حاذق وعبقري ذلك 
المعمار الذي يحفز الجرأة ويعكس الفطرة البشرية للمتشائم والمنطوي من 
خلال لمساته المدركة للتصميم والتهيئة الحسية والجمالية المكانية» التي 
تجعله يرتضي الخارج» بمثلما ارتضى الداخل. وهذا هو الحدف الأسمى 
للمعمار كذات مبدعة» سلعته العمارة كخلق إبداعي» إلى عكس 
المسلمات وإصلاح الخراب وترميم الأعطاب حت المتجذرة والميئوس منهاء 
في خضم القناعة اليقينية بتأثير العمارة على طبع الإنسان وسلوكياته. 


لقد طرقت العَمارة التراثية وآخرها "الإسلامية" أبواب ذلك الصراع 
الفلسفي النفسي» حتى أمست بالنتيجة (عمارة جو- برانية) أي أنها 
حاولت أن تجد سياقات للتواصل المباشر بين الداخل المعماري والخارج 
الطبيعي» فالحوش والفناء عالم مفتوح على الطبيعة والسماءء ولا بد أن 
ينضم إلى داخل الحجرات من خلال استمرارية الفضاءات» وعدم جعل 
الحيطان الفاصلة حدود للقسر والفصل بينهما. وإن الروح تبقى دائبة في 
حركتها بين أمان وخطر» داخل رتيب وملجم وخارج محفز وملهم. وهكذا 
رغب الباحثون عن عالم الخيال والإلهام على إطلالة شرفة أو طاقة مفتوحة 
على المدى البعيد, وربما حقق أهل اليمن ذلك في عمارتهم من خلال 
إطلالة (مقيلهم) الذي شكل الرحم الحامي لحم في النشأة المكانية الأولى 
متطلعين باتجاه الخارج والقيعان وامتداد الأفق الطبيعي» با يجعلهم يحلمون 
باليقظة» وأمسى (القات) خرقم ومسكرهم» ومحفز خيالاتهم إلى آفاق 


مجنحة وحلم بجنة» تصبرهم وعدأ روعهم أو تنسيهم "ولو لين" الخوف 
والقلق والانشغال والوساوس والهواجس. 


لقد حققت العمارة التراثية بوسائل أبسط مما لدينا اليوم الكثير من 
احتياجات الإنسان» وذلك من خلال التعبير الصادق في البناء الداخلي 
بغرض توفير الاحتياجات المعيشية والبيئية والنفسية التي تمذل أساس 
التشكيل المعماري لنشأة الغلاف الخارجي للمبنى (الشكل)»ء فالتشكي 
المعماري بالمنازل الإسلامية مثلا كان تشكيلاً داخلياً يبدأ من الداخل إلى 
الخارج أكثر منه تشكيلاً حجمياً يبدأ من الخارج ويتوجه إلى الداخل كما 
نرى ذلك في العمارة الغربية الحديغة ('). 


ويدعو البعض هذا المنحى المنهجي اصطلاح (الجؤانية)» كما لدى 
السوري الدكتور عفيف بمنسي(') حيث تضطلع الواجهات الخارجية 
للعمائر الأولى في المعمار الإسلامي أي صفة جمالية بقدر تشكيلها غلاف 
للمبنى لا يرتسم عليه أي تبيان لما يحدث بداخله. ويمكن أن نعٌّد هذه من 
ميزات عمارة المسلمين بالمقارنة مع العمارة اليونانية القريبة منها جغرافياء 
والتي تلقت سمات الإعجاب حد الإعجاز في الغرب» بعدما أعطت 
للواجهات ومعالجاتها الجمالية كل الاهتمام وجاء كل شى محسوبا على 


' علي عثمان الناجم - مقال صيحات الناداة بإحياء عمارة الداخل - مجلة المهندس البحرينية 
العدد ۳۷ أبريل 5 ١٠٠5م.‏ 
' تستعمل في الشرق عبارتا (الجوه) و(البره) للدلالة على الداخل واخارج» والكلمتان واردتان من 
الآراميةء ونجدها في اليونانية واللاتينية. 
Yor‏ 


(مودول) الأعمدة ومقاساتّاء بحيث تجرد المعبد اليوناني من أي صفة 
وظيفية» بقدر كونه نصب معماري تمارس خارجه الطقوس والمراسيم 
الروحية» ولا يحوي في داخله سوى العطايا الثمينة المخبأة للآلهة, دون أي 
وظيفة معمارية أخرى('). 


وبالرغم من أن البيت اليوناني أخذ نظامه من موروث الشرق القديم 
ضمن سياقات عدة للاقتباس والتأثير» ومن ضمنها نظام المربعين أي البيت 
والحوش الداخلي» لكن الأمر لم يخل من غضاضةء حينما قضى الأغريق 
جل أوقاتهم في السوق المركزي (الأغورا 8012) التي يتجادلون 
ويسكرون وبمرحون اء حتى وقت المجيع حيث يأمون لبيوغم» فأمست 
البيوت محض مكان للرقاد والنوم» أكثر منه لمتعة العيش والشعور بالوجود 
ضمن سياقات حيز التصميم المكاني. 


وتكرس الاهتمام بالداخل المكاني الممثل بالفناء المطوق بالبناء أو 
الحوش الملحق بالدار وأضفى عليه جماليات تنظيمية معمارية وفنية كالزرع 
والأشجار ونافورات المياه والسقائف والأكشاك, التي تلعب دورا مهما في 
التوازن الحراري للمبنى والنفسي لقاطنيه. ولا تهب أهمية استثنائية تذكر, 
في معالجة الواجهات الخارجية؛ حد الإهمال أحياناً. على عكس الواجهات 
الداخلية المطلة على الفناء فاخا تعالح برهافة وسخاء ورخاء. أما الفتحات 
فعادة ما تكون صغيرة الحجم لأسباب بيئية تتعلق بالتشميس والتهوية 
وهبوب الرياح» وبمكن أن تكون هذه صفة الواجهات الداخلية أما 


' مهنا د. رئيف - ويس بحر - نظريات العمارة. الجزائر .٠۹۹۲‏ 
o٤‏ 


الخارجية منها فتنتفي فيها إلا ما ندر النوافذ ولا سيما في الطوابق الأرضية 


وتظهر المبائ الإسلامية متلاصقة دون فضوات فراغية بينها وف حالة 
عدم التوجه للداخل فإن الفتحات الخارجية للطوابق السفلية تكون مرتفعة 
وتكون الشبابيك مستورة بشناشيل (مشربيات- رواشين) من أجل الحفاظ 
على حرمة أهل المنزل. وتختلف أطوال وعروض وارتفاعات الأفنية 
الداخلية فهي تتراوح من ۲:١‏ إلى :4 في المسقط الأفقى و١:۲‏ في 
المسقط الرأسي» وني حالات الصالات المرتفعة أو القاعات يربط الفراغ 
الداخل بالخارج في شكل القبة أو الغطاء العلوي للقاعة أو الفانوس (المنور 
أو الشخشيخة). والتي تنعكس على سطح النافورة التي تتوسط أرض هذه 
القاعة. 


وني سياق الاستمرارية التطبيقية للامتداد والتداخل والسلاسة بين 
الفضاءات الداخلية والخارجية (الفناءات). و تناغم واستمرارية الحركة بين 
المكانين فنجد المرور من صحن المسجد إلى الحرم يوحي بشعور الاستمرار 
ومثاله في عمارة قصر الحمراء عندما يتداخل با فضاء الحجرات مع 
الجنائن الغناء في الأفنية. ويربطه المنظرون الغربيون بأنه انعكاس لشعور 
الإنسان الوارد من الصحراء وهي صفة المسلم الأول, الذي مقت 
الفواصل والقواطع التي تحد من حركته, ونجم أنما صفة حضارية تخص 
مرهفي الحس من البشر» وربما هي صفة الحضر أكثر من البدو الذين 
ينخفض لديهم الإدراك الجمالي في العادة. وقد سبقت العمارة الإسلامية 


Too 


بمذا المفهوم العمائر الحداثة بقرون عديدة ضمن وراثتها لثابت الشرق 
القدبم الحضاري. وقد نجد في الحداثة تطبيقيات بتحرير المكان الأرضي 
كما هو حاصل فيما دعي (الطوابق الحرة) المرفوعة على الأعمدة التي 
توفر ذلك الاسترسال بين الفضاءات البنية والمزروعة» ولا سيما في 
تطبيقات المعمار السويسري (ليكوبوزييه) (۱۸۸۷- .)١958‏ 


والشكل Form‏ في اللّغة هو كيفية الوجود أو المظهر الخارجي 
للشيء, أو هو طريقة التعبير عن التفكيرء أو هو مجموعة الخواص التي 
تجعل الشئ على ما هو عليه ظاهرا. والتعبير الفني والفلسفي هو التعبير 
الشكلي أو التخطيطي أو التكويني عن الفكرة» ويكون نتيجة تجميع 
المكونات المادية للعمل الفني» تبعا لنظام معين. وهو صفة تجريدية نطلقها 
على مكونات العمل الفني التي تدرك من خلال الحواس, فهو إذن وسيلة 
الإنسان لإدراك العمل الفني. أما في العمارة فهو مظهر البناء بغض النظر 
عن الطراز الذي ينتمي إليه سواء داخل أم خارج البناء. ومن مرادفات 
اصطلاح الشكل ترد الهيئة Shape‏ والمظهر Aspect/Silhouette‏ 
والتجسيم 1181112100 trans‏ . 


والشكل من الأمور المهمة في التنظير المعماري ويعرف بأنه الخواص 
التي تجعل الشئ على ما هو عليه. ومن مرادفاته الهيئة (عم512) والمظهر 
)Appearance)‏ والتجسيم (005811120100)): وغيرها. وإن تركب 
الجسم من أجزاء متعددة» فإن الشكل يطلق على مجموعها وعلاقتها بين 
بعضها البعض» وبينها وبين الفراغات داخلها وخارجها. والشكل ليس هو 


كه 


الشئ (ءء[06) أو الجسم (رلهط) نفسه. فالشيء أو الجسم مادة 
([72216113), وبمكن إدراكه بالحواس, أما الشكل فصفة تجريدية 
(25]1861) ندركها بالعقل عن طريق الحواس. ولكن لا غنى لأحدهما عن 
الآخرء ويكونان معا وحدة متماسكة ومتكاملة ومتحدة» وكل شيء موجود 
له شکل» وکل شكل يلزم له مادة تسنده» وجسم يتواجد به. والشكل هو 
الوسيلة إلى إدراك الشى. 


كان لمشكلة (الشكل) انشغال يصل حد السحر عند المفكرين منذ 
قديم الأزمنة, وناقشوها منذ الحضارات القديمة. ولكن مازال مفهومه 
غامضاً ولم يحل, وربما لن يحل أبداء وليس له مقايبس دقيقة تحددها وتقاس 
بما. لقد سعت الحضارات القديمة في الشرق إلى مناهج مختلفة لحل مشكلة 
الشكلء» منها خلال علم الحساب والأرقام والأشكال ال هندسية, والإقرار 
بوجود نظام مطلق للکون» كما ورد عند البابليين وأقتبس منهم 
فيثاغورس. ومنهم مثل أرسطو من أحس بالأشكال العضوية الموجودة 
بالطبيعة والكائنات الحية» ولا يوجد مثلها في عالم الحندسة والحساب 


والأرقام. 


وتطور مفهوم الشكل خلال الحقب التاريخية وني عصور ما بعد 
المسيحية» ودأب بعضهم في البحث عن أشكال عامة للكون أبقى وأنبل 
من الإنسان الفاني. وفي الفلسفة الإسلامية نجد تفاسير لمعنى الشكل 
المرتبط بالأشياء في رسائل إخوان الصفاء المرتبطة بالمنفعة والثوابت 
الطبيعية. 


0 


وني حقبة النهضة الأوربية» تحول الشكل ثانية الى أمور مادية 
ودنيوية» وابتداء من القرن السابع عشر حصل تغيير نسي في المفهوم بعد 
تقدم البحوث العلمية» وعد غاليلو وديكارت أن القياس 
(2635111620612) هو الوسيلة إلى فهم أسرار الدنياء وقد تطور بعد ذلك 
حتى وصل إلى الحد الذي نفى الحدثون وجود مشكلة اسمها "مشكلة 


وارتبط الشكل بالجمال وإدراكه. وني العمارة يضطرم جدليا مفهوم 
الشكل والمضمون» وهي تشكل الفرق بين الفرق والمتمذهبين المعماريين. 
وقد كانت العَمارة الإسلامية تعد الشكل ناتج مسترسل لمضمون سليم 
للفضاءات المعمارية. ورعا يختلف هذا مع بعض المفاهيم في العمارة الغربية 
التي سبقت الشكل والجمال المكتنف له على ما يمكن أن ينتج عنه من 
حلول وفضاءات عمارية. وأدركت غضاضة الأمر في الحداثة التي انقلبت 
بجا إلى تفضيل بل تبجيل المضمون عليه. واختلف حت الغربيون في ذلك» 
فشتان بين المدرستين الألمانية والفرنسية» وبين ليكوربوزيبه وميس فان 
درروه» فالأولى تحبذ الاختزال والتقانة والانضباط (الباوهاوس) والثانية 
تحبذ التشكيل والجمال والخيال (البوزار)» منطلقة من طبيعة المكان المولد 
والحفز لطبيعة الفكر وترجيح طبيعة الأشكال؛ فالدفء المتوسطي للمكان 
الفرنسي سمح لقاطنيه بالمعاينة والتمعن بجمال الشكل الخارجي والاستفادة 
من ملحقات خارجية للمبنى تجعله ضمن مسقط البصر ومحفز للمتعة 
الوظيفية» على خلاف الزمهرير والجو المكفهر البارد في المكان الألماني, 
الذي جعل التمتع بمبان وشوارع تغطيها الثلوج» في برد خارجي قارس أكثر 


oA 


أيام السنة» أمر فيه من العبثية وعدم الجدوى» مع غياب الفضاءات 
الخارجية المفتوحة التي كرست ذلك» لقد أمسى البيت الملاذء وأمست 
الوظيفية فيه وسيلة وغاية» وما عداها محض عبث» وقد وجد طريقه للعقلية 
والثقافة وانعكس في النظرية المعمارية التابعة ها. 


فالمكونات المادية للعمل المعماري هي المواد المختلفة التي تكون 
أسطحاً تغلف بدورها فراغات وكتل يتألف من مجموعها الشكل العام 
للعمل المعماري. وبذلك يمكننا أن نعرف أن الشكل المعماري: هو الاسم 
الذي نطلقه على مجموع الفراغات والكتل والأجزاء البنائية والمساحات 
المغطاة والمفتوحة وعلاقاتها بين بعضها البعض وبينها وبين الفراغات 
والكتل والأجزاء داخلها أو حوهاء كما أن المظهر المحسوس الذي يعبر 
ومعزل عن أي طراز عن داخل البناء وخارجه, وبما أن الشكل دائما تعبير 
عن محتوى أو مضمون فيمكننا أن نثبت ثلاثة احتمالات: أن يطغى 
المضمون على الشكل وهو ما يسمى بالصراحة أو (الوظيفية) التي يعزوها 
إلى تيار الواقعية الذي ظهر في الغرب في القرن التاسع عشرء أو أن يطغى 
الشكل على المضمون وهو ما يسمى بالشكلية والفنيةء أو أن لا يكون 
هناك طغيان لعنصر على آخر. وهو التوازن الذي نبحث عنه وهو 
انعكاس لمبدأ الوسطية التي أقرت الثقافة الحلية لدينا وأتى في سياقات 
الفلسفات والأديان. 


لهذا وغيره مكث الشكل منذ القديم مشكلة يناقشها الفلاسفة 
والمفكرون, ولا يزال شأنه شأن الجمال, مفهومه غامض ولیس له مقاييس 


0۹ 


ثابتة تحددها وتقاس بماء وليس للأشكال حدود تقف عندها. فهناك دائما 
أشكال جديدة, وهناك دائما لدى الإنسان رغبة منطلقة من دوافع 
أساسها الحاجات. وثمة رغبة دائمة للإنسان في الابتكار والتجديد والبحث 
عن الأجمل والأفضل. وأن وضع مقايبس ثابتة للفن لا بد من أن تقوده إلى 
الجمود والموت, فالفن الصحيح لا بأني نتيجة لتطبيق قواعد ثابته معينة, 
ولكن القواعد هي التي تنمو منه. 


وثمة سمات فنية غير مادية تقرأ بالتحليل والتأويل» حيث أمست بعض 
التعبيرات الفنية دالة للإبداع الفني البشري منذ خطوط الإنسان الأول في 
الكهوف. وقاجنت مع مقتضيات البيئات المكانية التي تبعت لمرجعيات 
طبيعية. وقد صنف منظرو الفنون أن البيئات البحرية والصحراوية أنتجت 
خطوطا مدورة ومكورة ومنحرفة, والجبلية أنتجت خطوطا مائلة ومنكسرة, 
أما السهلية والفلاحية فقد أنتجت فنون خطوطها مستقيمة ومتوازية, 
المقترنة شغفا بخطوط القل والحرث في الحقول» كما عند العراقيين 
والمصريين. واقترنت الخطوط الملتوية والمقوسة مع البيئات الجحبلية والبحرية, 
عا يتماشى مع التواءات الأرض أو حركة الأمواج كما عند الشاميين 
واليونان. ونجد أثراً مجسداً لمواجس المنفعة المنعكس من طبقات دواخل 
النفس البشرية المتأق من إسقاطات في اختيار طبيعة الخطوط. فقد وجد 
أن الفنون الفطرية لشعوب صحاري كالاهاري في جنوب إفريقيا مثلا 
يغلب عليها الخطوط المستقيمة الائلة» بما يوحي شغف الفنان بال هطول 
السماوي وسقوط زخات المطر المنحرف الخطوط. وبالنتيجة أمست 


8 


للخطوط فلسفة خارج إطارها المادي. وكانت الفنون موئلها وحاملها 
.SUpport‏ 


ولنأخذ إيحاءات الخط المستقيم كعنصر أساسي في التشكيل وينبثق 
التأثير من تكرار هذا الخط والانطباع الذي نحسه منخ يتلخص في القوة 
والاستقامة وربما يوحي بالعظمة. كما يوحي لنا رأسياً أم أفقيا على الاتزان 
مع خود بالنسبة للخط الأفقي وتشبع بطاقة بالنسبة للخط الرأسي حقق 
يحتفظ باتزانه. في حين لا يستطيع الخط الأفقي المستقيم أن يحدد الاتجاه 
الذي يوحي به سواء إلى اليمين أو إلى اليسار إلا بإضافة العناصر القادرة 
على الإيحاء بالتوجيه والحركة كالأسهم مثلاء أما للخط المستقيم الرأسي 
فإنه يوحي باتجاه من أعلى إلى أسفل» وسبب ذلك أن العين تتبع اتجاه 
الثقل في قراءة الخط حيث تبذل مجهوداً أقل من ذلك الجهود اللازم لقراءة 
خط حركة صاعدة وبنفس الطول. 


إن ظاهرة الجاذبية الأرضية هي "بالدسبة لإحساسنا" الحركة الطبيعيةء 
وكل حركة مضادة تتطلب مجهوداً أكبر حتى تتحقق. فصعود مستو مائل 
أكثر مشقة من نزوله. وهنا نجد تفسيراً لأحداث الصواري الزائدة الارتفاع 
تأثيراً قويا بالاندفاع. فالعين لكي تستوعبه بكامل طوله تبدأ دائما من 
أسفل إلى أعلى فتأثير الاندفاع ينشأ إذن من أن العين تقره عكس اتجاه 
الثقل, وإن استيعابه لا يكون بنظرة واحدة» بل يتطلب حركة العين والرأس 
إلى فوق, مما يوحي بالاندفاع إلى أعلى. أما الخط الائلء فقليلاً ما يستعمل 
في التشكيل المعماري دون مصاحبة خطوط أخرى. لأنه لا يحقق 


51١ 


الإحساس بالاتزان والثبات العام للمبنى الذي يبحث عنه المعمار» فهو 
يؤثر بكل قوة للدلالة على اتجاهات وإيحاءات بالحركة. فرمز البرق يأخذ 
معنى أقوى برمه خطاً منكسراً وسهمه متجه إلى أسفل» ليوحي بالحد 
الأقصى لسرعة المبوط بخلاف ما إذا كان الخط صاعداً والسهم إلى أعلى 
حيث بمكن أن يراود نفسية المشاهد فكرة المقاومة الناتجة عن الجاذبية 
الأرضية» وهكذا نفهم قيمة اتجاه خط لتحديد معناه. ويؤثر طول الخط 
كذلك على تحديد معناه فإذا كان صغيرا بالنسبة لسمكه فإنه يوحي 
باستقامته. أما إذا زاد طوله فإنه يسبب ربما الملل ثما جعل المعماريين في 
بعض الطرز يستعملون دائما الخط إما متقطعاً أو معترضاً فيؤثر بالإيحاء 
محتفظاً بكل قوته للتعبير بالإستمرار دون أن يظهر السأم. أما الخط 
المنكسر فإنه من تراكيب الخط المستقيم ونرصد خلاله الحدة في التشكيل؛ 
مما يستلزم استعمال بعض الحليات معه لكي تلطف وهدئ من تأثيره كما 
استعمل في بعض الزخارف الإسلامية. ويمكن للخط المنكسر المكون من 
مستقيمين أن يتضمن اتجاها مؤكداً مهما كان وضعهما في الحيزء على أن 
يحدد هذا الاتجاه بمحصلة المستقيمين المكونين للخط المنكسر. 


والخط المستقيم حين تقاطعه يصنع زوايا منها الزاوية المنفرجة, فإذا 

عبرنا عن إحساسنا بالتباعد بين كل من نقطتي طرفي الضلعين؛ فالزاوية 

الحادة في هذا الوضع توحي بحركة موجهة من أسفل لأعلى وتزداد قوة 

اندفاعها إلى أعلى كلما قلت زاوية الرأس. أما الزاوية القائمة فنجدها 

توحي بالاتزان والثبات الوقتي حيث أقل تغير في زاوية ميل ضلعيها يحذف 

هذا الإحساس بالثبات. أما بالنسبة للزاوية المنفرجة فإن الوصل بين نقطتي 
E‏ 


طرفي الضلعين يعطي الإحساس بالربط, وبالتالي عدم فتح الزاوية المنفرجة 
يلغى أي إحساس بالسحق. 


وعادة ما توظف تلك الإيحاءات الآتية من تاثير المكان البيئي على 
المعمار في التصميم حيث تصبح الخطوط عناصره الأهم, وها دور كبير في 
بناء العمل الفني» حيث لا يكاد أي عمل تصميمي يخلو من عنصر الخط 
وإن كان بدرجات متفاوتة. ويوجد الخط في الطبيعة بصور كثيرة ومتسوعة, 
فالخط حيط بمساحة معينة أو شكل ما فيكون أداة التحديد. وقد يكون 
الخط مستقيماً منحنياً. منفصلاً. ممتداً. منعكساً متقوساً. ويعبر الخط 
المستقيم عن الحدوء والاسترخاء, أما المنحني والحلزون فله دلالة قوية 
للحركة الجامحة عندما تتجه الأشكال إلى أعلى أو إلى أسفل» والخطوط 
المنحنية تصنف دائما كخطوط حركية. وتداخلت الحركة اللولبية مع رمزية 
روحانية» فجسدتا زقورة بابل» ثم وجدناها في ملوية سامراء الإسلامية 
حوالي العام ٠‏ 854م, وهي في هيئتها الشكلية تصور لأهل بابل عن العام 
العلوي أو الظاهريء تيزا عن العالم السفلي أو الغيب. وهكذا ارتبطت 
الأشكال باعتقادات روحية وهواجس نفسية بعيدة عن تاثير المكان 
الأول('). 

وكلما نأينا عن الحقب الأولى التي شرعت فيها هواجس الإنسان, 
نلمس توقه للانعتاق من الحمجية والفوضى ومنحاه نحو التنظيم الذي يأخذ 
سياقات تنظيم المكان الأول كون الطبيعية العذراء تحمل في كينونتها 


: د.علي ثويني: مبادئ التصميم المعماري 00 دار قابس - بيروت E‏ 
1T‏ 


معادلة وتوازن فذ, حفظ لها وجودها في حالة من (الميزان) الذي يحكم 
الكون, رغم ما تبدو عليه "رعا" من فوضى شكلية, ومنذئذ بدأت مشاريع 
البناء تأخذ منحى متميزاء واتسمت كل الحضارات بسمات بدأت بالمكان 
المملي» وانعكست على العمارة وحلوها وطرزها. حيث أن الاشكال 
المعمارية شكلت حالة حركة دائما كونما مرتبطة بالحراك الاجتماعي أي أن 
الجتمع هو الذي ينتجها ويعطيها المعاني الخاصة با وهو الذي يدفع با إلى 
التغيير حتى تستقر أو تتلاشى وتنتهي. حيث تحول الأشكال من خلال 
مستويات الحوية الأربعة كمقياس لحركة الأشكال حيث تبدأ الأشكال 
بمعان فردية ضعيفة ثم تصبح مع مرور الوقت ضمن الذاكرة الجماعية ذات 
امعان الرفيعة التي يصعب معها تغيير الشكل أو تحريكه. 


تبدأ هذه المستويات من (اهوية الإدراكية الفردية) وهي المستوى 
الأضعف ثم (الحوية الفردية القيمية) وبعد ذلك (للحوية الجماعية الإدراكية)» 
وأخيرا (الموية الجماعية القيمية) وحصلت خلال تلك المراحل انتقالات 
كبرى في ترويض الخامات الطبيعية أو استجداد مواد بناء كان ها أبلغ 
الأثر في الأشكال المعمارية. وهنا تحدث الانتقالات والاقتباسات والتأثير 
بين المنتج الحضاري» بحسب طبيعة الحضارة من الانفتاح أو التنائي أو 
الانغلاق والعزلة» لكنها بمجملها تؤكد أن الإنسان كائن خلاق وموائم 
ومفكر('). 


أ ورد هذا الرأي للسعودي الدكتور مشاري النعيم في كتابة عن التغيرات العمرانية في منطقة 
الخليج. 


1٤ 





وتتميز الاشكال المعمارية عن بعضها في مدى تحقيقها لغايات معينة 
تعد معياراً للحقبة التي ولد فيها فأمست سجل الأزمنة الأصدق» وتلك 
لمعايير نسميها نظرية العمارة. ونجد من جعل الشكل المعماري (الجيد) هو 
من يعبر عن وظيفته المخصص فاء ومنهم من عد الشكل المعماري نصا 
مشابما للنص اللغوي يحمل رسالة مشفره باستخدام عناصر معمارية معروفة 
سابقاً وتوظيفها في كتابة هذه النصوص. وقيزت أشكال معمارية جديدة 
وفقا لهذا المعيار» ومنهم من ركز على إمكانات مادة البناء في تكوين 
أشكاله إذ أن معايير التقييم متغيرة ومتطورة على مر الأمكنة والأزمنة, 
ولكي تطأ الأشكال المعمارية مستقرها لا بد أن تمتثل لعايير معينه مستندة 
إلى الأرضية المشتركة التي أسستها نظرية الشكل مسبقاء إذ يفترض 
بالمصمم تبني هذه الاشكال دون غيرها في تأليف الشكل قيد التقييم» أي 
أن المصمم يقنع المجتمع من خلال تبريراته لاستخدام هذه الأشكال دون 
غيرهاء وتبيان تجليات انتقاء شكل دون آخر وإنضاج دور الجانب النظري 
في تصنيفها وتأويلهاء وهذا ما جعل المعمار ملماً بمعطيات شتى, ويحمل 
لسان شجاع ومنطق الحكماء في الإقناع. 


إن استخدام المصمم لعنصر دون آخر يجبره أن يدعم اختياره» 
بأسباب تحقق إقناع المتلقي, وإن كان أنكر ذلك فإن الشكل ينطق هذه 
الأسباب وفقا للمعايير السارية» إذ يسهل على المصمم دعم أي شكل 
معين بمدى واسع من المعاني» ووفرة هذه التبريرات وتراخي ارتباطها 
بأشكاها يخلق حالة من (تحكم) المتلقي هذه المعانن لتنوعها الكبير» إذ 
أضحى بإمكان المصمم أن يبرر كل أشكاله باتجاه غاية معينه أو كل 


1o 


الغايات باتجاه شكل معين» وبالتالي أصبحت النظرية في العمارة مثبطاً 
لاستمرار المصمم في إيجاد الأشكال الجديدة الملائمة لغاياتهاء فهو قادر 
على التبرير مق شاء وكيفما شاء. فبمجرد توفر الإجابات عن استخداماته 
لشكل دون آخر توقف تطور المشروع. وهذا ما يلاحظ في الأوساط 
الطلابية لدارسي العمارةء إذ إن دافع تطور الشكل المعماري يتراجع بتوفر 
الإجابات والمبررات لاستخدام هذا الشكل أو ذاك, ورا يكون هذا 
التأثير قليلا في أشكال المصممين المحترفين الذين تجاوزت خبراتهم للنظرية 
الواحدة فهم يستمدون قوى استمرارهم في تصاميمهم من خبراتهم 
المتراكمة. ولا يمكن للمصمم التفاهم مع المتلقي دون تعاريف مشتركة, ولا 
يمكننا تقبل تكوين شكلي دون نظرية طالما هناك ضرورة لاقتناع المتلقي 
بالشكل الجديد وتقبله» ضرورة لوجود مبرر يمنح المصمم الثقة في تقديم 
أشكاله دون غيرها ('). 


إن النظرية تتولد حول محور غير معلن وهو الاختلاف عما سبقها. 
وكل نظرية هي التبرير لهذا الاختلاف. وملء فراغات ونقص فيما سبقها 
من نظريات وإعلان تطور في منهجها. فقد تبنى الوظيفيون في الحداثة 
الغربية أشكاهم لاعتقادهم بأن الوظيفة الجيدة تخلق شكلاً جيداًء وتكرار 
بناء الأشكال المعمارية وفقا هذا المعيار أنتج ملل المتلقي من هذه 
الأشكال فتسابق المصممون إلى توفير أرضية جديدة لتأليف أشكال 


أ الدكتور مشاري النعيم: بتصرف من مقال نظرية الشكل المعماري - جريدة الرياض - الرياض 
يوم السبت ۱٤۲۲/۸/۲۷‏ الموافق .۲٠١۰٠۱/۱۰/۲۷‏ 
۳٦‏ 





جديدة اعتمدت الشكل التاريخي الذي يتطور بضرورات الحاضر كتبرير 
للهوية المفقودة في الاشكال التي سبقتهاء فتولد تيار (ما بعد الحداثة)» 
وبذلك اختلفت في أشكالما عن الوظيفية» وهذا هو لب القضية. ثم انتقل 
المعماريون بعدها إلى نظرية أدبية فلسفية متمثلة بالتفكيك. والتي تهكمت 
على التاريخية مبررة ذاتها بالتطور الحاصل في كل الحقول وضرورة التعقيد 
تناسباً مع المتاخم من الحقول, لذلك اختلفت عن سابقتها. 


الكل يتبنى النظرية الجديدة لأنه يبحث عن أشكال مختلفة عن 
السابق وهذه النظريات هي التي تمثل الأرضية المشتركة وتجعلهم يقبلون 
هذا الشكل ويثنون عليه دون غيره. فالاختلاف كان الماجس. والنظرية 
تجد التبرير للأشكال بالضرورة, إذ أن عدم النظرية يعني أن التكوينات 
المعمارية تدور هي ومعانيها في ذهن المصمم فقط ولا بمكن قبونها من 
الآخر. فلنتخيل أن شكلاً من العمارة المعاصرة عاد الى القرن السابع 
عشر! بالتأكيد سيبقى معزولًء لا يمكن تقبله بالدرجة التي يفنى عليه في 
عصره. فالشكل المعماري هو بأمس الحاجة إلى هذا التغيير المستمر كسمة 
طبيعية للإبداع» ودرءًا للملل والتكرار» فالنظرية المعمارية تعبد الطريق 
لتقبل هذه الأشكال الجديدة. 


والشكل المعماري يختلف عن غيره من جوانب العمارة في كونه قابلا 
لاستيعاب أنواع كثيرة من النظريات تسحبه في اتجاهات مختلفة تمنحه 
ديعومته وشبابه. وإن للمصمم حق في تبني أي نظرية طالما تحقق له هذه 
النظرية اختلافا في الأشكال عما سبقها؛ فمحور الاختلاف هو محور توالد 


1Y 


وتمافت نظريات الشكل العماري» وأشكال هذا المصمم تعد رائدة 
ومبتكرة دائما لأنما ولدت من رحم النظرية الباكر وسوى ذلك هو 
استدساخ لما سبق» ولا بد له أن يحصل كي يستنفذ إمكانات هذه النظرية 
وتشح وليداتها من الأشكال» فتبزغ وتتنفس الأخرى على إطلاها (') 


وتؤكد نظرية العمارة إلى أا تنشأ من مجموع أو محصلة عوامل 

تشكل البيئة المؤسسة والحفزة بشقيها الطبيعي والنقاني» والبيئة الطبيعية 
هي المكان الذي يعني المناخ والريح ودرجات الحرارة والرطوبة وطبيعة 

الأرض والتربة والموارد الطبيعية الواهبة لخامات البناء وما إلى ذلك. أما 
البيئة الثقافية فهي العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية 

والنفسية واللسانية والعقلية. وإن تلك البيئات تملي بمعطياتًا على حلول 
التجمعات العمرانية (حضرية وريفية) با يؤثر مباشرة على الظروف المكانية 
وليس بعيداً عن الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية للإنسان, 
وذلك في كنف جدلية (الساكن والمسكون)., بعد تأثر ذلك النمط 

التصميمي بالعوامل نفسهاء حتى وإن كان نمط التجمع العمراني الحضري 
قد نشأ من شطط تلاقحات ومصادر معمارية شتى. حدث الأمر بعدما 
تمخض ذك التجمع عن الفكر الجمعي جتمع بعينه كما هو حال مجتمع 
المهاجرين من الريف إلى المدينة 


إن التداخل بين معطيات المكان (الأرض- مواد البناء - الأشجار 
والنباتات - المناخ والبيئة -الموارد الكامنة والمكتسبة) والحاجة إلى الامتداد 


' الدكتور مشاري النعيم: المصدر السابق. 
1۸ 


العمراني من أجل تلبية حاجات وتطلعات امجتمع, أدى إلى إيجاد وسائل 
وأسس تخطيطية وتصميمية عمرانية تحاول أن تحقق التوافق والانسجام 
(بيئيًا - اجتماعيا - وظيفيًا وجماليًا) مع مقتضيات ومعطيات البيئة» وذلك 
من أجل إيجاد بيئة حضرية متوازنة ومتجانسة وصحية تستند إلى معايير 
التنمية والاستدامة العمرانية. 


وة مقتضيات بيئية جوهرية تسّير عملية الموائمة التخطيطية للمكان 
المديني مثل تضاريس الأرض الطبوغرافية وتوافر العناصر الطبيعية كالجبال 
والتلال والأغار والبحيرات والغابات والحقول» ويدخل ذلك ضمن حبكة 
الموازنة التخطيطية والحلول الوسطية التي يلعب المعمار والمخطط الحضري 
دورا أساسيا في موازنتها من خلال حسه ال مكاي وثراء تجربته بالتعامل بين 
العموميات الشوارعية والتفاصيل العمارية المتعلقة بالتوجيه والإطلالة 
وتحاشي إعاقة أو تعنيف أو تخريب العناصر الطبيعية» بل الاستفادة 
القصوى من مواضعها وشكلها. ولا بد من تحاشي التضارب في وظائف 
المدينة أو إهمال سهولة الوصول وحتى الدفاع عنها Defensibility and‏ 
ityاAccessibi.‏ وهذه الحبكة في الموازنة التخطيطية تلعب الدور 
الجوهري في إضفاء شكل معين على المكان المديني» وإظهار ماعا من 
خلال عناصرها الشاخصة من عمائر ونصب أو ميادين وساحات أو 


ويشكل الأس النفعي أساس كل عملية تخطيطية من خلال دراسة 
الموقع والموضع 100261012 & 51112108 والاستفادة القصوى من 


as 


العناصر الطبيعية ومصادر الطاقة ولا سيما المستقبلية والمستدامة والبيئية 
بجا يصب في صالح الاقتصاد والإنتاجية والتنمية أو الوضع الثقافي 
والاجتماعي والنفسي للسكان» وكل تلك أشكال وجات تترك الأثر داخل 
النفوس. 


ولا بد من رصد مدى تأثر المناطق المزدحمة بالسكان والعمران 
المنهالك والطرقات والشوارع الضيقة والباني السكنية التي تفتقر إلى 
المساحات المفتوحة والخضرة والأزهار والشجيرات تصيب السكان بالقلق 
والانقباض وعدم الراحة» وقد يؤدي ذلك إلى كثير من الأمراض النفسية 
والاختلالات الاجتماعية, وتنبذ الكفاءة وال مهارة بين الأفراد نما ينعكس 
بالسلب على اقتصاد وتقدم اجتمع 


إن الشعور بالإحباط والتوتر وعدم الاهتمام واللامبالاة والتي قد 
تظهر في بعض المناطق العمرانية ولا سيما في المجتمعات التي تفتقر إلى 
أساليب التخطيط العمراني وخطط التنمية الشاملة هي نتاج متوقع لعدم 
الاتزان بين البيئة والعّمارة» التي تعكس بؤس العقلية ومساوئ الوضعء 
فتكون الأشكال المكانية هنا الأصدق في التعبير عن الحتوى الحقيقي 
للمجتمع» مثلما سياقات ثقافية أخرى مغل اللّغة (') 


' ها ما يطلق عليه (علم اللغة الاجتماعي) وقد بينت في مؤلفي (الألسنة العراقية -17١١؟‏ بغداد) 


بعض ما رصدته يبهذا الجانب با جص امجتمع العراقي. 
ين 





إن ظهور أشكال بنائية جديدة تمليها تكنولوجيا جديدة يصاحبها 
دائمًا تغيرات اجتماعية واقتصادية وبالنتيجة سلوكيات قد تؤدي إلى تدني 
المستوى البيئي وانجال الحيوي العام إذا لم يصاحبها وعي نابع من حاجة 
يواكب هذه التطورات الحديثة. ولنضرب المثل في مدن مثل دبي التي 
نضجت بسرعة, ولم تتعامل مع فترات التطور العضوي الذي سلكتها 
المدن من قبلء فانعكس ذلك في محياها الشكلي» بعد أن غطت الباني 
العالية حي البستكية التقليدي» وبذلك أمست أشكال المباني الحيطة بما 
وني مدى البصر ولا سيما في شارع الشيخ زايد مبهرة للناظر» دون أن 
يكون لها نفس النتائج في تطور الحس البشري ولا سيما المحلي وليس 
الوافد والعابر والسائح. 


فالأمر لا يتعلق بالأشكال الخيلائية الناتجة عن فورة حداثية» بقدر ما 
يهمنا هو استيعاب الناس الحللين لتلك الأشكال وإيجادها من حاجاقم 
وسياق أذواقهم. وهنا تقف الأشكال الخلاسية عكس الذوق العام 
والرغبات, إلا اللهم ما يراد منها انحرافا جذريا لحركة الجتمع وهو ما تعاني 
منه مجتمعاتنا كلها راسخها وجديدهاء في القاهرة أو الدوحة, وهذا ما 
يخالف ذاكرة المكان المتماهية مع مقتضياته التي دمغت الثقافة والعقلية 
الحلية. 

إن الرتابة والتكرار والشعور با ملل بسبب عدم تناغم الكتل البنائية 
مع الفراغات والتناقض والتضاد في أساليب المعالجة المعمارية بما توحيه 
بعدم الوضوح والضياع وافتقارها إلى الترابط والتناغم مع النسيج العمراني 


۳۷۱ 


وعدم الالتزام بالمخطط الميكلي العمراني والذي ينظم استعمالات الأراضي 
وانعدام الخصوصية والأمان» وشيوع الأداء الفردي على حساب الجماعي 
المنسجم. ثم ما يليها من حدوث إضافات وتغيرات على المباني والتهالك 
الذي يحصل على الوحدات البنية وانخفاض عمرها الافتراضي واختفاء 
مات التراث الحلي المتماهي مع بيئة المكان الطبيعية والبشرية مثل الذاكرة 
البصرية والتقاليد الاجتماعية» وإلى انتشار أغاط معمارية غرائبية وخلاسية 
تتنافر فيها الأشكال المتجاورة وتعم الفوضى والتناشز في الارتفاعات, 
وحينها يبدأ الشق الثاني من معادلة (الساكن والمسكون) 


تبدأ تلك الظواهر الشكلية تنافي وتجافي فطرة المجتمع, با يؤثر سلبا 
على حياة الناس» ويعمم السقم والسأم في نفوسهم» ويجعل من الأشكال 
المنتجة سببا في بؤس الحياة العامة» كما هو حاصل اليوم في مدن عربية 
كثيرة مثل بغداد والقاهرة ودمشق ووهران. 


وني حبكة التخطيط للمكان المديني تؤثر وتتأثر جميع الظواهر 
المناخية (رياح» إشعاع خمسي. درجات حرارة» رطوبة» وغيرها) بجميع 
العناصر التخطيطية والتصميمية للتجمعات العمرانية والمشاريع الإسكانية 
كالأبنية وارتفاعاتها وشبكة تخطيط طرق السيارات والمشاة وطريقة توزيع 
وتدسيق المناطق الخضراء من أجل أن تلي مقومات الحل التخطيطي 
والتصميمي الحضري (العمرانى) جميع أهداف وغايات الراحة للإنسان 
ومن أجل أن تتغلب مناهج المعالجة على الظواهر المناخية غير المرغوب 
بماء وهذا ينتج أشكالا بعينها ورد الكثير منها من عمق التراث, 


VY 


واستجدت أخرى كما مثلا كاسرات الشمس» حتى أصبح شكلها 
وظيفي ووقعها مريح للنفس» وشيوع طرازها أمر مرغوب به. 


يؤخذ بالحسبان تأثير الرياح في درجة الحرارة المطلوبة داخل المسكن. 
ولهذا يحب عند تخطيط وتصميم التجمعات العمرانية إيجاد حركة تيار 
هوائي طبيعي داخل الوحدات السكنية لتوفير توية مباشرة في أرجاء 
الوحدة السكنية, وذلك من خلال عملية تحفيز تلك الحركة بين المناطق 
المضللة والمشمّسة, حتى لنجد أن تلك التيارات تعاكس أحياناً الريح 
الغالب الذي هو الغربي في أكثر البيئات العربية. وهذا بالضبط ما وجدناه 
في النسيج الحضري التقليدي» فقد أملت عوامل البيئة الطبيعية بالتفاعل 
مع البيئة الثقافية» نسيجًا حضريًا كنيقًا ومتراص الأجزاء في المدن العربية 
الإسلامية التي تشترك بظروف مناخية متشابمة "غالبها المناخ الجاف 
الحار"» وساعد هذا التكوين على توفير أكبر قدر من الظلال وتقليل 
انعكاسات الإشعاع الشمسي التي ترفع من درجة حرارة المهواءء نما أدى 
إلى تقليل الطاقة الحرارية النافذة إلى المباني وخفض درجة حرارة الحواء في 
الأزقة الضيقة مقارنة بدرجة الحرارة في الفناءات الداخلية المفتوحة التي 
تستلم كمية إشعاع مسي أكبر من الزقاق؛ ما يؤدي إلى تخلخل وانخفاض 
في الضغط الجوي (سالب) داخل الفناء مقارنة بالزقاق (ضغط موجب)» 
وساعد هذا الاختلاف في معدلات درجات الحرارة خلال النهار على خلق 
تيارات هوائية تساعد في تلطيف المناخ في المدينة» في حين تنعكس العملية 
في الليل بسبب سرعة الفناء في تصريف الحرارة المنبعثة من الميكل 
الإنشائي لسعة حجمه الفضائي مقارنة بالزقاق» هذا فضلا عن دور 

۷۳ 


المعالجات المعمارية المكملة كالبادكيرات (الملاقف) والشناشيل (المشربيات 
أو الرواشين)... الخ ناهيك عن مواد وتقنيات البناء المستخدمة. وهذا ما 
جعل العناصر والأشكال المعمارية تنحى نحو الوظيفية البيئية» حتى أمست 
جدواها سببا في الشغف بماء وإحاطتها بعاطفة المكان. 


ويمكن الاستفادة من هذه الأسس في معالحة التكوين الفضائي للمدن 
العربية الحديثة التى انساقت وراء التحديث أكثر من حداثة نابعة من 
حاجة وتطور عضوي» حيث يعانى اليوم نسيجها الحضري بالتفكك 
والفوضى» والنأي عن العقلانية. 


وهنا نرصد أن سبب اختلاف المناخ في كل موقع يعود إلى اختلاف 
المعطيات الطبيعية التي تسهم بشكل أو بآخر في تغيير المواصفات المناخية 
للموقع كالطبوغرافيا ونوع التربة والمعطيات الهيدرولوجية للموقع» فضلا 
عن الغطاء النباق والفعاليات الإنسانية والكثافة البنائية وتخطيط شبكة 
الشوارع ولكنها تؤثر في المناخ الحلي للموقع بعد إنشاء المشاريع العمرانية 
على أرضه» بينما تؤثر طبيعة الموقع الطبوغرافية ونوع التربة والاعتبارات 
الميدرولوجية على المناخ الطبيعي عند تسجيل البيانات المناخية الأولية 
للمساعدة في اتخاذ قرار اختيار الموقع بناء على مدى الرغبة في اعتبار 
المعطيات المناخية للمكان(') 


أ حسام النعمان - رضوان الطحلاوي - تأثير البيئة الطبيعية والثقافية في تشكيل البنية الفضائية 
- مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية امجلد الرابع والعشرون - العدد الثاني 2008 - 
YE‏ 





وفي المدينة العربية الإسلامية الوارثة لريادات الشرق في تأسيس المدن 
وتطورها التقليدي» حيث ارتبطت الوحدات السكنية ببعضها بعلاقة 
تماس» إذ تتلاصق الوحدات ضمن النسيج المتراص للمنطقة» فضلا عن 
بعض الحالات حيث تغطي فيها الوحدة السكنية وحدات أخرى» ولذلك 
يظهر نمط آخر من أنغاط التسلسل الحرمي على مستوى الوحدات 
السكنية» يهدف إلى توفير الخصوصية والأمان للساكنين بالاعتماد على 
منهج التقسيم الفضائي بوصفه قاعدة أساسية في التنظيم الفضائي. يتم 
فصل الفراغات إلى مجاميع معينة نسبة إلى الفعاليات المرتبطة جا بحيث 
تشكل سلسلة فضاءات ذات درجات خصوصية مختلفة تندرج من فضاء 
المدخل الرئيسي (أكثر الفراغات عمومية في الوحدة السكنية), والذي 
يرتبط بفضاء الفناء الوسطي بواسطة حور غير مباشر» حيث يمكن الانتقال 
منه إلى الفضاءات الأخرى ذات درجات الخصوصية العالية (مثل غرف 
النوم) ترتبط الفراغات بعضها ببعض بعقد للحركة تعمل مفاصل بين 
الفراغات والتي تكتسب هي أيضًا درجات عمومية متسلسلة هرميًا تبدأ 
بفضاء المدخل الذي بمثل أكثر مناطق الحركة عمومية» يليه الفناء 
الوسطي, ثم عقد الحركة التي تتضمن السلام المؤدية إلى الطابق الأول» 
ومن ثم عقد الحركة في الطابق الأول 


بحقق هذا التنظيم للوحدة السكنية أعلى درجات التناقض بين 

الداخل والخارج» إذ تفتح الغرف على الفناء الوسطي» محققة أعلى نسبة 

للانغلاقية عن الخارج.. التنظيم الفضائي في مثال البيت الشرقي عمومًا 

اعتمد على وجود فنائين رئيسي وانوي محققًا بذلك أعلى درجات 
o‏ 


الفصل بين العام والخاص ضمن الوحدة السكنية حيث يمكن تخصيص 
الفراغات المرتبطة بالفناء الثانوي للضيوف» وبذلك يتم عزل هذا الجزء 
عن باقي فضاءات العائلة بصورة تامة تقريبًا لأنه يوجد مدخل خاص به 
من الخارج يفتح على زقاق آخر غير الزقاق الذي يقع عليه المدخل 
المؤدي إلى الفناء الرئيسي. 


إن شكل العمارة يبقى دائماً تعبيرا حيًا وصادقا عن القيم الفكرية 
السابقة والحاضرة للمجتمع» أي أن شكل العمارة يعبر عن هوية أي مجتمع 
ماء لأن مفهوم الحوية في العمارة بشكل خاص يرتكز على مبدأ نظري 
مفاده أن العناصر والأشكال والمفردات المعمارية تعكس نمط حياة الشعب 
أو الجتمع الذي ينتجهاء وغغط الحياة يتضمن العادات والتقاليد وأساليب 
التفكير والمعتقدات الدينية والمبادئ الأخلاقية والقيم الاجتماعية» وغير 
ذلك ما يقع ضمن مفهوم الثقافة أو الحضارة. 


وما يدعم هذه النظرية هو الرؤية الواقعة للطرز والأساليب التصميمية 
والإنشائية المتباينة لمختلف الشعوب» فما أنتجه أي شعب من عمارة 
خلال وجوده في بقاع جغرافية معينة, تختلف في الشكل والتعبير عن تلك 
التي أنتجتها شعوب أخرى في أماكن أخرى» حتى في الحقبة الزمنية نفسهاء 
وباعتبار أن الإنسان واحد بالطبيعة والحاجات الحياتية الأساسية, فإن 
النظر إلى العمارة على أتما تعبير عن الثقافة والحضارة هي نظرة تمدف إلى 
تفسير الاختلاف في التعبير المعماري, ومن خلال هذا التفسير يبرز بعد 
الموية جليًا حيث تصبح العمارة تجسيدًا مهما لخصوصية الشعب والجتمع 


۳Y 


الذي ينتجهاء ولا كان للعمارة دور جوهري في تحديد إدراكنا وإحساسنا 
المكاني, لذا فإن لمفهوم الحوية أثرا كبيرا في تحديد طريقة إدراكنا للمحيط 
المعماري الذي نعيش فيه وأسلوب تعاملنا معه. 


يذكر الإنكليزي روسكن - ملاونا! (۱۹۰۰-۱۸۱۹) في 
كتابه (السرج السبعة للعمارة The Seven Lamps of Architecture‏ 
الصادر عام ۱۸٤١۹‏ )» في أن (عمارة أي بلد تعكس شخصيته القومية, 
ولذلك فإنها التعبير النهائي للنمط الشكلي الذي يستجيب إلى خصوصية 
الوضع الحضاري الذي ينتمي إليه النتاج المعماري فيكون الشكل مشتقا 
من عادات وتقاليد ذلك الوضع.. إن الأسلوب أو الطراز المعماري يحب 
أن يكون طبقًا للمعايير والشروط الخاصة بوضع المبنى تأثير البيئة الطبيعية 
والثقافية على تشكيل البنية الفضائية وانتمائه الحضاري وليس بأن يستورد 
من ظروف حضارية أخرى» إذ إن على المعماري أن يترجم روح المكان؛ 
وأن يربط عمله بانتمائه الحضاري) (') 


$ 


8 


يركز قسم من الدراسات الاجتماعية ضمن البيئة المكانية على تمركز 
الكثافات السكانية للمجتمعات ضمن مراكز المدن وانتشارها تدرييًا 
باتجاه احيط. وتؤثر هذه الانتقالات في نط بنية الجتمعات الناتجة وتفاعلها 


^ الأسدي» أسعد غالب حسين, ماهية العمارة) دراسة تحليلية نقدية( أطروحة دكتوراه غير 
منشورة» إشراف :أ م8 .فائدة نوري عطو جامعة بغداد, كلية الهندسة»قسم الهندسة المعمارية, 
, 1998ص205 


YY 


مع البيئة الجديدة, إذ أن عاملي التمركز والانتشار يمثلان جدلية العملية 
الحركية لوحدة المتناقضات ولاسيما في عصر الصناعة والضغوط 
الاجتماعية الكبيرة على مراكز المدن. أما جدلية The Inner City‏ 
مجموعة البحوث المنشورة في (15119) فتوضح العلاقة المتناقضة بين 
النمو المعقد لمراكز المدن والدفع الداخلي باتجاه الخارج» وكيف تؤثر القيم 
المتوارثة في سحب أو تجميع الكثافات السكانية داخل مراكز المدن.. 
ويعتقد أن هذه الحالة ليست خاصة بمجتمع معين وإغا تتعرض ها مختلف 
المجتمعات وخاصة الصناعية والنامية» كما يزيد ذلك كل من خلال 
دراستهما للقيم المتعلقة بالحرية الفردية والتنوع» والتعدد المتوارث ضمن 
القيم الموروثة أو المستحدثة في الجتمع. 


إن كثيرا من الدراسات تعد العامل الثنائي (الاقتصادي- الاجتماعي) 
هو الأساس في تكوين وتوزيع الكثافات السكانية» ومن ثم يمثل الحدد 
الأول لتشكيل أغاط الحيئة الحضرية داخل مراكز المدن وخارجها. بل إن 
قسمًا من هذه الدراسات» ومنها نظرية (حركية) تبحث في حقول علم 
(Dimities)من‏ حركية المدن 010165) 01 1290310125 وذلك في محاولة 
للتوصل إلى الحركية الداخلية للأحداث الاجتماعية», وتذهب تلك النظرية 
إلى أن العالم الحضري ككل يتأثر بتغير التحرك الجمعي الاقتصادي للأجزاء 
المختلفة فيه وتعتمد القاعدة الأساسية للنظرية على تحليل مفاهيم مستقاة 
من علم الاجتماع, وإمكانية الاستفادة منها في خلق نظرية تخص المكان 
فحواها (بيئية - اقتصادية) للعالم ككل» وتعتمد على قاعدة الطلب 
والتجهيز والسعر, وتتحدد بعنصرين أساسيين هما سكان الحضر والأقاليم 


TYA 


مقابل الأنساق الحركية (الدينامية) لمدخولاقم كعنصرين مهمين لتحديد 
الانتظام مقابل عشوائية التغيير ضمن نسق من التوزيع العالمي للسكان 
والمدخولات. 


وهكذا لا بمكن إهمال تأثير العامل الاجتماعي في تشكيل البيئة 
الحضرية سواء التقليدية أو الحديثة, ويجب النظر إليها كمعطى ملموس 
جاء من الواقع لا عن الفهم والتحليل إذ تعد العلاقات الاجتماعية واقع 
إيقاع المجتمع. . إن هذه البنية هي الحقيقة الاجتماعية بعينها أو أحد 
أوجهها وليست المنطق الكامن خلفهاء وإن التحليل البنيوي هو منهج 
للوصف وليس وصقا. ويبرز لدينا هنا ما يختص به علم الاجتماع العمراني 
الذي يعنى بالعلاقات والمؤسسات الاجتماعية في الحيز البنائي, منطلقًا من 
معطيات مفادها أن الإنسان وامجتمع في البيئة المعمارية هما الموضوع» وإن 
الفراغ المكاني هو الأرضية أو الوعاء الذي يحوي هذه العلاقات, وذلك 
على اختلاف خصائص الفراغ الفيزيائية والنفسية والاجتماعية. 


لقد أدت الروابط الاجتماعية والأعراف والتقاليد في الجتمعات 
العربية دورا كبيرا في التأثير في تشكيل البيئة العمرانية» وقد كان هناك 
مستويان من العلاقات: علاقة الإنسان بالخالق» وعلاقة الإنسان بأخيه 
الإنسان, ولا تتم إحداهما إلا بالتفاعل مع الأخرى, فأثر ذلك في إعادة 
هيكلية الجتمع الذي أصبح يعتمد مبدأ التوحيد وظهرت تأثير البيئة 
الطبيعية والثقافية على تشكيل البنية الفضائية الحاجة إلى التحكم في 
السلوك والاتصال الاجتماعي كواحدة من أهم المحددات لتصميم 


TY 


الفراغات» ويتضح هذا جليًا في مستويات التكوين الفضائي ابتداءً من 
تصميم المسكن حتى تشكيل اليكل العمران» وكان المبدأ في ذلك هو 
إيجاد التوازن بين الخصوصية المطلوبة للأسرة والتلاحم المطلوب للمجتمع 


وني إطار المجتمع نجد عدة مستويات للعلاقات الاجتماعية نما يستلزم 
إيجاد قدر من التحكم في الاحتكاك الاجتماعي. واستطاع امجتمع 
التقليدي البسيط أن يلبي احتياجاته من خلال تنظيم الفراغات في تدرج 
مرتبي من العام إلى الخاص إلى أن يحكم هذا التدرج المداخل ومحاور الحركة 
التي تحكم الصلات الاجتماعية. 


وعودة إلى بدء رصانة التراث حينما كان المعمار التقليدي (المعلم/ 
الأسطى) محورا للكياسة والمفهومية الاجتماعية» ولاعبا أساسا في العملية 
التنظيمية للمجتمع من خلال تدخله بماهية العمارة. وهذا عينه ما تركز 
عليه العمارة الحديثة في سعيها أن يكون المعماري مصلحاً اجتماعياًء وله 
القدرة أن يغير من سلوك أفراد المجتمع من خلال تغيير خصائص البيئةء 
ويؤكد هذا التوجه أن المعماري يعرف أكثر وأفضل من غيره» وإن من 
واجباته تحديد شكل البيئة المكانية» وتوفير الفرص خياة أفضل؛ فالبيئة 
العمرانية والحيئة الحضرية لا تتشكل بترتيب وتجميع الأشكال الحندسية 
المجردة أو الطبيعة العضوية والحجوم التي تظهرها الرسوم وبرامج الحاسوب 
الإبمارية فحسب» بل إن من واجب المهندس المعماري أو المصمم 
الحضري أن يكون واعيًّا للمفاهيم والقيم الفكرية التي تعكسها أشكال 


YA. 


الكتل والفراغات وأغاطها المختلفة. سواء في الجانب الوصفى والتحليلى 
أو في الجانب التصميمى 


وكان للدراسات النفسية (السيكولوجية) أهميتها الكبيرة أيضًا في 
تأثيرها في النتاج المعماري من قبل المصممين المعماريين والحضريين وأيضًا 
من جانب التلقي ومستخدم العمارة كنشاط إنساني حيوي؛ فتلك 
الدراسات (كانت ضمن سياقات الفلسفة) واهتمت بالمبادئ الأساسية 
والنشاط النفسي والصفات والأحوال النفسية ابتداءً من العصور القديمة, 
حتى منتصف القرن الثامن عشرء ومع إدخال المنهج التجريبي للعلوم 
الطبيعية في علم النفس وتطبيقاته أصبح الأخير مجالاً مستقلاً من مجالات 
المعرفة, وبدأ يؤثر في المجالات العلمية النظرية والتطبيقية الأخرى. وأخذ 
المصممون الحضريون والمعماريون يبحثون في جال علم النفس مستقين من 
المدارس الفكرية له آراء ونظريات لتطبيقها في مجال تحليل وتصميم البيئة 
الحضرية؛ فتأثر الأخير بالمدرسة السلوكية التي يعتمد الأساس النظري ها 
على اعتبار أن العلاقة بين المنبه والمستجيب هي الوحدة الأساسية لمعرفة 
واكتشاف الفرد لبيئته واعتمدت مفاهيم علم النفس الترابطي» واعتمد 
آخرون نظريات الكشتالت الاجتماعي ( 0651216) في علم النفس» 
كأساس لوصف وتحليل مكونات وعناصر البيئة الحضرية. 


وثمة العديد من البحوث والدراسات الحضرية التى تعتمد على تحليل 
الجانب الإدراكي كجزء من سيكولوجية السلوك الإنساني. وهي تم 
بالطريقة التى يدرك ما الإنسان عناصر البيئة الحضرية الخحيطة به فظهرت 


۳۸1 


مفردات مثل الصورة الذهنية كما تبناها 5016170212 البنية وفق قواعد 
خاصة بشكل مخططات (ع17028 2/162121) كجزء من الإدراك الإنساني 


وأثره في بناء المعرفة البيئية 208010101 Environmental‏ 


ومن المنظرين في مجال التصميم الحضري الذين اهتموا بالأمر لنج 
( طعهن.آ) من خلال إدراك عناصر ومكونات الحيئة الحضرية بالاعتماد 
على الخرائط الذهنية والمخططات الإدراكية والبناء الذهني للمكونات 
الفيزيائية للبيئة الحضرية. كما طرح مفاهيم جديدة أخرى ضمن نظرية 
معيارية باعتماد الأبعاد الأدائية لإدراك وتحليل البيئة الحضرية ضمن 
مقاييس ذوقية 1011016151015 2611011121106 تفضيلية. وهناك بحوث 
ودراسات أخرى اهتمت بظاهرة الانتماء المكاني في البيئة الحضرية كونا 
إحساسًا كامنًا لدى الإنسان يعبر عن حاجة 8261022108 نفسية 
واجتماعية أساسية بين تفاعل الإنسان مع بيئته. المكان الذي هو فيه, 
ومع الجتمع» وتعكس أفعاله وتصرفاته المختلفة ('). 


1 حسام النعمان - رضوان .الطحلاوي - مصدر سابق 
YAY‏ 


الفصل الرابع 


المكان الموروث 


00 مكان الاحتراب والخراب‎ . ٠ 
7 وارثو المكان المعماري‎ .١ 


.. الخاتمة: الارتقاء بالمكان التراثى في الزمان الحداثى.‎ ١ 


YAY 


es 5‏ 
٠‏ مكان الاحتراب والخراب 
0 تقديم 
0 التراث المهدد بالفناء 
0 المعماري والسياسة 
0 حروب المدن بين الإخوة الأعداء 


بالرغم من إبماننا المطلق بأن الإنسان أولى وأبدى من الحيطان وأن 
البنيان يبدأ منه وينتهى عند أقدامه ومن أجله, بيد أن الأمر لا يشفع 
إهمال جانب مهم من "سوريالية" المشهد الإنساني» الذي شذ عن 
المخلوقات حينما سعى برعونة الى تصفية نوعه» وإبادة أقرانه, وبصفاقة إلى 
إحراق ممتلكاته. فلجأ إلى الحروب حلا لإشكالياته وتصفية خصوماته, 
ووسيلة لتفريغ ضغائنه وأحقاده واحتقان دواخله, فكان إعلاناً صارخاً عن 
أنانيته وبدائيته في حب الامتلاك وجشع الاستحواذ. وإرضاء نزعة الخيلاء 
والتفاخر والغرور في بواطنه. وعادة ما أردد مع نفسي ما أنشده الإمام 
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزمانا عيب سونا 


١ 


هذا الموضوع ألقيته في محاضرة في المركز الثقافي في مسقط سلطنة عمان تشرين الثاني نوفمبر 
5 ونشرته في الصحف الخلية, وكان ردا على اخبار انتهاكات حدثت في سوريا بين "الإخوة 
المتحاربين" وسط مدائن تاريخية مثل دمشق وحلب» واجتغت أجمل معاللمها. 
0 


ونمجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا 
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعض عيانا 

تشير عبثية المشهد الإنسانن, بأنه يتلذذ بإبادة نوعه» ويهدم ما بنت 
يداه» ويقوض ما ورث عن أسلافه من بناءء ويقلب تلك المناقب بالإيواء 
إلى مثالب, وذروة الخسارة تكمن في أا تطأ بأقدامها الموروث المادي 
للمكان» وتغييب الشاهد على الوجود فيه حق أمسى مكان التعمير 
مسرح التفجير والتدمير. فما فتئنا نرى اليوم مشاهد المدن التي بنيت 
خلال مائة او ألف أو آلاف السنين تنازع الفناءء وتلتهمها النيران وتتحول 
إلى أشلاء. وبعد خود بركان الشرء يغمها ويلفها الاش والكدر. 


كانت الحروب دائما عدو العّمارة» فهى تعمل على عكس منطق 
الإيواء والحماية للإنسان الق سجت ووجدت من أجلها العمارة. والحروب 
أنواع ومبررات» فثمة الاحتلالات والاستحواذات للك الغير» ونجد حروب 


الجيران و"الإخوة الأعداء". وزاد طينها اليوم بلة, ما يسمونه "الإرهاب". 


ومن المسلم به أن لا احتلال لخلاء الأرض وبيدائهاء بل للمكان 
الذي يحوي بنيانا وتحمل سقوفه حيطان» وغرضها حماية الإنسان. حق 
لتنقلب الأمور ويصبح منجز "الزمكان" متاريس حماية الهاجم والهاجَم, 
فتزهق الأرواح وتهجم الديار. ففي خضم التناحر تعمل الغرائز أقصاها 
للبقاءء فيسود الرعب ويتفشى اليأس ويرى الإنسان كيف وظف التقدم 
الحضاري الذي كان محل خيلائه ومصدر اعتزازه» صوب خرابه وفنائه 


TAo 


وكيف تطأ الحرب بأقدامها الملطخة بالوحل ونتانة البارود جميل أحلامه 
وذكرياته. 


صاغ (ه. ج. ويلز) في كتابه (مجمل التاريخ) مصطلح (حرب لإناء 
حرب) حيث ذكر بأن أسوأ الجرائم لا يرتكبها الحمقى والأغبياءء بل 
الأذكياء حينما يسوّقون المبررات والدوافع المنطقية لشن الحروب. وذكر 
عالم النفس (فرويد) أن الطفل بمكنه تدمير العام لأنه لا يرى ولا يتفهم أي 
وجهة نظر أخرى. والمجرم ليس إلا شخصا بالعًَا يجيا ويسلك في حياته 
سلوك الأطفال. وتلك ال همجية مكثت في الإنسان أو تعلمها من القوارض 
التي تقتل صغار أعدائهاء والدجاجات حينما تدع صغارها تنقر صغار 
الطيور الأخرى حت الموت» أو كما تقتل النوارس صغار النوارس الأخرى 
حين تدخل مجال أعشاشها. والتاريخ مليئ أخباره بقصص السبي وهب 
الثروات أما حاضر الإنسان فمفعم بإبادة الإنسان للإنسان. إن عشرة 
اضعاف انفجارات كما المفاعل النووي (جرنوبل) في أوكرانياء سيبيد 
البشرية عن بكرة أبيهاء وهذا ما قد يحدث في العام أي لحظة» فقد 
أصبحت المفاعلات النووية تغطي الأرض وانتشرت حت في البلدان التي لم 
تبلغ حد البلوغ في التعامل مع التقنيات النووية. 

التراث المهدد بالفناء 

نتفق جميعاً على أن التراث المعماري (Architectural Heritage)‏ 
جزء الإنساني الشاملء وبمثل ذاكرة الأمم وعمقها وتميزها وثبوتها في المكان 


خلال متغيرات التاريخ. وني الموروث الإسلامي فإنها تشكل الشاهد 
FA“‏ 


المادي والملموس على تاريخ الإسلام وأدائه الحضاري» وأن الحافظة عليه 
والوعي بقيمته» ليس فسادا أو إفسادا دينيا أو تقليدا لليهود والنصارى, 
كما يذهب بعض "المتفيقهين" في الدين, وإنما إثبات شهادة عن وعي 
السلف واستيعابحم لمنحى الإسلام ودعوته إلى (إعمار الأرض) بالمفاضلة 
عن الأديان الأخرى. نقرأ مقولة تدسب للإمام علي بن أبي طالب (ع)» 
ناصحا ولاته: وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب 
الخراج, لأن ذلك لا يدرك إلا بالعّمارة» ومن طلب الخراج بغير عمارة 
أخرب البلاد وأهلك العباد) .)١(‏ 


وهذا برأينا مبدأ التدمية بحذافيره» ويشير إلى أهمية التراث المكان التي 
تقابل الاهتمام بالعبادات والفقه والدعوة, وبالنتيجة كلها تكرس الحوية 
الإسلامية وتشكل الدعم المعنوي لأي مشروع نضوي مرتجى, ولا سيما 
الحدائي الذي يجب أن ينبع من صلب حاجاتناء وليس تقليدا أو رغبة 


وتسيير من الآخر. 


ولنأخذ شهادة يهودية عن نزعة الانتقام من العمران ودعوة لخراب 
بابل» نقرأه في العهد القديم (التوراة) ما نصه: هكذا قال رب الجنود أن 
أسوار بابل العريضة تدمر تدميراًء وأبواجما الشامخة تحرق بالنار. ونقرأ الأمر 
الذي أوصى به أرميا "النبي" سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا 
ملك يهوذا إلى بابل في السنة الرابعة لملكه. ورمى أرميا كل الشر على 
بابل وأمر سرايا: إن دخلت إلى بابل ونظرت, فقل يا رب قد دعوت على 


' ابن أبي الحديد - شرح تج البلاغة. 
TAY‏ 


هذا الموضع لتقرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس والبهائم» بل يكون 
خرابة أبدية» وإذا فرغت من قراءة هذا السفرء فاربط حجرا واطرحه إلى 
وسط الفرات» وقل هكذا تغرق بابل ولا تنهض من الشر الذي سلطته 
عليها. 


وة نص آخر يطلب بأن تقتل كل نساء وأطفال بابل: “يا نت بابل 
المُخربة طوتى لمن يَازِيكِ جَرَاءكِ الَذِي ااا طوتى لمن َك 
أَطْفَالَك وَبَصْريجِمْ بالصّخْرَة!” (') 


وبحسب نبوءة البي اسحاق» ستعاقب مدينة بابل بشدة على 
غطرستهاء يقول: "لا أحد سيسكنهاء ستبقى خالية على مر الأجيال» حقى 
البدو لن تنصب خيامها فيهاء والرعاة لن يسمحوا لقطعاكم بالراحة فيها". 
ويبدو أن هذه النبوءة اللعينة موجهة نحو الأرض التي عليها بابل» وليس 
نحو سكان بابل وحدهم. وبحسب التقديرات النظرية» أطلق هذا النبي 
نبوءته في القرن السابع قبل الميلاد. عندما كانت بابل تحت حكم 
الآشوريين عام 5/5 ق.م حيث قام البابليون بانتفاضة على الآشوريين» 
كانت نتيجتها مجزرة وصفها الملك الآشوري قائلا: "قتلت الكبار 
والصغار. أنا ل أرحم أحداء وملأت المدينة بجننهم" 


' التوراة - الأسفار ١ه‏ 
AA‏ 


وني عام "51١"‏ ق.م فكن الملك البابلي نبوبولاص من الانتقام عندما 
احتل نينوى» وكتب يقول: "لقد ذبحت الآشوربين» وجعلت جننهم أكواماء 
وبيوهم جعلتها ركاما". 


كانت الحروب بين مالك العالم القديم لا تنتهي» واتسمت بالوحشية 
كما هو حال سقوط بلاد الحيثيين على يد الآشوريين الذين استأصلوا 
شأفتهم من التاريخ» ونجد في النصوص التي تلي تلك الحروب المدمرة أن 
يتوجه الناس الى الحتهم طالبين الانتقام أو اللعنة على المتجبر الحتل؛ لهذا 
السبب كانت المعابد تبنى والأضاحي تقدم والطقوس تقام. ويبدو أن 
آهتهم لم تكن بعجلة من أمرها فيمضي الوقت حتى عصور قبل تحقيق 
تضرعات اللاعنين, إذا كان لديهم ما يكفي من الوقت للانتظار!. 


وقد تحققت نبوءة اليهودء إذ بعد موت نبوخذنصر, عام ٥٦۲‏ ق.م 
بدأت بابل في الضعف, وفي عام ٥۳۹‏ ق.م تمكن قورش الإخميني الفارسي 
من دخول المدينة بدون قتال. وبعد قورش بمائتي سنة اقتحمها الإسكندر 
المقدون وجعلها عاصمة لإمبراطوريته. ولم يطل به المقام بسبب موته 
المبكر. ومع الوقت فقدت المدينة أهميتها ولم يعد أحد يعنى بترميمها. حتى 
اندثرت ومكفت أطلالا وأقام بنو مزيد الأسدي القادمين من جهات 
البصرة لائذين» في منتصف القرن الحادي عشر اليلادي» مدينة الحلة على 


0 


تخومها. 


۸۹ 


ومن سخرية القدر أن تدوين النبوءة في التوراة هو الذي أبقى تاريخ 
المدينة حياء وأنقذها من الاندثار - حسب النبوءة نفسها - وذكرها 
التوراتي هو الذي دفع الأثريين إلى البحث عنهاء وعثروا على أطلاها التي 
دلت على عظمتهاء في حين فشلوا حتى اليوم في العثور على أثر ولو ضئيل 
لمملكة سليمان التي أسهبت التوراة في وصفهاء وثمة من يقول أا كانت في 
اليمن. 


لقد كانت لعنة اليهود على أرض بابل» ليست الوحيدة فتاريخ بلاد 
الرافدين سلسلة طويلة من الحروب والنهب والاستباحة والفظائع من 
طرف القبائل والشعوب الغازية من جهاته الأربع على حد سواء. ومكث 
البعدين السماوي والأرضي أرحم وقعاً. لذلك تراكمت اللعنات» غير أن 
لعنة اليهود. لربما هي اللعنة الأولى الموثقة تاريخيا. ونجزم أن نصوص بمذه 
الغلاظة لا يمكن أن تكون "مقدسة" البتة» وأن المقدس عني لنا الرحمة 
والتسامح, وأن الدين جاء من الله لأجل حفظ خلقه وليس فنائهم. 


لقد كان وقع خراب المدن مؤرقا على خواطر الشغوفين بالمكان الذي 
يعده المعماري موضع إعادة إنتاج الذاكرة, بالرغم من أن ذاكرة المدينة 
ليست ما ننتجه من أمكنة فحسب بل ما نشعر به ويقترن بحنين ماضوي 
(نوستاجيا). وهناك من يتعامل مع المكان المعماري بسطحية كمنتج مادي 
عابر» والحقيقة تشير إلى أن المكان له قيمة تاريخية منذ إعماره» وتصبح له 
مرجعية. إن ولادة المكان المعماري هي ولادة للذاكرة بسبب مرور البشر 
به وإن ذاكرة المدينة معمارياً يرتبط بالحوية؛ فالمعماريون يصنعون الأمكنة 


ن١‎ 


لكن المكان نفسه يتجاوز التعبير الحسي ويتحول إلى عنصر تجريدي في 
الذاكرة حسب رؤية من يمر ويعيش به فلا معنى مشترك للمكان ولا شكل 
بجمع عليه الناس, بيد أن هناك أمكنة وأشكالا تثير بتفاوت الذاكرة 
الجمعية. 


6 


كتب صديقنا السعودي الدكتور مشاري النعيم: عندما يكون 
التصميم المعماري مرتبطا بلوعة غياب الذاكرة وبالرغبة الشديدة في 
استعادتها بصرياً يصبح التصميم هنا مثقلا بالمسؤولية وتتحول العمارة إلى 
أداة إنتاج لا منتج ثقافي حر. لوعة الغياب جذبت العديد من المعماريين 
لاستعادة التراث وبأسلوب سطحي كما أنما حولت العّمارة العربية كلها 
إلى عمارة تراثية تبتعد كثيراً عن الحاضر والمستقبل وتقدم منتجاً معروفاً 
سلفاً. الذاكرة الغائبة كانت سبباً في "غربة الماضي" التي يعيشها البعض 
هذه الأيام وهذا السبب يجعلنا نتجه للخلف بدلا من الأمام. رعا يصعب 
التفكير في حل لكن هذا الغياب يصنع خوفاً دائما من المستقبل يصعب 
التخلص منه. العربي يعيش عالين: عالم الماضي المثير المبهر الغامض الذي 
يظهر دائما على أنه عام ايجابي يخلو من كل إخفاقات الحاضر, الماضي 
الذي يكن الديطرة عليه وتشكيلة حسب الطاجة بد مل المستقبل الذي 
يبدو مظلما. لوعة الذاكرة هي غياب كامل لحاضر المدينة وهذا بحد ذاته 
يبعث على اللوعة(') 


' د. مشاري النعيم - ذاكرة المدينة لوعة الغياب ولذة الحضور- جريدة الرياض - الرياض 
۳۹۱ 


لقد شكى الشعراء وأظهروا اللوعة المرهفة, حينما تستباح مدکم 
ويحكمها البداة والبرابرة(١)‏ وأمسى ذلك عاملا في إثراء الأدب» فتسنى 
لأصحاب القلم من خلق مدقم من خيال ومن أنقاضها حكايا وسرد» 
كما بكى السومريون سقوط مدنهم (ناماقم)» وأهل الجاهلية الأطلال 
والأندلسيون بعد سقوط بلدهم. 








وني الحداثة جد ما دونه "بيرس" في "أناباز" وفعل مثله "كالفينو" في 
"مدن| الا مرئية" وماركيز في سائر رواياته. ومكثت المدن الق دمرقا 








الحروب والقلاقل مادة خصبة في الأدب الروائي الذي يقتضي وجود 
المكان حتى الخرب منها؛ فالمدينة والحاضرة (العاصمة) أكثر مكان تتطلع 
له الجيوش في غايات إذلال العدو واحتلاله. حتى أمست أحداث احتلال 
المدن مادة أدبية وشعرية وسينمية ومسرحية غزيرة» وتصبح بؤرة لويلات 
الحروب» والعمارة هي الخاسر الأكبر بعد الأرواح. 


إن حالة الإهمال والابتذال والفوضى التي تتبع الحروب تكون أخطر 
على ديمومة معالمها. حيث ينشغل الناس خلاها بلعق جراحهم وبناء 
"اقتصاد ما بعد الحرب" المهلهلء والذي يكون للأفاقين والمرابين والسراق 
به صولات, فتختل الموازين» ويصبح الحديث عن التراث ترف وبطرء لذا 


' البربر كلمة رومانية أستعملت للدلالة على غيرهم من الشعوب, ثم اقترنت بسكان شال إفريقيا 
للضغينة» وتداولها العرب دون منحى ومغزى. ونظن بأن مصدر الكلمة آرامي متراكب من تكرار 
(بر)؛ وتعني الأولى ابن والثانية خلاء الأرض» وهذا يعني الإنسان الهمجي القادم من البرية. 
۳۹۲ 














فإن قاع امجتمع يستغل الفوضى ويقتحم مباني التراث ومراكز المدن, 
ويصيغها بحسب عقليته وحاجته المتدنية» فيزيد فوق خرابما خرابا. 


.6 يه .4 


وني وسط الركام يبقى إثارة قيمة التراث ليس هوى ونزوة وصرعة» بل 
تكريس فويةء ولدينا اليوم وني هذا المشهد المختلط ثلاث قراءات للتراث 
أولاها القراءة العصرية له والثانية قراءة تراثية أو استشراقية غربية له, 
والغالغة القراءة التراثية للعصر. والمتمعن المنفحص لتلك القراءات لا يخطئ 
ما يكمن من خطر في نوعي القراءة الثانية والثالثة» إذ يقول المغربي خد 
عابد الجابري: إن الحدف الكامن وراء أية قراءة تقدم نفسها على إا - 
قراءة عصرية للتراث - هو جنب الوقوع تحت سلطة التراث» سلطته التي 
تجرنا ليس فقط إلى قراءة تراثية للتراث» أي إلى فهم ترائي للتراث» بل 
أيضا - وهو الأخطر- إلى (قراءة ترائية للعصر) أي تمديد الماضي جعله 
ينوب عن الحاضر والمستقبل» وهذا ما نحن واقعون تحت براه اليوم, 
فالقراءة الملتبسة بالدين للحياة في الثقافة العربية خصوصاء هي نموذج 
للقراءة التارعخية للحاضرء ولا علاقة ها بما نحن عليه اليوم. 


ولدرء الحروب العبثية التي مبررها أحداث التراث الديني كما يشاع» 
هو قلب امجن ورفض إسقاطها على الحاضر, بل والتحدي بإسقاط الواقع 
الحضاري المعاصر ومعطياته على أحداث التراث. وني السياق يقول عالم 
الفيزياء ألبرت أينشتاين: لا بمكن أن نحل مشاكل اليوم بنفس آلية العقلية 
التي صنعتها. وهكذا فإن كثير من الخراب الذي دمر مدننا جاء متداعياً 


4۳ 


من شطط القراءات عن واقع امجتمعات وتطلعها نحو عقد اجتماعي ضابط 
وضامن لسلامة وجودها. 


والعدوان طبيعة حيوانية وجزء من الغرائز بعيدا عن العقل» وذهب 
كونراد لورنز ١9834 . ١5٠0(‏ ) المتخصص في السلوك الحيواي, بأن 
العدوان الإنساني ينبع بالأساس من غريزة النزال والتي يشاطر فيها غيره 
من الحيوانات. ويشير إلى أن غريزة العدوان في الإنسان والحيوان تخدم 
غرضين أساسيين: الأول هو تحفز الصنف الحيواني على الانتشار والهجرة 
وذلك بمدف الحصول على أكبر قدر ممكن من مصادر الحيط. وهذا 
يتضح من مسالك العنف التي تبديها الحيوانات نحو بعض أفرادها ودفعها 
للهجرة من مناطقها التي تعيش فيها إلى مناطق أخرى, أما الوظيفة الثانية 
فهي ضمان بقاء الأقوى والأصلح ما يضمن إقصاء الأضعف من البقاء 
ودوام الأقوى بالتكاثر. 


والجديد والمثير في نظريته هو أن طاقة العدوان قابلة للتجمع مع مرور 
الزمن إذا لم تصرف في حينهاء وبأن العنف والعدوان ينشأ بصورة تلقائية 
ومتواصلة وبسرعة ثابتة» وبأن إطلاق العدوان ينجم عن تفاعل عاملين 
أولهما مقدار الطاقة العدوانية المتجمعة. وثانيهما توفر العامل المطلق في 
الحيط وقوة هذا العامل. 


وهكذا دأب الإنسان من خلال الوعى تمذيب ذلك الحس» فحاولت 
الفلسفات والأديان أن تجد ها أثر وتأثير في ذلك. ونجد أن الإسلام قد 


E 


سعى إلى تغليب ”مات الفروسية إذا حدثت الحرب» حيث يشهد جميع 
المؤرخين أن الفاتحين المسلمين لم يدمروا المدن القديمة أو هياكلها مثلما فعل 
الآخرون ومنهم الإسكندر كما في برسيبوليس (بارث) والرومان للمدن 
العصية كقرطاجة أو بعلبكء والوندال في روما أو الصليبيين خلال زحفهم 
نحو الشرق ولا سيما في البلقان, أو نابليون في عكاء أو الإسرائيليين في 
جنين والقدس, أو الأمريكان لبغداد ومدن العراق. وقد ساعد ترحيب أهل 
الأمصار بالفاتحين على ذلك وشرعوا بوضع أنساق تنظيمية جديدة لمدهم, 
دون طمس الذاتوية مثلما حدث لدمشق أو القدس مثلاً. 


وكانت المدن الساحلية عرضة للتخريب أكثر من الداخلية, كما 
المهدية في تونس والرباط في المغرب والمرية في الأندلس. وينتقد ابن 
خلدون موقع الإسكندرية في المشرق. وطرابلس وبرقة وسلا في المغرب, 
الذي يعدّه سهل النال من طرف المهاجمين من البحر. ويشير إلى أن 
المدينة البحرية إذا كانت متوعرة المسالك وحوها القبائل» تمنعت بذلك من 
العدوّء ويئس منها كما في سبتة وبجاية. وني ضوء هذا المبرر يفسر لنا 
تسميته الإسكندرية وطرابلس "النغر", إبان الدولة العباسية» وهي التسمية 
التي تطلق على البلاد التي على الحدود. للمخافة المتوقعة فيها من البحر 
لسهولة مهاجمتها. وينصح ابن خلدون: (أن تكون المدينة في جبل» وبين 
أمة موفورة العدد» ومتى لم تكن كذلك, طرقها العدوٌ البحري في أي وقت 


۳4° 


أرادء لأمنه إجابة الصريخ دلاء وعدم غناء حضرها على الدعة في 
١ .‏ 
الدفاع)( ). 
وتقوم المدن الداخلية على مبررات دفاعية أو إدارية وسياسية أو 


تجارية, وتختار لها تقاطع طرق تجارية أو محطات للحجيج. أو موقع مقدس 
حول ضربح ولي صاخ أو إمام. 


لعل أول ما يتبادر للذهن في فكرة الحرب هو الحماية القصوى الذي 
كان له الأثر العميق في تشكيل المدينة العربية القديمة» فتلك الطرق 
الضيقة والمتعرجة وتلك المتاهات كانت كلها ذات مغاز أمنية. كما أن 
المسكن الذي يقع في عمق تلك المتاهات كان مفضلاً من قبل الكثير من 
الناس في ذلك الوقت وكان يطلق عليه "الصندوق" ضمن الهاجس الأمني 
المسيطر على أذهان الناس, بينما مدننا الحالية مكشوفة, فقد نسي الناس 
تلك المخاطر وظنوا أن نعمة الأمن دائمة, فتمددت المدن وتناست أنه قد 
يعود الحاجس الأمني ويلح في عودته ولا سيما ما يدعونه اليوم بمتاناً (الربيع 
العري)» حيث أمسى على حك قدرة العواصم على تخطي فترات القلاقل. 


وكانت مدن العراق نموذجا حربيا خلال العقود الغلاث الأخيرة. كل 
ذلك يجعلنا نفكر بجد كى نعيد تشكيل مدننا وفق هذا الماجس الجديد 
المتنامي. فهل نستطيع أن نعود لتلك المتاهات القديمة, لا أعتقد ولكنه 


' تاريخ ابن خلدون - الجزء الأول - الفصل الخامس: فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما 
يحدث إذا غفل عن تلك المراعاة 
۳۹٦‏ 





أمر جدير بالتفكير والنقاش» فقد تغيرت آليات الحرب وتغير مفهوم الأمن 
وهو ما يحب وضعه في حساب المخطط(') 


يتعدى عرضه مرور إنسان واحد 5٠(‏ سم)»ء ويؤدي إلى متاهة من الشوارع 
التي تبعد ال ارب عن أعين المهاجمين من الباب الرئيس للدار الواقع بشكل 
طبيعي على حافة الزقاق. وبالرغم من أن إعادة توظيف المدينة لتجابه 
الكوارث أمر مكلف ويحتاج إلى وقت طويل الأمد لكنه مهم ولا بد من 
التفكير في المدينة ككائن حي يضمن الحياة لمن يعيش فيه وقد يؤدي بحم 
إلى المحلاك؛ فمدننا الشاسعة تعانى من نقص في الياه وتعيش على "مياه 
ميكانيكية" مصادرها بعيدة عنها ويسهل أن تكون أهدافاً. هذه المخاوف 
الاستراتيجية يحب أن توضع في الحسبان ويجب علينا أن نبحث عن حلول 
ها. ونجد تحامل العدو في ضرب مراكز الاتصال محطات الوقود والطاقة في 
المدن: وهو أمر يحقق له هدفين: الأول إرباك الاتصال بين القوات المدافعة 
عن المدينة» والأمر الثاني هدم الروح المعنوية للسكان من خلال عزهم عن 

رعا يحب وضع بدائل لا تكون هدفاً مكشوفاً لأي معتد» حتى لنجد 
دولة روسيا اليوم» شرعت بالعودة إلى نظام الآلة الراقن بدل الحاسوب» 
كي لا يكون مخترقا من أجهزة المخابرات الأمريكية؛ التي باعتنا برامج 


أ د. مشاري النعيم: مقال العمارة والحرب - جريدة الرياض - الرياض. 
۳۹۷ 


الحاسوب, واحتفظت بمفتاح كل منهاء لترصد كل شئ لديناء حتى ونحن 
في خلواتنا. 


لم نسمع أن الغزاة طمعوا في المستوطنات والمدن النائية والصحراوية 
ذات الشروط المناخية القاسية والإمكانيات الاقتصادية المحدودة, كما في 
مدن حضرموت» ونجد في الجزيرة العربية والأودية والواحات في شال 
إفريقيا كما في أدرار ووادي (مزاب) وورزازات. لذا لم تتبدل لاحقاًء 
واحتفظت بملكاهًا المكانية الأولى. ونجد مدن متعددة الطوابق كما في 
مناطق المغرب وشبام حضرموت لأسباب دفاعية محضة؛, وعادة ما تكون 
الطوابق الأرضية مصمتة ويخترق جدرانما باب واحد, وتبدأ الحياة في 
الطوابق العليا وهي سنة سلكتها العمارة الآشورية ومازالت في البلقان 
تدعى (بيوت الكُلّة) وتصميمها دفاعي محض. ونجد من المدائن من درس 
وانقطع دون تخريب الحروب مثل واسط وسامراء وبطيوه وفتح بورسكري 
في اند لكن الزاهرة على تخوم قرطبة خربت بعد الفتنة الأهلية التي 
جعلتها تحبا وغنيمة للدهماء. 


جغرافياً. ونجد أن مدنما تكون عرضة للخراب أكثر من القطبين أنفسهماء 
كما في العراق» أو بولندة ورومانيا ويوغسلافيا في أوربا مغلا .)١(‏ وف 
الجغرافيا التاريخية نجد حالات مشابمة من نزعة للاحتواء بين شاطئي شال 


' رومانيا تقع بين روسيا والدولة العثمانية وبولنده بين روسيا وأمانيا ويوغسلافيا مفتاح كل الحروب 
۳۹۸ 





المتوسط وجنوبه. فقد تبع الجنوب للرومان 09 البيزنطيين 9 الوندال وحدث 
صراع بين قرطاجة وروما للاحتواء. 


وني أزمّئة المد الإسلامي حدث توسع العرب على حساب شواطئ 
الشمال حتى بلغوا تخوم روما وباريس وفتحوا إقليم البروفانس في فرنساء 
وشربوا من بحيرة جنيف» ثم دار الزمان وبدأت حروب ما دعوه الاسترداد 
(ريكومبستا 8 بين الإسبان والمغاربة التي استمرت ثلاثة 
قرون التي أخرت التقدم في الصوبين حتى اليو وتوجت باللحجمة 
الاستعمارية لفرنسا على الجزائر في سيدي فرج يوم ه تموز(يولية) ٠۱۸۳١‏ 
الذي يدخل في باب صراع الاحتواء بين شال المتوسط وجنوبه ('). ونقراً 
فظائع ما قام به امحتدل الفرنسي لمدينة الجزائر وكيف حول مساجدها إلى 
إسطبلات» وأوقد جنودها النار بأبواجا المزخرفة حطبا للدفء» وحولوا 
المساجد إلى كنائس كما مسجد (كتشاوة) المبني عام 7١1١م‏ وهنا نقرأ 
شهادة ترد في تقرير رسمي كتبته نة التحقيق الفرنسية إلى الملك شارل 
العاشر عام ١/7‏ نصها: (كيف يجوز لنا أن نشكو مقاومة الجزائريين 
للاحتلال في وقت قامت فرنسا بتهديم المساجد وإلغاء القضاء الشرعي 
والاستيلاء على أموال الأوقاف؟ لقد داست السلطات الفرنسية حقوق 
ومقدسات الشعب.. دنس جنودها المساجد ونبشوا القبور وأعدموا 


' كتب عن تلك الحقبة المرحوم أحمد توفيق المدني أول وزير ثقافة جزائري بعد الاستقلال عام 
5, رأسماها (حرب الثلاثمائة عام). 
51 





شيوخاً من الصالين). وتعانن قصبة المدينة حتى اليوم من أثر الحروب 
وإهمال أهلها أنفسهم. 


أما الحروب الأوربية. فقد وجدت ها عدة أعذار» ختمت باهوس 
القومي والصفاء العرقي بالرغم من تاجن البشر في أصقاعها. وعادة ما 
تماجم شعوب الشمال أصقاع الجنوب» سيراً على هدى سليقة قديمة 
جعلت شعوب الشمال "الهمجية" من بيئاتها الباردة المكفهرة» وهي تتطلع 
إلى دفء الجنوب وثمسه الساطعة» وهاجمت شعوب اللومبارد والنورمان 
والوندال والغال والقوط والجيرمان الجنوب» وخربت المدن الجنوبية التي هي 
أعرق من الشماليةء ولتلك الروح العدوانية سبب في تطوير الشماليين آلة 
الحرب» وصنعوا المدافع والمتفجرات» فكان جنوب أوربا لا يسع طمعهم» 
ثم تحارب الشماليون بينهم ووسعوهاء وشملتنا فقبعنا تحت إملاءاتهم على 
مبدأ "حكم القوي على الضعيف". 


ومن الطريف أن أول عملية قصف جوي كانت قبل اختراع الطائرات 
القتالية وذلك عام 48 بواسطة منطاد محمل بالقنابل» وقام به 
النمساويون على مدينة البندقية الإيطالية. وتمت باستخدام منطاد دون 
تحميل بشر عليه بطريقة تجعله يسقط فوق المدينة بضبط الوقود الموجود 
فيه» ويقال أنه أصاب هدفه بدقة. ونعلم اليوم أن الفريد نوبل (سويدي- 
نرويجي قبل الانفصال .)١5٠05‏ قد اخترع الديناميت» لكنه شعر بالإغ 
فرام التكفير من خلال إطلاق جائزته التي جاءت من المال الذي جمعه من 


نفط باكو بأذربيجان» وأمست الجائزة الأشهر والأهم» لكنها تبقى ترمز 


حروب المدن بين الإخوة الأعداء 


منذ أن رصد ابن خلدون دورات السلطات ونحن نقبع في دوامة 
ولادة السلطة في البادية والقرية أكثر من المدينة التي تجد نفسها عاجزة 
عن حكم نفسهاء لكنها تصنع الحضارة. وهذا التناشز بين “السلطوي 
الاتكالي” و”الحضاري الإنتاجي” في التكوين العربي هي التي صاغت روحية 
المدينة العربية الإسلامية المتخبطة, با يفسر خفوت المشاركة وظهور 
فلسفة الإنسان الراقي المغرور في الثقافة العربية» من جراء إذعان الحاضرة 
للبداة» عا لايتيح لقوى الانتاج الحضرية والمدنية المشاركة في السلطة 
العامة للمجتمع» كما أتيح لقوى الإقطاع ثم البرجوازية المدينية في 
مجتمعات أوربا وبعض مجتمعات آسْيا (') وهكذا أمست المدن العربية 
الكبرى مسميات أكثر منها حقيقة» وهي الأقرب الى القرية المنتفخة 
والمنفلتة, التي تسودها الرعوية أو الريفية» أو هي محل ازدراء محيطها في 
الخلاء المتاخم, وموقع طمعهم وهدف سيطرقم» وبالنتيجة خرابما بعد كل 
جولة وصولة. وبسبب تلك المعادلة المختلة بين المدينة ومحيطها الطامع جا 
والطامح لسلطتها تقمصت الإنسان المديني أخلاقيات الصحراءء بدلاً من 
تسييد قيم الحاضرة والمدينة, ومازالت ثقافتنا تمجد اجرم المقتحم وتصنفه 
(بطلا) رغم جرائمه. 


أ جمعة عبد الله مطلك - المصدر السابق 


فأهل المدينة العربية مفعمون بالاعتزاز والتباهي بانتساب للصحراء 
والأصول الأسطورية؛ بل والاهتمام بالبطون والألقاب العشائرية والقبلية, 
وتطنب الحوار عن قيم الثأر والانتقام وغسل العار والاستخدام القسري 
المهين للمرأة ك”ديّة” أو "غنيمة" أو كأداة لتسوية الخلافات العشائرية, 
وعاضدهم بعض رجال الدين» الذين وجدوا في دين الصحراء أكثر ملاءمة 
لديعومة منزلتهم وجاههم وعيشهم. ومن رصدي أن جة البادية تطفح 
ا ا ر يقلت 


وعند حدوث أدنى اضطراب وخلل في السلطة, يهاجم الرعاع بؤر 
السلطة ومؤسساتها ولا تتورع في مهاجمة مكامن الثراء وبيوت المترفين, 
فروح الغنيمة تكمن متيقظة داخل القادمين جيلين وثلاث وربما أكثر 
بسبب التاقف البدوي أو (تجمعات الكيتو 016]0) وهذا هو سبب أن 
ما يلي الاحتلالات والدمار في الصدمة الأولى أقل ضررا من هجوم 
الدهماء واستباحة الثراء. وسوف نجد أن هؤلاء القادمين من قاع المجتمع, 
سوف يجدون دائما المبرر (الأخلاقي) لفعلهم. ففي الجزائر هاجم 
الجزائريون بيوت الفرنسيين بعيد الاستقلال في ه جولاي تموز ۹٩۲‏ 
وذبحوا (المعمرين). بمبرر أتحم كفار (كاوري). وتناسوا أن جلهم من مولدي 
البلد لأربعة وخمسة أجيال مضت» وأمسوا جزءًا من امجتمع الجزائري. 

وحينما هوجمت بيوت اليهود في بغداد مرتين )١9680-19151(‏ با 
دعي (الفرهود). كان الرعاع يحللون كل رذيلة ومبررهم أنهم يغنموا من 
(يهود) لكنهم إخوقم في الوطن منذ آلاف السنين ونظراءهم في الخلق 


t۲ 


دائما. وحدث تباعا بعيد الاحتلال الأمريكي 4 أبريل نيسان 25٠١٠١‏ 
حيث وجد (علي بابا) العذر بأنه يقتص من سلطة ظالمة. ويحدث نوع من 
التمويه التخريي» حيث يشعل المغتنمون الحرائق في المدن لتغطية سرقاهم, 
وتفتعل السلطات المندحرة الأمر عينه لتغطية فضائحها ومخزي وثائقهاء 
وهو ما يجعل الأوابد تتضرر فيما بعد الأحداث أكثر من الأحداث 


وغير حرب الأمم الطامعة ببعضها والبدو المتربصين للمدينة. نجد 
البشر يتطاحنون حينما يعجزون عن إمضاء عقد اجتماعي يتنازل كل منهم 
فيه عن جزء من جشعه وطمعه؛ فيصبح الكل يشكي من إجحاف وأحقية 
وأفضيلة» والكل يطمع في احتلال مواقع الآخرء وعادة ما تغذي تلك 
النزعات عامل ثالث يؤلب ويحرضء وني الغالب يكون خارجي» يجد ضالته 
في عامل داخلي مساعد. وهذه هي شرارة الحروب الأهلية في العادة التي 
تستثمر غياب سلطة الدولة أو وهنهاء أو تقاطع المصالح والانتقالات 
المفصلية في التاريخ. وأهم مظاهرها الحروب الطائفية التي تصطنع ها 
خارطة بعيدة عن الجغرافيا والتاريخ والعقائد؛ فكانت لبنان (191/5- 
۲ ثم العراق )۲٠٠۸ - ٠٠١85(‏ واليوم سوريا وليبيا واليمن كلها 
أمثلة صارخة هاء وخربت من جرائها أجمل الحواظر والأوابد. وأمست 
الشوارع متاريس والأحياء وكتل البناء فواصل ومزاغل» تتبع بأس 
المتحاربين وبطولاتهم الدونكيشوتية على أهلهم. 


ويتداعى أن تكون المدينة متصدعة الجدران ومثقبة الحيطان» تقطع 
أوصاها كانتونات للطوائف والفئات. ونتذكر ما حل ببيروت الترفة المدللة, 
بعدما أمست أبراجها الجميلة موبوءة برصد القناصة الذين قضوا على 
دبيب الحياة فيها. وبعد الحرب جاء مشروع سوليدير الاستثماري الملتبس» 
فلم تعد بيروت إلى ما كانت عليه بساحة شهدائها وسوق سرسقها وشارع 
حمرائها. ويبدو أن الحروب المدينية يبدأها الكبار لكنها تمكث تائهة بعد أن 
تضع أوزارهاء كما الفريسة التي تقتنصها الضواري كالأسود والفهود 
والنمور, ثم تمكث جيفاً للضباع وأبناء آوي والغربان. 


والحروب الأهلية مصدرها احتقان تؤلبه المصالح والمطامع للسلطة, 
فنجد في التاريخ القربب الحرب الإسبانية )١975-1١95(‏ مثال على 
عبثية ونزق بعدما قاد الجنرال فرانكو بدعم من الحافظين انقلا على 
الجبهة الشعبيّة التي فازت في انتخابات سنة .١9475‏ وقد انتصر فرانكو 
بعد أن حصل على دعم الأنظمة الدكتاتوريّة الشمولية (إيطاليا الفاشيةء 
وأمانيا النازية) وتلقى الجمهوريون من بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي 
الدعم فكانت حربا بالنيابة مثلما في بيروت بين العرب وإسرائيل أو 
السوفييت والأمريكان» وني بغداد بين العرب والفرس والأمريكان. 


ونجد من الحروب الأهلية المدسية الكثير» ومنها مثلاً التي حدثت في 
طاجيكستان الإسلامية» التي نالت استقلاها عام ١۱۹۹ء‏ وأدى إلى 
خراب ومزق أواصر البلاد, وامتد ١۲‏ عاماً وقتل ما يربو على ٠ه‏ ألف 
شخصا وشرد على إثرها حوالي ٠.۲‏ مليون شخصا. ومازالت الصومال 


٤ 


تئن من حرب طاحنة منذ الإطاحة بسلطة خد سياد بري عام 2١991١‏ 
وهنا لم تسقط الدولة فحسب» بل قسمت البلاد وتركت سائبة دون 
نصاب ولا حساب» وشجعت المتحاربين ولوج عباب البحر والقرصنة 
للسفن العابرة. وبالنتيجة لم نجد اليوم عاصمة للبلاد» ومقاديشو الإسلامية 
غابت عن التاريخ» ولم يعد لما موقع في الجغرافياء ولم نعد نسأل عن تراثها. 
ومن الأمثلة للمدن المنتهكة كانت أوابد البلقان في البوسنة سراييفو 
وسبرنيتسا وموستار خلال حرب تقسيم يوغسلافيا عام ۱۹۹۲ التي 
صتفت حالة بين الأهلية والدولية. وكانت قنطرة مدينة موستار التي بناها 
المعمار العثماني سنان باشا عام ٠١١١‏ تشكل رمزاً لوحدة تلك المدينة. 
وحينما فجرت القنطرة» تفجرت الأخوة السلافية المهلهلة, وحينما أعيد 
ترميمها كانت إشارة إلى استتباب الأمن وقبول الناس ببعضهم. 


ومن أسباب خراب المدن هو ما ندعوه اليوم (الإرهاب) أو (الترويع) 
(61011351]): والتي ألصقت اليوم بالعرب والمسلمين جزافاً» وتأكدت 
بعد حادث تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك في ١١‏ سبتمبر أيلول 
١‏ والذي صممه المعماري الياباني (مينورو ياماساكي ,[2/2120258 
)١985-191”5 11010‏ ونفذ عام 2191/7 وامحمت الصحافة 
العالمية تنظيمات إسلاموية بحسب الرواية الأمريكية أو ما روجته مخابرات 
أمريكية بحسب روايات الكثير من الشاكين بالأمر. وبالنتيجة احتل العراق 
وإفغانستان على أثرهاء بالرغم من عدم وجود أي عراقي أو أفغاني على 
قائمة المتهمين بالتفجير "الإرهابي". لقد كلف البنى في حينها ۷٠١‏ مليون 
دولاراء بينما تداعيات تفجيره كلفت أضعافاء ناهيك عن الأرواح التي 


هءة 


زهقت والدماء التي أهرقت في أركان العام الأربع. وهكذا تذكرنا تلك 
الأحجية باحتلال فلسطين على جريرة أن هتلر الألماني صنع من أجساد 
اليهود الأوربيين (صابون) في معسكر (الشفيتز) سى الصيت والسمعة في 
بولنده» وهكذا وهب اليهود فلسطين» ودفعت الشعوب "دية" بسبب 
جرة لم تقترفهاء وهذا هو الإرهاب الحقيقي برأينا 


وللتاريخ والاطلاع علينا أن نعرف أن مفهوم (الإرهاب) الذي ألصق 
بالمسلمين "جزافا"» عرف أول مرة في الغرب منذ العام ١/94 ٤‏ واقترنت 
بالحكومة الثورية في فرنساء التي جاءت بعد الثورة الفرنسية ۷۸۹ 
فالكلمة بمعناها الأول تعبر عن نظام الإرهاب السياسي الحكومي الذي 
شنه روبسبير (1105650161) ولجنة السلام الشعي» وكان يقتصر على 
الإرهابيين المتدربين والموالين لهذا التيار (الحكومي الثوري) ولم تأخذ كلمة 
الإرهاب معناها الشائع إلا في )۱۸۷١(‏ إبان كومونة باريس» والتي كانت 
تشير إلى أعمال عنف تنفذها مجموعات سياسية تعمل في الظل لغرض 
خلق أجواء الاضطراب الأمني وإضعاف النظام القائم والإخلال به. 


أما المعنى الثاني للكلمة فهو يخص أفرادا أو مجموعات معينة تضرب 
في مواقع تجمعهاء وتستهدف أيضاً القوى العسكرية والمصالح وال عام العامة 
والنصب التذكارية والأماكن المقدسة الخ. وهكذا فإن مفهوم ومصطلح 
(إرهاب)غربي محض. ومازلنا عاجزين عن فهمه وتحديد الإرهابي الحقيقي. 


لقد شاع المثل بخراب المدن (فكانت البصرة مضربما) وهي حقيقة 
وقعت إبان الحرب التي قامت بين جماعة الأزارقة بقيادة (نافع بن الأزرق 
الحنظلي التميمي (ت: 588م) حينما حارب الدولة الأموية» فكانت 
البصرة مسرحهاء فبين الكر والفرء عاث (الثوار وجيش الخليفة) دماراً 
فيهاء ولحق الدمار مدن السواد, وقتل الناس وأحرقت الأسواق» ليس إلا 
من أجل إحراج الخليفة القابع هناك في دمشق!. وهكذا يبدو أن (الطبيعة 
البشرية) تكرر دائماً نفسهاء ونجد ظاهرة الأزارقة قد وجدت في الحركات 
الثورية الحديغة التي دعيت(التروتسكية), والتي تنسب إلى اليهودي الروسي 
ليون تروتسكي )١4854٠0-١/194(‏ والذي انتهى مقتولا في المكسيك من 
قبل مخابرات ستالين» بعدما أحلوا قتل العامة من أجل إحراج السلطات. 
وبعدما كان اليسار الثوري والقومي (ثوار إيرلنده والباسك في إسبانيا 
وكورسيكا في فرنسا والكتائب الحمراء في إيطاليا مغالا). كان هذا قبل 
عقدين وثلاث» لكننا نجده اليوم يلصق بالمسلمين» وهي نائية عن الدين› 
وخزائن المال هي الحدف الأسمى للغزاة واحتلين واختالين المحليين» كما 
حدث في بغداد عند سقوطها ۱۲۰۸م حينما جلب المستعصم بالله 
العباسي» ليدل المغول بنفسه على خزائنه طمعاً بعيش بعدهاء لكنه قتل 
غلاً وإذلالً» وحدث الأمر عينه لصدام حسين عام ۳٠٠۲م‏ الذي ترك 
خزائنه عرضه للصدفة في غبهاء وما خفي كان أعظم! وعادة ما يلي 
الاحتلالات والإهمال تفسخ الباني ولا سيما الرسمية» الذي بمكن أن 
يستمر قرونا بعد الاحتلال» كما حدث مع المدائن التي لم تنقض عند 
الفتح الإسلامي وبعيده حتى العباسيين حينما طمعوا بآجرهاء فسعى أبو 


۷ 


جعفر للاستفادة منه في بناء مدينة بغداد المدورة عام ٠86١اه‏ ”5لا 
واستعصى عليه فك أوصال الطاق الكبير» فنصحه خالد البرمكي بأن 
يتركه لكي يبقى أثر عظمة الدولة التي أسقطها المسلمون. وبسبب صعوبة 
التفكيك» ترك الإيوان يرتع حتى اليوم ليشهد على معجزة إنشائية. 


المعماري والسياسة 


يتذكر الجيل السابق مدى الدمار الذي حصل لمدن قناة السويس»› 
فخلال الحروب بين العرب وإسرائيل» وهذه المدينة جاءت ضمن مشروع 
الخديوية من أولاد خد علي لإنشاء مدن على القناة منذ العام 2١/8516‏ 
وكذلك توسعات القاهرة, قد جاءت استنساخاً عن نموذج (أوسمان) وزير 
الأشغال العمومية الفرنسي عند الملك نابليون الثالث» والذي عاصر 
الخديوي إجماعيل وعلي مبارك. وأوسمان هذا قوض الأحياء التراثية لباريس» 
من أجل تجسيد ساحات النجمة وشوارع البوليفارد» التي فحواها شوارع 
فسيحة ومستقيمة تنطلق من بؤر تتوزع منها الشوارع كما النجمة, 
وا لهدف منها عسكري» حيث توضع المدافع فيهاء لتهاجم المتظاهرين 
واختلين بشكل شعاعي يسهل عملية تفريقهم أو قتلهم. وهكذا اتخذ هذا 
النموذج (الحربي) أساسا في تخطيط مدن مصر وغيرهاء وابتليت جا مدن 
القناة بعد قرن. 


وجدير أن نرصد أن حروب المدن التى قوضت مراثهاء نقلت العمارة 
من دور إلى دورء فها هى الحداثة المعمارية التى كانت مهلهلة قبل الحرب 


العالمية الثانية قد فرضت نفسها بعدهاء بسبب الدمار الذي حل بميراث 
المدن الأوربية» ليستبدل بمبان حداثية رغبة في التسريع وسد الحاجات 
الحضرية التي لا تفي بجا عملية ترميم واسعة» ففضل أن يهدم ما مكث من 
الحيطان الآيلة للسقوط بعد القصف والحرائق» وإنشاء خطط جديدية 
ومبان حداثية جعلت الغربيين يشعرون بعقدة من لا يملك, وهذا ما أرادوه 
لكل مدن الدنيا على مبدأ (فاقد الشى لا يعطيه) لذا فإن خسارتنا 
بالحداثة التي قوضت تراثنا كانت صدى لتلك الممارسة, موئلها الحروب 
التي أزالت تراث أوربا المعماري» وثمة استثناءات كما في طراز دعي 
(الأرابزانص) الذي طوروه بعض المعماريين الغربيين في شال إفريقيا وكتب 
له النجاح ردحاء وجاء لإصلاح ما قوضته آلة الحرب الثانية من تراثها 
الثري. 


ولا أدل على إجحاف الإنسان بالمكان أكبر من تلك الحروب 
الشرسة التي تخاض من أجل اغتصاب الأمكنة أو استرجاعها. فقد تحارب 
الألمان والفرنسيون قرنين ونصف على مقاطعة الألزاس واللورين» وآخرها 
الحربين العالميتين» وشنوا حروباً قومية أشعلت النار في أصقاع الأرضء 
وأزهقت ملايين الأرواح البشرية» ثم أمست (ستراسبورك) عاصمة لمقاطعة 
كفاف وسطية بينهما متهادنة في مشروع وحدة أوربية قَبرَ فيها المشروع 
القومي. حدث هذا بين قومين ادعوا الحضارة والمفهومية و"الأنوار": فما 
بالك بالشعوب البدائية. والأمر ينجر إلى صراع العرب وإسرائيل الذي 
تحول من مشروع استيطاني لليهود هربا من الظلم والفرز الذي تعرضوا له 


في أورباء إلى صراع مصيري على شبر من هنا وآخر من هناك ثم إلى وجود 
وفخر أمة ودين وثقافة, مازلنا ندفع غنه غالياً. 


لا نستغرب أن في ظروف المدينة المضطربة تضيع جذوة المبادرة 
والإبداع عند البشر, ويتحول الفعل إلى رد الفعل. وتهجر الجموع تاركة 
موطنها إلى المهاجرء وإباغا يكاد أن يموت الفكر وتضيع روح المسؤولية, 
والأنكى يحدث تاكل للقاعدة القيمية. يقول تولستوي في (الحرب 
والسلام) أن ما تبنيه الأخلاق بمائة عام تنزعها الحرب بعام واحد. ويبدو 
أن ثمة تداخل بين أخلاق الإنسان وخراب الحيطان, كون الفعل المعماري 
مرتبط بالمبادرة الإبداعية التي تصبح هاجسا لصدق النفس وازدراءً 
للرجس» وينتاب المعمار غثيان المواءمة مع تلك الأجواء الملبدة التي تؤدي 
إلى قبض إبداعي. وهذا ما جعل المعمار المتحسر الأكبر على ما يحدث, 
وقاده الحاجس إلى براثن السياسة دون رغبة» وجعل جل العماريين 
مسيسين بالإكراه. فيتخذ "بحسب السجية" مواقف جذرية ونقدية أو 


مهادنة توفيقية. 


ولا نستغرب في تلك الشجون أن يتبوأ المعمار صدارة بعض 
الأحداث السياسية, كما حدث مع الألاني ألبرت شبير(ه٠9١-‏ 
1 ') في خضم الشمولية النازيةء وإبان مشاريع هتلر الخيلائية حيث 
تسنم منصب وزير الأشغال العمومية في بلد راسخ معمارياً. لقد ورد على 
هتلر مناكفا بأن حجم القبة التي اختارها هتلر محاكية هيئة قبة كنيسة 
القديس بطرس في روماء سوف تكون هدفا سهلا للمهاجمينء فكان رد 


٠ 


هتلر بعنجهية بأن برلين لم تماجم من أعدائها قط, لكنها خربت وانتهكت 
وضاعت وابتذل شبير بعدها وحوكم مثل أي مجرم حرب في نورمبرغ» 
ومكث سجيناً ردحاء ثم مات طليقاً. وسبق أن قام هتلر باستئصال مدن 
بكاملها مغل ستالينغراد ووارسوء والأخيرة سوى مركزها التاريخي (ستارا 
مياستا) مع الأرض» لكنها نمضت بعد الحرب بمشروع لإعادة البناء 
اعتمادا على الأرشيف والأنقاض» وأفلح في إعادة بناء المدينة وأمست 
مثالا للمدن التي تنهض مثل العنقاء من بين الأنقاض. 


وني الصلة بين المعماري والسياسة نجد رعيل الباوهاوس المؤسس 
(ومنهم فالتر كروبيوس وميس فان درروه), كانا قد هربا في الثلاثينات إلى 
أمريكا لائذين من سطوة هتلر الشمولية وإغلاقه مدرستهم. وإلغائه 
مجهودهم ومشروعهم الناضج» وإلحاقهم بالخانعين "المضرين بتطلع الأمة 
وطريقها الى الذروة". وهذه المناخات المسيسة سملت المصري حسن فتحي 
)١94-1889(‏ وهو المحسوب على اليسار بالرغم من إنتسابه لطبقة 
(الباشوات) حتى أهمل من الطرفين, ولا سيما إبان غلواء العداء لورثة 
بيوتات الإقطاع في مصر. ورفض سلطة عبد الناصر وانتقدها "وهي فوق 
النقد". وهاجر إلى اليونان نأيا وملاذاء ليعمل مع دوكسياديس ردحاء ثم 
ليموت كمداً وفي قلبه غصة على مشروعه الذي لم يجد من يأخذ بيده من 
الساسة. 


وفي سيرة البرازيلي أوسكار نیمایر(۲۰۱۳-۱۹۰۹) شجون من 
المواقف السياسية» فقد احتفظ بعلاقة حميمة مع الرئيس الجزائري اهواري 


1١ 


بومدين (۱۹۷۸-۱۹۳۲)» الذي طلب منه أن يبني له (جامعة ثورية)» 
فجاء تصميمه لجامعة قسطنطينة "ثوريا"» و(باب الزوار) في العاصمة 
الجزائر أقل "ثورية". والحال ينجر إلى سيرة المعمار العراقي رفعة الجادرجي 
الذي كاد أن تطال عنقه "مقصلة" صدام حسين» واستسلم لمصيره بعد أن 
حكم بالسجن المؤبد, ليعيش الضيم في أبو غریب (۸۰-۱۹۷۸)» ثم 
ليطلق سراحه» وهو يعاتي حت اليوم من وقع العامين على نفسه 


وخلال مناخات حروب أوروبا الطاحنة» وصولاً إلى الحرب الكونية 
الأولى» تفشى اليأس والإحباط لدى مبدعي الغرب, الذين شهدوا بأم 
أعينهم ماكينة الرأسمالية المسعورة, ماكينة التقدم العلمي والتقني» وهي 
تتجه صوب البشرء وتعلك لوم الشعوب والأممى وتطأ بأحذيتها الملطخة 
بالوحل وغبار البارود والدمار أحلامهم الإنسانية الطرية» وتحول دون 
تحفيق كل ما هو جميل وطيب. وحتى حلم العيش بسلام لقد شهد هؤلاء 
المبدعون النتائج الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية للحرب. شهدوا 
التشرد والفقر والمرض ودمار المدن وضياع الشعوب وقهر الأمم المغلوبة, 
واستباحة الأوطان وحرق خضرة الأرض وحجب غيوم السماء والشمس 
والقمر بسحابة كثيفة من رماد العلم الأسود. 


وني غياب المنظومة الأخلاقية الرادعة لهذا الحوس تراجع مبدعو أوربا 
الرومانسيون عن المشاركة في الحياة العامة للمدينة (مركز الشر) لنظرهم 
ومطبخ الحروب» ومصنع الدمار فراحوا يلعنوتما ويبحثون عن البديل» عن 
محطات للراحة والاستشفاء والتوازن النفسي من أثر ذلك المشهد المرعب» 


<1۲ 


الذي يعكس قدرة الإنسان اللا متناهية على ثمارسة الحقد واجريعة, 
واستمراء البشاعة على أا "وطنية" أو "قومية". ولدينا تجربة شخصية 
متواضعة ذات شجون في مشروع ترميم قبة الإمامين العسكريين (ع) في 
سامراء كمندوب مستشار من منظمة اليونسكو. وهذه العاصمة الإسلامية 
تعد حتى اليوم الأكثر وسعا وبذخاً والأسرع درساً بعد لاه عام فقط. 
وكشف خفاياها اللا هرزفيلد خلال موسمين حفريين )١7-19031١(‏ 
و(57١5-1"),‏ واشتهرت بمنارة مسجدها الجامع المسماة (الملوية). 
واليوم هي محض سبعة جبانات ومرقد مقدس ومدينة بائسة» يبلغ سكانا 
حوالي ١6٠‏ الف نسمة, وتعتاش على زوار الضريح الطاهر. ولقد شاءت 
الأقدار أن تكون قبة هذا المعلم هدف سهل المنال بين رحى المتصارعين 
(الحتل الذي أسقط البعث والسلطة التي عينتها ومعارضيها) ففجرت القبة 
الذهبية يوم (الخميس )۲۰۰٦/۲/۲۲‏ وتبعه بعد حين النارتان وهكذا 
تحولت القبة الباسقة التي كانت ترشد القادمين من بريقها على مسافة ٠٠١‏ 
كلم إلى كومة من الأنقاض واحترنا في كيفية نقلها ودراستها والاستفادة 
من بقاياها. وتداعت الجريمة النكراء بجرائم. حيث قتل على أثرها أكثر من 
ألف شخص وهجر حوالي ٠٠٠١٠‏ عائلة من بيوقاء ودمر ۱٦۸‏ مسجدا 
وألغيت أربعة مؤسسات دينية» فوطأ النكوص أدناه وانحدر الإنسان إلى 
برائن الشر والهمجية. ومازال انجرم الذي فجر القبة يختفي وراء الفوضى 
العارمة التي تلت سنين الطغيان البعني والاحتلال الأمريكي المقيت. 


ومازلنا نعيش (الربيع العربي) الذي أسقط الطغاة لكنه لم يؤسس لعقد 
اجتماعي وحالة سوية للأمن الاجتماعي» ففي ليبيا تشكّلت في العام 
۳ 


05 نتيجة المعارك ضدّ قوّات معمر القذاني مجموعة من المليشيات 
والعصابات المسلحة التي تفرض سطوقاء ولا يزال معظم أفرادها منذ 
المعارك التي دارت العام ۲١٠١‏ يفرضون سيطرقم على مناطق وأحياء 
صغيرة بعيدًا عن مدنهم وبلداتهم وهذه الكتائب تكوّنت إلى حدّ كبير 
حسب الأصول القبلية أو الإقليمية. أي حلول القرية والبادية في المدينة 
وهذه كارثة حقيقية أخرى غير كارثة القذافي البدوي الذي بدد أموال ليبياء 
ومع ذلك كانت توجد بعض الكتائب التي تشكلت على أساس إقليمي أو 
عقائدي. 


وتتبنى فكرة التوجّه السلفي الإسلامي المدعومة من جهات خارجية, 
والتي ارتكبت الحماقات بتهديم الزوايا الصوفية القابعة في الصحراء منذ 
قرون, وتحتفظ بميراث إسلامي ثري. والأمر عينه حصل في شال مالي 
وتحديدا في تمبكتو حيث أقدمت على تدمير عشرات الأضرحة لشيوخ من 
المتصوفة الذين قادوا الجهاد ضد الاستعمار الفرنسي وغيره. كما قامت 
هذه الجماعات بحرق آلاف الكتب التراثية التي هرجا العرب من الأندلس 
بعد سقوط غرناطة» وقامت بتدمير كل تشكيل إسلامي, لا ينسجم مع 
العقول المقولبة. وحدث عين الأمر للجماعات التكفيرية المسلحة عند 
سيطرقًا على معرة النعمان. حيث حطمت التمثال النصفي للفيلسوف 
الشاعر أبو العلاء المعري. وحرق مكتبته وآثاره في المدينة. 


ولم تنج حلب من ذلك حيث آثار الشاعرين المتنبي وأبي فراس» 
فقامت الجماعات المتبرقعة بالدين بتدمير كل ما له علاقة بالدولة الحمدانية 


5 


القديمة "الشيعية" التي تركتها قبل ألف عام. كما امتد التدمير إلى العناصر 
الزخرفية الجمبلة في تلك العام التي :تفخر ما سوريا والإسلام»: وم يسلم 
حتى محراب المسجد الأموي الكبير في حلب باعتبار ذلك بدعا وثنية! 
وهذا الفعل المشين اقترفه سلفيو طالبان في أفغانستان حينما فجروا تمثال 
بوذا الحفور في جبال منطقة باميان لأسباب طائفية مكشوفة, فوجدوا في 
التفجير مبرر ادعوا أنه لدرء العودة للوثنية» التي لم يعد ها مكان في 
أفغانستان منذ أزمنة طويلة. 


كتبت السيدة (إيرينا يوكوفا)» المديرة العامة لليونسكو(') حول 
التدمير الواسع للتراث العمرانن في مدينة "تمبكتو" التي تم تسجيلها كأحد 
مواقع التراث العالمي في اليونسكو عام ۱۹۸۸م والذي قامت به جماعة 
(أنصار الدين) في شال مالي: "علينا أن ندرك ما يحصل في مالي فالأمر لا 
يقتصر على مجموعة من المنشآت المبنية من الطين والخشب» على الرغم 
من القيمة التي تكتسبها هذه الأبنية. فتمبكتو ليست مدينة عادية» تمبكتو 


مدينة حكاية ۳٣۳"‏ وليا". 


إا مدينة قديمة شكلت حلقة وصل مهمة في الصحراء الكبرى» وهي 
موقع تارعخي للدين الإسلامي وتعاليم الإسلام. والاعتداء الذي استهدف 
التراث الثقافي في تمبكتو هو اعتداء ضد هذا التاريخ وقيم التسامح 
والتبادل والعيش معا التي يحملهاء وهي قيم تقع في صميم الديانة 


' نشر يوم الثلاثاء (" يوليو )۲١٠١‏ في جريدة إيلاف على الشبكة العالمية. 
1° 


الإسلامية. إنه اعتداء على الدليل المادي على أن السلام والحوار ممكن, 
وهو اعتداء أجمع زعماء الدين في شتى أنخاء العام على شجبه". 


وهنا لا بد من الإقرار الجماعي بأن ليس من حق أحد أن يكفر 
الحجر» ويحرمنا من منجزه الذي هاجن نفحات الجمال في الروح مع 
العمارة» وأعلن أننا أسلاف من أنجر وعمر على تلك الأرض التي موئلها 
بارئها الأزلي. وأن العلاقة الأخلاقية المبدعة بين الإنسان ومحيطه البيئي 
المادي هي التي ولدت الحضارات على مدى التاريخ» والغرب يعرف ذلك 
جيداً لكنه يحاول تميبع الحقيقة لتتناسب مع فكره بافتراض (مبدأ صراع 
الإنسان) مع محيطه. وهذا ما تسبب في ماس كثيرة لنا وللإنسانية جمعاء. 


وهذا السياق يضعنا أمام حقيقة أن التراث الاسلامي بمثل حلقة من 
حلقات التراث الثقافي العالمي الذي يجب أن نسعى جميعا للمحافظة عليه 
خصوصا في ظل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الدول العربية على وجه 
الخصوص. يجب أن ننطلق من أن التراث هو "ما يجمعنا" وما يوحدنا 
ويقربناء وأن أي خسارة لجزء منه هي خسارة لجزء من هذه الوحدة ومن 
فرص التقارب. وقد أثارت المديرة العامة لمنظمة اليونسكوء في مقال سابق 
إثر تصاعد العنف في سورياء والمخاوف من التأثير السلبي المتزايد للنزاعات 
المسلحة التي تحدث حول العالم» على المواقع التراثية» وطالبت بعمل عالمي 
"كيد واحدة" من أجل حماية هذه المواقع وإبعادها عن النزاعات» وقالت 
"إن حماية الثقافة إنما تمثل قضية أمن, فلا بمكن تحقيق سلام دائم من دون 
احترام للتراث الثقافي. والممارسات العدوانية التي تستهدف التراث الثقافي 


AR! 


إنغا تعد انتهاكا هويات امجتمعات ذاتًا". وتصف ما يحدث في مناطق عربية 
تعيش حالة حرب داخلية حينما ألقت بظلاها على مواقع تراثية في هذه 
الدول» وترى أن "الممارسات العدوانية التي ترتكب ضد الماضي تجعل من 
الصعوبة قيام المصالحة في المستقبل". وقالت (بوكوفا) أن "حماية التراث 
الثقافي لا يعد البتة ضربا من الترف. فليس من الممكن أن نؤجل القيام 
بذلك لوقت أفضل» أي عندما قدأ التوترات. ومن أجل مهيد السبيل 
لتحقيق السلام» يجب علينا منذ اللحظة أن نعمل على حماية الثقافة» في 


هذا الوقت الذي تزداد فيه حدة التوترات". 


ويحتاج التراث الثقافي الإنساني إلى مزيد من الحماية ومن تجنيبه 
للصراعات الحلية التي قد تدشأ في أي لحظة لأن ضياع هذا التراث لا يمكن 
تعويضه. وبمكن هنا توظيف هذا التراث للتقريب بين امجتمعات حتى 
ا لمتباعدة» وقالت مديرة اليونسكو: "رأينا ما يمكن أن بحققه التراث العالمي 
في مجال الجمع بين الجتمعات المنقسمة في ما بينها وتعزيز التعاون الدولي 
في السياقات الصعبة". 


وأكدت (بوكوفا) أن "مفهوم التراث العالمي في ذاته يعتمد على فكرة 
المسؤولية الاجتماعية من أجل تحقيق الصاح العام", وترى أن "حماية 
التراث الثقافي للعالم إنما تخصنا جميعا. فهذه الحماية تمغل دعامة قوية 
للتفاهم المتبادل ومصدرا للتدمية الحلية". وبشكل عام فإن قيمة التراث 
هي في ما بمثله من "رمزية" قوية تقرب بين الثقافات وتجمعها في بوتقة 


1۷ 


واحدة» فحتى لو اختلف البشر اليوم حول المصالح فإن تراثهم بمكن أن 
يجمعهم في المستقبل('). 


واليوم نجد الحرب الشعواء تنفجر بحسد سورية العربية المسلمة, 
وتخرب مدتما الألفية. ودون الخوض بتوجيه السبابة إلى المعتدي والمعتدى 
عليه, فإن الأمر يأخذ منحا كارثياً يتعلق بثقافتنا وتراثنا. فهذه حلب 
الشهباء تصبح سوداء من سخام الحرائق» وهذا البازار(السوق) الذي 
مكث قبلة رواد خط الحرير لآلاف السنين» يصبح أنقاضا وعرضة للإزالة. 


وهكذا فإن الثقافة العربية وميراث الإسلام المادي يدمر ولم نجد من 
يفتي بحرمته من ساسة ورجال دين» وم تتورع النخب المثقفة باطبادرة 
والإعلان عن امتعاضها عما يحصل. فمازالت عجلة التخريب دائرة, 
والتخريب يطال الإنسان والبنيان» ويهدم التراث» فقد سحقت بغداد 
وسرقت آثارها وفجرت سامراء وقصفت طرابلس وصنعاء وعدن واليوم 
يعانيان دمشق وحلب. ولا بد من إصدار ميثاق شرف ملزم؛ يجبر 
المتطاحنين المتناطحين أن يتركوا المدن وموئل التراث الحضري يرتع بسلام 
ليمكث مثلما كان ملك للأجيال» دون أن يحتكر لفرد أو فئة أو جيل أو 
سلطة.. فمتى يتحقق ذلك يا ترى؟ 


(جريدة الحياة» العدد ۱۷۹۰٦‏ . الجمعة ۱۳ نیسان (ابريل) ۲۰۱۲م الموافق ”١‏ جمادى 
الأولى 7" 4 ١ه)..‏ 
1۸ 





١‏ وارثو المكان المعماري 


عادة ما يخطر على البال تساؤل فحواه: ماذا سيحل بالبشرية لو 0 
تستفد الأمم من تجارب الذين سبقوهم ومن إنجاز غيرهم من الأمم؟ 
فلنتخيل أن كل أمة تبدأ للها منطلقة من مستوى الصفر كل مرة؛ لكان 
وقعه وخيم على تراكمات المنتج الإنسان. فقد سلكت الشعوب مناهج 
الاقتباس ثم الاستيعاب ثم الإضافة والتطويرء لتخلق ها ذاتوية ثقافية. 
فمثلما علم العبيديون ثم السومريين» فإن هؤلاء علموا الأكديين وهؤلاء 
أورثوها لبابل وآشور التي شاع شعاعهاء وامتآت حت الإغريق الذين 
اقتبسوا من العراقيين والمصريين والشاميين» واقتبس منهم الرومان وبيزنطة, 
ثم الإسلام الذي اقتبس من كل الأزمنة. والغرب الذي اقتبس من الشرق 
وغيره» ونحن اليوم نقتبس من الغرب.. وهكذا دواليك. 


لقد سلكت الشعوب فج الاقتباس ثم الاستيعاب ثم الإضافات 
والارتقاءء ولا يمكن أن تنطلي على ذوي الألباب مبالغات مفهوم "نقاء 
الحضارات" وهو انسياب منمق لمفهوم "صفاء الدماء" الذي لم يجد له في 
الحقيقة مكانا؛ فلدينا مثل الإغريق الذين تشدق الغربيون ب"معجزقم". 
وانطلى على أجيال وثقافات ومنها العربية» حتى ظهور علوم الحفريات التي 
انتهجت الحفر والفحص والتحليل والمقارنة. وقد أثبت ذلك التراتب 
المنهجي وبحسب التقادم الزمني» وأصبح من البديهيات اليوم بأن حضارة 
الرومان أخذت من جذور شرقية لا لبس فيها. وأثبتت البحوث بأن 
الرومان كانوا فاتحين مغامرين باحثين بدأب عن طرق القوافل» ومراكز 


6 


الثراء» ولا سيما في بداية دولتهم, كدو ما كوم دعاة ثقافة وبناة 
حضارة» ولم يضيفوا إلى ما أخذوه عما سبقهم, ولم يستجدوا عناصر 
بعينهاء وكان مجمل نتاجهم يصب فيما اقتضت حاجتهم لنزعة الخيلاء 
وصفات إضفاء الجلال والحيبة والبذخ على العمارة. 


نعلم اليوم أن التلال التي ربضت على ذرواتهًا المدن تفسر بأنها 
طبقات متراكمة من مدائن خربة افتقرت الشعوب المتجددة في الحقب 
الغابرة على وسائل النقل التي بمعينها تنقل أنقاض الخراب بعد الطوفانات 
والزلازل والقلاقل والحروب والكوارث إلى أمكنة أخرى» فاستسهلت 
تسويتها واستعمال ما يمكن استعماله من خامات البناء المستدركة من 
أنقاضهاء وكانت تلك الظاهرة جلية في العراق القديم أكثر من غيره من 
البلدان بالمقارنة مع مصر مثلاً. وكانت هذه العملية تحدث مراراً» حق 
ترتفع موقع المكان بعد عدة طبقات تطورية على السهل الحيط بما ليشكل 
"مصطبة حضرية" بميئة قلعة سامقة تكسبها المنعة والإطلالة والإشراف, 
مثلما هو الحال في مدائن العراق أربيل وكركوك الأشوريتين أو حلب 
السورية. 


ويذهب بعض العلماء في تفسير تكوينها إلى افتقار الناس في تلك 
الحقب إلى وسائل النقل التي يسمح هم بمعينها نقل أنقاض الخرائب والمدن 
الدارسة إلى أمكنة أخرى» بقدر ما كانوا يستسهلون تسويتها واستعمال ما 
بمكن استعماله من مواد البناء الظاهرة فيهاء ويعاد توظيفها في إشادة ديار 
فوق المساحات المسواة. وقد اقتبس هذا العرف ليشاع في معابد اليونان 


ارك 


فوق الجبال والتلال (أكروبوليس)أو قلاع القرون الوسطى وأبراج بيوت 
الإقطاع (برجوازية) كما أسلفنا. ونجد مثلا في تبة كورا الواقعة في وسط 
شمال العراق أن ثمة ١5‏ طبقة من المدن المتراكمة» وتحت أور ثمانية مدن 
وحتى دول الإسلام, فتحت الكوفة وجد اليوم ثلاث مدن إحداها سومرية 
وأخرى بابلية والثالثة آرامية مسيحية. ويبدو أن لحكم الطوفانات أثر في 
تلك الظاهرة» فلم يكن للسكان بد من ترك الأطلال التي نتجت من 
ذلك والبناء فوقهاء وليس ترميمها أو البناء على تخومهاء وربما يتعلق 
الأمر في عدم الرغبة في إبدال المكان لمواجس روحانية" رغم الخراب الذي 
حصل". 


ولم تكن أساسات الباني القديمة الأجدر في تقمص هيئة المباني التي 
بنيت على أنقاضها في كل الحضارات» فقد كان لتغير تصاميم المساقط عا 
يناسب حالة التطور الفكري والوسائل والحاجات للحضارات وراء عدم 
الركون إلى تلك الظاهرة. لقد بنى الرومان مدنا كاملة استعملّت فيها 
أنقاض مدن اليونان أو حتى من بنايات ملوكهم السابقين» حيث جأ 
قسطنطين الكبير أن ينتزع كل التماثيل والنصب الجميلة التي أقامها 
سابقوه ليكرسها في نصوبه التي شيدهاء ولا سيما في قوس النصر الذي 
احتفظ بالعناصر التي كان قد شادها أغسطس ويوليوس وتراخان وأدريان 
وغيرهم ('). واستعملّت في القرون الوسطى في أوربا أنقاض الرومان 


1 من ضمن ذلك بعض أعمال المعمار الشامي أبو لودور الدمشقي مك-هة؟امم) النحتية, 
وحوت على تمائيل ذ نصفية له شخصيا. 
١‏ 





ومنشآتهم لبناءات الطراز الشبيه بالروماني (الرومانسك) ووطأت حتى 
عصر النهضة, وهذا الفنان- المعمار الإيطالي ميخائيل أنجلو بنى كنيسته 
المسماة (كنيسة العذراء) في روما على أساسات الحمامات الواقعة في 
الطرف الشمالي الشرقي من تل كيرينال والتي بناها الإمبراطور 
دقلديانوس» وتُشكّل نسخة عن حمامات كركلا المقتبسة من ميراث 
الشرق» وإن كانت تفوقها بالحجم. وحتى كنيسة (القديس بطرس) مركز 
الفاتيكان اليوم التي شارك ميخائيل أنجلو في تصميم قبتها في عصر 
النهضة» استل حجرها من ملعب (الكولوسيوم) الروماني الواقع وسط 
روماء وتراكب مع الحجر الماكث من المبنى (البازيليكي) الأول بعد نقضه. 


وة عرف استقدام الصناع من ولايات الدولة أو دول أخرى لإنجاز 
عمل معماري معين دعيت أحياناً (الليثوروجيا)» وكان ها الأثر في تلاقح 
الطرز وإثراء التجربة المعمارية والفنية وانتقاها بين الأقاليم» والذي يتمخض 
في العادة عن طرز جديدة. وقد سرت هذه السنة من القدم» وتذكر تواريخ 
العهد القديم (التوراة) كيف أن النبي (الملك) سليمان كان قد طلب من 
حيرام ملك صور الفينيقية أن يبعث له المعماريين والصناع ليبني ال ميكل في 
أورشليم» وقد كان ذلك إيعازاً بانتقال الطرز المعمارية الفينيقية المتطورة, 
التي كانت قد أخذت الكثير من المدرسة الفرعونية في عمارة الحجرء لتبث 
في ثنايا العمارة الفلسطينية. 


وفي التاريخ الإسلامى حدث الكثير عندما طلب الوليد بن عبد 
الملك من ملك بيزنطة أن يبعث له الصناع المهرة في الفسيفساءء والذي 


A 


طور لاحقاً المهارة في معالجة الفسيفساء في الفنون الإسلامية. وبمكن أن 
ينطبق الخال على انتقال المعماريين والصناع المهرة بين أصقاع العام 
الإسلامي بسبب رحلات الحج أو الحجرة لكسب الرزق» والأمر الذي 
ينطبق هنا هو طلب يقدمه سلاطينها وولاتما. كما حدث للوك اند 
المغول, أو ممارسة الترغيب والترهيب الباشر» كما حدث حينما أخذ 
تيمورلنك المغولي في القرن الثامن المجري» وبواكير الخامس عشر الميلادي 
خيرة المهندسين والعمال المهرة من سورية والعراق ليبنوا له مدن "مرقند 
وغيرات وترير: 


وفي التواريخ الإسلامية نقرأ بأن ملك بيزنطة بعث إلى الوليد بن عبد 
الملك الذي كان مغالياً في هندمة البنيان بعدد من المهندسين و(المقدرين) 
وكذلك المفصصين (عمال الفسيفساء) و(المذهبين) وورد أن الوليد جمع 
لبناء الجامع الأموي حذاق فارس واهند والمغرب والروم» وروى ابن شداد 
أن الوليد اقتلع من كنيسة أنطاكية عمدا عجيبة من المرمر والرخام لمسجد 
دمشق حملت في البحر إلى ساحلها. وأن بعض الجدران بقيت على حاها 
من المعبد الصابئية والبيعة النصرانية(") 


وتذكر التواريخ كذلك كيف جع السلطان العثماني سليم عام 
۳ه - ۱۷١٠م‏ كل المعماريين والحرفيين المهرة من مصر بعد أن 
عدّهم غنيمة حربه ضد المماليك في موقعة مرج دابق, ليبنوا له أجمل معام 
إسطنبول» ويرسخوا أعرافها المعمارية والفنية. وكانت بغداد قد استقطبت 


' ورد ذلك عند المؤرخ المقدسي (۱۲۹۷-۱۲۰۲) في (مختصر تاريخ ابن عساكر). 
AN‏ 


منذ أواسط القرن الثامن الميلادي حذّاق أهل الصناعات» والفنون 
المعمارية من الآفاق البعيدة فأتوا بأنوال الدسيج» وأفران الزجاج والخزف, 
ومدابغ الجلود. ومصانع الورق» وكان حظ سامراء بعد بنائها مزيداً من 
أرباب الحرف والعمال المهرة. فلا عجب أن تزدهر في هاتين المدينتين 
العامرتين» صناعة الأكسية والثياب» والخزف والزجاج» والعطر والصابون» 
والورق الذي لا نظير له في الجودة . 


وتذكر أحداث التاريخ كيف وضع الناصر لدين الله في الأندلس 
شروطه على الروم الخراج» بإرسال إثني عشر ألف رجلا لبناء مدينة 
الزهراءء واستقدم المهندسين والبتائين من بغداد والقسطنطينية» حتى 
أصبحت من أعظم المنجزات الحضرية. وكان ابن الأحمر قد شجع 
المسلمين النازحين من القواعد والمدن الإسلامية التي احتلها الإسبان 
للاستيطان في غرناطة حاضرة ملكه. وكان المسلمون النازحون أنشط 
عناصر امجتمع الإسّبانن» وأكثرها خبرة وتفوّقاً في الزراعة والتجارة والمهن 
والعلوم والفنون, فاستدعى ابن الأحمر أبرع المهندسين والبتائين والأطباء 
والكيميائيين وذوي الخبرة في الزراعة والتجارة والصناعة وأصحاب المهن 
والفنون. وأنشأ ابن الأحمر المساجد الفخمة» والقصور والأبنية الجميلة 
الزاهرة» والصروح الضخمة, وابتنى المستشفيات ودور العجزة» وعمّم 
المدارس» وابتنى الجامعات في جميع أنحاء المملكة, وأنشأ مساكن للغرباء, 
كما أنشأ المتنزهات العظيمةء والساحات الفسيحة, والطرق» وهكذا نمت 


غرناطة وازدهرت معاهدها ودورها وطرقهاء وتوسع عمرائماء وفاقت في 
عهد ابن الأحمر سائر المدن اء وفخامة (') 

ولا اشتعلت نيران الفتنة بقرطبة, هاجم البربر قصور الزهراء ودمّروها 
وأحرقوا مبانيهاء ومن جملتها دار الصناعة, فتوقفت منذ ذلك الحين عن 
الإنتاج» ويغلب الظن أن صناع قرطبة هاجروا إلى بلاط المأمون ذي النون 
ملك طليطلة حيث غمرهم بفيض رعايته» وشجعهم على الاستقرار في ظل 
كرمه» بمدينة (قونكة) إحدى مدن مملكة طليطلة في عصر الطوائف ('). 


وعموماً فإن المباني الدينية هي الأكثر حضوة واستقرار, وأما استغلال 
أطلاها فيتم في حالة اختلاف العقائد بين السابقة واللاحقة. ويحدث حتى 
في الدين الواحد باختلاف المذاهب أو السلاطين كما في أزمّنة النصرانية 
في القرون الوسطى» ولا سيما بين الرومانسك والقوطية والنهضة. وقد 
سرى ذلك العرف حتى حينما اختلفت العقائد بين السابقين واللاحقين من 
الأقوام بشكل جذري أو إصلاحي. فقد أصبحت زقورات (أنانا) 
السومرية هي نفسها ل(عشتار) البابلية. وهكذا الحال في الحند عندما 
تحولت معابد الحندوس إلى طوائفها أو حت إلى البوذية» ونفس الحال تحول 
بين الرومان وارثي اليونان ومدن الشام الكنعانية والحيثية والعمورية. 


' الوزير ضيا باشا - الأندلس الذاهبة ص ه١١‏ 
' د. السيد عبد العزيز سالم - قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس ج ۲ ص ١4‏ . 
f0‏ 





ونجد تلك الظاهرة قد حلت في عصور الإسلام الأولى حيث أنشأ 
الجامع الأموي في دمشق على كنيسة القديس يوحناء الذي عده المسلمون 
محلا مباركا يحوي ضريح النبي (ييى بن ركريا) (ع)» وهذا المكان كان 
معبد آرامي وثني لكوكب المشتري (جوبيتر)» ونفس الأمر حدث مع 
المسجد الأموي في الموصل» حيث كان موضعه معبداً آشورياء ثم أمسى 
كنيسة مسيحية (كنيسة الأربعين) ثم تحول إلى المسجد الأموي. ثم إلى 
(المسجد النوري) بعد أن عمروها أتابكة الموصل وحلب وأربيل فوقه 
المسجد الأموي, ويشتهر اليوم بمنارته (الحدباء). وكذلك الحال في اختيار 
وتمصير الكوفة على تخوم الصحراء مقتربا من الحيرة والبقاع التي قدستها 
كل الحضارات وآخرها المانوية (') 


وذكرت التواريخ الإسلامية بأن الفاتحين المسلمين كانوا يصالحون 
الأهلين إما على النصف من كنائسهم أو على بعضها أو يكتفون بواحدة 
أو بنصف واحدة كما اكتفوا بكنيسة القديس يوحنا (بجى) من أصل 
خمس عشرة كنيسة في دمشق وضواحيها. وأعطى أبو عبيدة أهل بعلبك 
وأهل الرستن الأمان على كنائسهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا 
للمسجد في الرستن. وصالح الفاتح أهل مص على ربع كنيستهم 
للمسجد وظلت كذلك إلى القرن الرابع الهمجري وبعض بيعتها المسجد 


أ من الطريف أن الفرس كانوا يحجون الى هذه الديار إحتفاءا بمافي(الشهيد) بعد أن أعدمه كسرى 
الفرس (بمرام الأول) عام ۲۷۷م »وقد سعوا حتى الى دفن موتاهم في تلك البقاع »ومن الطريف أننا 
نجده ساريا حتى اليوم لدى أصحاب المذهب (الشيعي) في إيران لما يرتبط ذلك بقربه من العتبات 
المقدسة للأئمة العلويين وليس للداعية (ماي) .. 

امرك 


الجامع وشطرها للنصارى وكنيستها من أعظم كنائس الشام» وترك الفاتحون 
لأهل اللاذقية كنيستهم وبنوا مسجداً جامعا لصلاهم 9 وسعوه 4 


وما سلم من حرائق الحروب الصليبية فإن جل العام المعمارية قد 
تغيرت» وأصبحت المساجد كنائس ثم لما عادت البلاد لسلطان المسلمين 
أعيدت بعض الكنائس إلى مساجد. وغير ذلك فإن أهم الكوارث المقوضة 
للعمران هي الزلازل, ولا سيما أن الكثير من البقاع العربية والإسلامية تقع 
تحت سطوقا ومنها شال إفريقيا والشام وآسيا الصغرى, وبعض البلقان 
والقوقاس والحند, فقد نسفت في الإسلام مدنا برمتها فقد حدث أن تقطع 
الجبل الأقرع على الساحل السوري فمات أهل اللاذقية سنة (47 1ه - 
٦‏ ۸م) وخربت طرابلس منه وني هذا الزلزال خربت مدن عامرة. وكذلك 
الخال في زلزال سنة 45٠0(‏ ه- /51١١م)‏ حيث خربت فلسطين, وزلزال 
سنة ( ٠٥۲‏ ه-/اه١١م)‏ خربت به أمهات المدن الشامية وهكذا يقال 
في معظم الزلازل التي وقعت حتى القرن الماضي ومن أهمها زلزال سنة 
(۷۳ھ -84لام) حتى إن من المدن ما لم يبق فيه جدار قائم ولا إنسان 
سائر (") 

وهذا ما حدث بين دول الإسلام في الهند ونجده في مسجد (قطب 
منار) الذي أنشأه المملوك التركي قطب الدين أيبك عام 95١١م‏ وهدمه 


' ند كرد علي-خطط الشام 


" ج كرد علي - المصدر السابق. 
يفضت 


الغزنيون من بعده» وجدير أن نذكر إلى أن مجمع قطب منار يضم العديد 
من المباني الأخرى على غرار (مسجد قوة الإسلام)ء والذي يعد أول 
مسجد بني في الحند. حيث استعملّت في تشييده الحجارة التي تم اقتلاعها 
من المعابد الجاينية (عقيدة هندية قديمة) والحندوسية ال۲۷ والتي كانت 
قائمة بالقرب من المكان, لذا نجد أن طراز المسجد يجمع بين أسلوبي 
العمارة الإسلامي والحندي. وبسبب انتقام الدول من بعضها لم يتبق من 
المسجد الأصلي إلا بعض الآثار» على أنه بمكن معاينة بعض الأجزاء التي 
تزينها نقوش من الزهور والآيات القرآنية. 


وفي مصر نجد جل البناءات ابتداءً من مسجد ابن طولون حتى 
البنايات المملوكية كانت قد شيدت من أنقاض مدينة الفسطاط الدارسة 
ونجد أن باب مدرسة السلطان حسن اقتلع وتم توظيفه في جامع السلطان 
برقوق المملوكي. وني شمال إفريقيا نجد أن مدن عمرت من أنقاض التي 
سبقتها في الموقع, أو على تخومها كما وليلي الرومانية وتمكاد وتيبازة 
وقرطاجة وبطيوة, وبعد ذلك قلعة بني حماد الإسلامية. وفي اليمن التي 
تعاني صروحها وآثارها من ذلك الإشكال للأسف حت اليوم ما حدى 
بأحدهم يعلق في إحدى البرامج التلفزية قائلا: أنقل من بيوت الكفار 
الحجر لابني بجا للمسلمين دياراً. وقد يجد ذلك التوظيف موقفا فقهيا 
إيجابيا استناداً إلى قوله تعالى في (سورة النور- الآية 9؟) 


وذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه أخبار الزمان, ومن أباده 
الحدثان: أن الخليفة المأمون, لا قدم مصر وأتى على الأهرام, أحب أن 


T۸ 


يهدم أحدها ليعلم ما فيهاء فقيل له: إنك لا تقدر على ذلك؟ فقال: لا 
بد من فتح شيء منه» ففتحت له الثلمة المفتوحة الآن بنار توقد وخلٌ 
يش ومعاول وحدّادين يعملون فيها حتى أنفق عليها أموالاً عظيمة, 
فوجدوا عرض الحائط قريباً من عشرين ذراعاً فلما انتهوا إلى آخر الحائط, 
وجدوا خلف النقب مطهرة خضراء فيها ذهب مضروب» وزن كل دينار 
أوقية» وكان عددها ألف دينار» فجعل المأمون يتعجب من ذلك الذهب 
ومن جودته» ثم أمر بحملة ما أنفق على الثلمة فوجدوا الذهب الذي 
أصابوه لا يزيد على ما أنفقوه» ولا ينقص فعجب من معرفتهم بمقدار ما 
ينفق عليه» ومن تركهم ما يوازيه في الموضع عجباً عظيماًء وقيل: إن 
المطهرة التي وجد فيها الذهب كانت من زبرجد, فأمر المأمون بحملها إلى 
خزانته» وكان آخر ما عمل من عجائب مصر 


وجاء عند المقريزي بان قراقوش(') وزير صلاح الدين الأيوي وابن 
عمه قد حاول هدم ارم وذكر: وقام الملك العزيز عثمان بن يوسف بن 
إيوي» وهو خليفة صلاح الدين» بمحاولة هدم الأهرام كلها عام ١١59017‏ 
فبدأ بالهرم الصغيرء فأوفد إليه النقابين والحجارين» وجماعة من عظماء 
دولته وأمراء مملكته, وأمرهم بحدمه ووكلهم بخرابه, فخيموا عندهاء وحشروا 
عليها الرجال ووفروا عليهم النفقات, وأقاموا نحو ثمانية أشهر بخيلهم 
يهدمون كل يوم بعد بذل الجهد, واستفراغ الوسع الحجر والحجرين» فقوم 
من فوق يدفعونه بالأسافين والأمخال» وقوم من أسفل يجذبونه بالقلوص 


' ويعني امه بالتركية (الدسر الأسود). 
۹ 


والأشطان, فإذا سقط مع له وجبة عظيمة من مسافة بعيدة» حت ترتجف 
الجبال» وتزلزل الأرض» ويغوص في الرمل» فيتعبون تعبا آخر حتى يخرجونه, 
تلقى في ذيل الجبل إلى مسافة قريبة. فلما طال ثواؤهم, ونفدت نفقاقم» 
وتضاعف نصبهم» ووهت عزايمهم. وخارت قواهم» كفوا محسورين 
مذمومين» لم ينالوا بغية» ولا بلغوا غاية» بل كانت غايتهم أن شوهوا ارم 
سنة 047 هه ولو بُذل لهم ألف دينار ليردوا حجرا لعجزوا عن ذلك"(١).‏ 


وكانت بعض المساجد القديمة تدم جملة لتقام مكانها مساجد جديدة 
تخلد ذكر منشى الأثر الجديد كما حدث للمسجد الأموي في الموصل 
الذي قوض وأنشأً محله المسجد النوري الباقي حت اليوم. وفي الحند يشير 
بعض المؤرخين بأن ما هدمه المسلمون عند توالي دولهم أكثر مما هدمه 
الكفار كما يبدو, وكان منشئو الجوامع يوقفون عليها العقارات والأراضي 
الزراعية لصيانتها وترميمهاء فلم يهدم من المساجد إلا التى كانت تخدم 
أحياء زالت وهجرها أهلوها وقوضتها عوادي الزمن» وما كان لأحد أن 
يحرؤ على هدم مسجد أبداً غير أنه كان من الطبيعى أن تمتد يد التجديد 
والترميم للمساجد التى تعرضت للبلى» إلا أن فقدان النموذج الأصلي, 
وفقدان بعض العناصر المعمارية كالأعمّدة, كان يُلجى المعماريين إلى 
استحداثات قد لا تتفق مع هيئة الأصل» كما وقع لجامع عمرو بن العاص 


١‏ ورد ذلك في كتاب: المواعظ والاعتبار, وكذلك عند عبد اللطيف بن يوسف بن 5 بن علي 

البغدادي» الذي يعرف بابن اللباد. أو بابن نقطة (المتوفى: 5794ه في كتابه الإفادة والاعتبار في 

الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصرء الذي طبع في مطبعة وادي النيل عام 5/5١ه‏ 
CT.‏ 


الذي تحدم مرات إثر تحدم مدينة الفسطاط, وأمسى اليوم لا بمت للأصل 
بصلة. وأقل من ذلك نجده في الجامع الأموي الذي تعرض للزلازل والحريق 
مراراً خلال أعوام ۱۰٦۸‏ و ۱۲۰۰ و414١‏ و۱۸۹۳ بحيث رمم 
بدون التقيد بصفته الأولى ونفس الأَمْر ينطبق على قبة الصخرة التي يعود 
الخزف الكربلائي (القاشاني) الأزرق الذي يغشي واجهاتها إلى زمن 
السلطان العثمان سليمان القانون عام ٠١۳١۸‏ م» وليس إلى زمن بنائها 
الأول عام 1۹۲م أيام ولاية عبد الملك بن مروان, بيد إن القيم الجمالية 
فى العمارة الإسلامية تختلف ني ذلك عن العّمارة الأوربيةء كما في انتقال 
الطراز بين الرومانسك والقوطي والنهضة والباروك, الأمر الذى لا يجوز 
معه تطبيق القواعد النظرية أو العايير الجمالية الغربية على العّمارة 
الإسلامية 


وسعت الدول الإسلامية المتعاقبة إلى احترام قبور وأضرحة من 
سبقوهم من الشعوب» أو حتى ممن سبقهم من دول الإسلام ثما حفظ لنا 
ثروة من الطرز المعمارية والفنية التي أفادت الباحثين في بحوثهم المقارنة, 
والخوض في تسلسل وتطور الطرز. لكن ثمة استشاءات وعمليات إنتقام 
شهدها التاريخ» وكانت ”متها تقويض معالم مهمة حرمنا من أثرها الدال 
على معطيات زمانما وأفقدتنا حلقة في سلسلة التطور المعماري. فقد قوض 
العباسيون قصور الأمويين» وحتى نبشوا قبورهم غلا وهدم الخليفة 
العباسي المتوكل ضريحي الإمامين الحسين والعباس في كربلاءء وأبوهما 
الإمام علي في النجف عام ٠8م‏ وهذا ما فعله الأيوبيون بقبور الفاطميين 
التي نبشت ومثل برفاتها وألقيت في القمامة. 

<١ 


وما فعله العثمانيون والصفويون في حرويهم من أجل الاستحواذ على 
العراق» فكان السجال بينهم يتجسد في هدم ونبش قبور الأولياء الذين 
تنسب جزافا لعدوهم» في حالة من التصنيف والانحياز الساذج والملفق. 
وحدث الأمر عام ۲٠۱۸م‏ حينما هاجم أتباع تعاليم الشيخ د بن عبد 
الوهاب السلفي في الجزيرة العربية» العراق والخليج» وتبوا من كربلاء 
والنجف, نفائس الأضرحة, واقتلعوا حتى الخزف الكربلائي من حيطافاء 
وعدوها (غنيمة حرب) مستساغة وحلال! 


لقد نقلت بعض أنقاض الصروح» ولا سيما المنهوبة من القصور, 
وحتى المساجد» حتى مكثت هياكلها شاخصة كأطلال. فقد أشار الجاحظ 
البصري إلى تلك الظاهرة في الطبيعة البشرية وقال: من شأن الملوك أن 
يطمسوا على آثار من قبلهم وأن بميتوا ذكر أعدائهم, فقد هدموا بذلك 
السبب المدن وأكثر الحصون. كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية, 
وعلى ذلك هم في الإسلام كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم 
الآطام (الحصون) التي كانت في المدينة» وكما هدم زياد كل قصر ومصنع 
كان لابن عامر وكما هدم أصحابنا (ويعني العباسيين) بناء مدن الشام(') 


ويذكر المؤرخ الشامي غيل كرد علي: كم أدركنا وأدرك آباؤنا وأجدادنا 
من أثر بديع سطت عليه يد خرقاء لدسل حجارته. وكم من كتابة تاريخية 
عفى أثرها جهلا وغباوة. اجتاز القاضي أبو يعلي المعري ببلدة شيات 
ظاهر معرة النعمان ينقضون بنياتما ليعمروا به موضعاً آخر فقال: 


' بحر الجاحظ- البيان والتبيين. 
بحرت 


مررت برسم في شياث فراعني به زجل الأحجار تحت المعاول 
تناو ها عبل الذراع كأنما رمى الدهر فيما بينهم حرب وائل 
أتتلفها شلت مينك خلّها ‏ لعتبر أو زار أو مسائل 
منازل قوم حدثتنا حديثهم ول أر أحلى من حديث المنازل 

وني دمشق توجد مدرسة حنفية تدعى بالسبائية وتقع خارج باب 
الجابية وشتمالي بئر الصارم, وكان قد أنشأها نائب الشام المملوكي سيباي 
الذي كان أمير السلاح في مصر عام ١۹۲ه‏ ١٠١٠م‏ وجعلها مدرسة 
ومسجد وتربة وزاوية وقد عمرها بمداميك الحجر الأبلق, وقال في المختصر 
أنه لم يدع في دمشق مسجداً مهجوراً ولا مدفناً معموراً حتى أخذ منه 
الأحجار والرخام والأعمّدة ما رغب إلى ذلك سبيلا حتى سمى علماء 
دمشق ذلك المبنى (جامع الجوامع) تفكها(') 


وبمكن أن بحتاج إعادة توظيف الخامات والعناصر إلى ذوق وفطنة 
معمارية2 يذكرها المستشرق گوستاف لوبون مذكرا: (إن أعمّدة المعابد 
القديمة التي أخذها العرب في قرطبةء كانت قصيرة وغير صالحة ليقوم عليها 
سقف عال كسقف الجامع (جامع قرطبة) فوضعوا بعضها فوق بعض» 
ساترين عدم صلاحها بتلك الحنايا الدالة على مهاركم الفائقة. فلو كان 


' غ كرد علي )١9487-1810/5(‏ - خطط الشام - القاهرة .٠۹۲۰‏ 
ره 


الترك في محل العرب ما عن مثل هذا الرأي لعقوهم الغليظة)(') وتكون 
عناصر الحيطان الحاملة والساندة في العمارة المبنية بخامة الحجارة هي 
أصعب ما يمكن نقله كما حال العمارة الكنعانية ومنها الفينيقية والمصرية 
والآشورية والحيثية والأخمينية» وحتى في أمريكا قبل الكولومبية لحضارات 
المايا والأزتك والإنكا. بسبب ضخامة وثقل الأجزاء المكونة هاء والتي 
تكون أثقاها بين ۲٠-۲‏ طن وهي فوق طاقة البشر العاديين. 


وأسهل من ذلك كانت العناصر التزيينية والأعمّدة ومكوناتها وهي 
أكثر العناصر نقلاً. وقد فتح هذا الإعجاز الإنجازي الباب لخيالات البعض 
ممن ذهب إلى أن أناس (عمالقة) بطول لا يقل عن خمسة أمتار قاموا ببناء 
تلك العمائر» لعجز الإنسان الحالي» بطول حوالي (1,١م)‏ من نقل 
أحجارها وتثبيتها بتلك الدقة كما في الأهرامات أو بعلبك. 


أما عمارة الآجر فهي الأسهل في النقل نظرا لإمكانية تفكيك 
مكوناتها إلى أجزاء صغيرة يمكن حملهاء وجدير بالذكر أن نقل الآثار في 
المناطق التي تتوفر على مسطحات مائية كالأخار والبحيرات والبحار جاء 
أسهل» كما هو الحال في اليونان ووادي النيل وأنهار العراق التي حملت 
على مياهها مدن عامرة لتنشأ في أماكن أخرى. مغل بناء بغداد من 


' كوستاف لوبون- حضارة العرب - ترجمة أحمد زعيتر- بيروت ١91/4‏ وهذا يدلل عن حقده 
على الأتراك وتبعيته للخطاب القومي العنصري الذي شاع في حينه» وذلك بازدراء الألمان 
والإنكليز والأتراك مغلاً. 

<€ 


طيسفون المدائن ومدن شال بغداد, أو تباعا من مصدر خرائب سامراء 
ومدن الفرات الأوسط من أطلال بابل والمدن السومرية والأكدية. 


وقد يستسهل نقل الأنقاض من البانى المدنية والعسكرية بعدما 
تنتهك بوجود أصحابما بسبب الإنتقام أو الغنيمة» ولا سيما بعد إهمالاء 
وخاصة إذا كانت العناصر المعمارية سهلة النزع أي من الآجر أو الخشب» 
بينما تبقى مداميك الحجر الضخمة أصعب شأنا. ولدينا أمثلة كثيرة على 
ذلك ابتداءً من مدن الفرات الأوسط التي أخذت طابوقها من أطلال بابل 
أو الحيرة أو أوروك ثم بغداد من طيسفون وما قصور البويهيين في الها إلا 
من الآجر المنزوع من بقايا سامراء. 


ولم تسلم حتى الأبواب الحديدية التي كانت في مدينة المنصور المدورة 
(مدينة السلام المبنية ١8٠‏ ه 57/ام) والتي انتزعها أبو جعفر من واسط 
بعدما جلبها الحجاج الثقفي من مدائن العراق القديمة (نرجح مدائن لكش 
السومرية) وتنقل أساطير التاريخ بأنها بوابات مدينة بناها النبي سليمان 
(بنتها الجن) اسمها (زنده ورد)» ولم يعثر عليها حتى اليوم! ثم انتزع معز 
الدولة البويهي تلك الأبواب من بغداد المدورة عام٠48‏ م من أجل 
توظيفها في قصره في الشماسية (الأعظمية) شال بغداد, ثم اختفت إلى 


الأبد بعد ذلك. 


وني مصر نجد أن جل البناءات ابتداءً من مسجد ابن طولون حتق 
البنايات المملوكية كانت قد شيدت من أنقاض مدينة الفسطاط الدارسة» 


مارت 


ول يتسن لهم نقل مداميك الحجر الكبيرة في الجيزة لثقلها. ونجد أن باب 
مدرسة السلطان حسر قد اقتلع من محله وتم توظيفه في جامع السلطان 
١ 5 50‏ 
برقوق المملوكي, ليفضحه النص المكتوب على سطحه ( ). 


وني شال إفريقيا نجد أن مدن عمرت بالكامل من أنقاض التي سبقتها 
في الموقع أو على تخومها كما في وليلي الرومانية قرب الرباط وتمقاد وتيبازة 
في مدن وسط الجزائر وبطيوة في مدن مليليه ومستغام» وبعد ذلك أنقاض 
قلعة بني حماد الإسلامية في مدن شرق الجحزائر» وأنقاض قرطاجة الفينيقية 
في مدن تونس ومحيطها.. الح. 


ول يحدد الإسلام طرازا معماريا بذاته» أو يفضل عناصر معمارية 
بعينها كما حدث لتطور طرز العمارة الغربية التي شهدت انتقالات قلقة 
وجذرية كما بين الرومانسك والقوطي والباروك والنهضة... ال. وبذلك 
فتح الإسلام المعماري الأفق واسعا للبنائين في اختيار ما جبلوا عليه في 
أعرافهم الحلية الموروثة» وكان أسهل عليهم أن يختاروا ما تقع عليه أيديهم 
في المواقع الدارسة أو يلتزموا بوازع ديني صارم حددته الشريعة في 
الاستحواذ على المدائن المفتوحة, مثلما حدث في الشام وفلسطين. 


وقد اشترط في مواقع المساجد التقبيل الجيد للمعابد الدارسة مع 
إضافة ما يمكن أن يتواءم مع "المسقط النبوي" للمخططء المعروف 
بالمستطيلين المتداخلين. وقد نجد تلك الظاهرة قد انتقلت حت اند عندما 


' صا لمعي - التراث المعماري الإسلامي في مصر - بيروت .١9/85‏ 
كع 


وظفت بعض معابد الهندوس في بواكير الفتح الإسلامي» وامتدت حق 
حلول دولة السلاطين الغورية التي بنت مسجد (قوة الإسلام) عام 
8 في عاصمتهم دهي» وانتفت عندما حلت دولة المغول المسلمة 
(67١-1ا86١‏ م). وربما كان تحول كنيسة النبي ييى الى المسجد 
الأموي في دمشق والنقلة الوظيفية من الشكل الطولي إلى العرضي في 
فضائها المعماري» قد أثر على ما بعده من جعل حرم الصلاة طويلا باتجاه 
عمودي على اتجاه القبلة» بالرغم من التأويل الفقهي في أفضلية الوقوف 
قرب الإمام أو في الصفوف الأولى» لذا أمست صفوف المصلين أطول 


وأقل عددا. 


ونقرأ الكثير من الأحداث في كل التواريخ عن قصص وراثة المكان 
العمرانن والمعماري, حتى أن مفردة التراث الواردة مرة واحدة في القرآن 
الكريم عنت ذلك المفهوم تحديداً (وَتأْكُلُونَ الثْرَاتَ اكلا لَما. وَتبُونَ 
الْمَالَ حًا جَمَّ) (') أي اللاحق الذي يرث السابق» بيد أن لهذا الميراث 
حوب» فإن فرط به فبئس الفعل» وإن أهمل فذلك جهل وطامة, لذا 
مكث المفهوم يعني الاستفادة حصراً من منتج من سلف لمن خلف» وهو 
مفهوم مستدام» أي لاحق جيل أو ذات احتكاره لنفسها 


نقول ذلك ونحن نشهد تحولات متسارعة لا مصلحة ها باستمرار 
ميراثنا الثقافي فقد رامت العولمة "انفتاحا" فيها وتحرير الاقتصاد حد إلغاء 
القيم الموروثة بما يساير شبقهاء وسعت لانتشار مفاهيم القرية الكونية, 


أ سورة الفجر - الآية ۲١-٠۹‏ . 
۷ 


المنسجمة مع تطورات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وما فرضته من 
علاقات واسعة وحدود غير مرئية بين الدول» بقصد هيمنة الاقتصاد الخر 
ومفاهيم الخصخصة وسيطرة الرأسمالية التكنولوجية وترويج الفكر والثقافة 
الكوكبية وإعلام الترفيه والاستهلاك المدغدغ للغرائز» وظهور مؤسسات 
عملاقة لصناعة الإعلام والفنون والإنترنت» وما إلى ذلك. كما ساعد على 
هذه التطورات إرساء بنية أساسية معلوماتية عالمية من خلال شبكات 
اتصالية ضخمة, وظهور طريق المعلومات فائق السرعة وحشد آلاف من 
الأقمار الصناعية تمكن من الحصول على المعلومات من أي مكان فى أى 
وقت. 


كما بميز هذا امجتمع العالمى ظهور أنماط من الاتصالات والنقل 
والمواصلات مرتبطة بتلك الشبكات بما سعى للتغيير عن بعد وقد استتبع 
ذلك تطوير أنظمة جديدة لمارسة العمل وبداية لتغيير أساليب السكن 
وتكامل عمليات الإنتاج عبر الدول» وحرية التنقل والتعلم والعلاقات 
الاجتماعية. كما تميز العالم الجديد بثورة الإنترنت وهي تمثل النمط العمراني 
الفراغي الجديد الذي يسود العام باضطراد ويتكون من مدن تخيلية وأسواق 
ومحلات وجامعات ومتاحف ومكتبات ومواقع للمعلومات ومحركات 
للبحث وغيرها وهي تمثل بذلك نسقاً فراغياً رمزباً موازياً لفراغ الواقع: 
ويسوده التداخل بين الواقع الحقيقى والعالم الخيالي. كما تيا فيه معظم 
الأنشطة العلمية والثقافية والذهنية المعاصرة وتزدهر فيه التجارة 
الإلكترونية وتعاملات البيع والشراء بشكل تتلاشى معه حدود المكان 


۸ 


وتتحرر فيه قيود الزمان وقيود أخرى كثيرة 6 إذن كن نعاني من حداثة 
فرطت بتراكمات انتج الموروث» والذي سيجعل من تراثنا في سنين قليلة 
مقبلة. عدما ونسيا. 


وكان من تداعيات هذا" الانفتاح" التشوهات التي نشهدها على محيا 
مكاننا التراثي الواصل مع لغتنا المعمارية وبيئتها وتاريخهاء ذلك التكوين 
المعماري الموحي بماضي المكان وأصالته وقيمه, والذي أمسى يوحي وكأنه 
لا جذور له يستمد منها هويته. لقد تمادى معماريو اليوم في الاستدساخ 
من الغريب والمستغرب, وأقحم الكثير من الشطحات على البيئة التراثية 
التي لا نضمن كفاءتا لكي نورثها لم يأت من بعدنا. وهذا ينبع من إيماننا 
أن الدنيا مداميك وحركية مستمرة للتوارث والإفادة من التجارب. 


ونرصد المفارقة هنا حينما نقلت تلك التجارب من بيئاتًا الباحغة عن 
الشمس إلى بيئتنا التق تتعامل معها بتفاهم وحذر, والشمس هنا ثابت 
کون ونحن طارئون على المكان, ولا بد من أن نتواءم مع معطياتها المكانية. 


إن القيم التي وظفها التراث العمران عبر الأزمنة المتراكمة يكاد يكون 
فريدا ويصعب إعادة إنتاجه» فلو رمنا أن نستجد مبنى بحاكي ما أنجر في 
الحقب الأموية أو العباسية مثلاً. فما علينا إلا ان نستنهض الراقدين تحت 
الغرى ليقوموا لنا بذلك» فلكل زمان أحكام ووسائل» ويبقى التراث سجل 
زمانه في نفس المكان. بل إن ما وصلنا إليه لا يمكن أن يتجسد إلا بعد أن 


' جلال عبادة .)56٠١١(‏ هندسة الخيال» عمارة المعلومات, مجلة مدينة العدد ١1/‏ 
۹ 





مر وأثرى من مجمل تلك التجارب التراثية. ونجد في هذا السياق رأيا 
للمعمار المصري حسن فتحي مركزا فيه على أهمية وإمكانات التراث 
العمراني ودورها الاجتماعي قال فيه: "يؤدي الاحتكاك المتزايد بالجتمعات 
المتقدمة صناعياً إلى إضعاف تلك الحضارات التي تطورت فيها الحرف وإلى 
حدوث الاضطرابات فيها بإستمرار.. وإن أكثر الناس تأثراً هم الذين 
تضطرهم حاجتهم إلى استهلاك تلك البضائع المنتجة صناعياً. وتكون 
النتيجة دماراً ثقافياً ونفسياً وأخلاقياً ومادياً. بيد أن هؤلاء الناس أنفسهم 
هم الذين يملكون المعرفة الدقيقة لكيفية العيش في انسجام مع البيئة 
الحيطة. فقد أدت الخبرات التي تراكمات عبر آلاف السنين إلى تطوير 
أنغاط بناء قليلة التكاليف توظف فيها المواد المتوفرة محلياً والقدرة على 
تبيئة المناخ الملائم.. وكانت هذه العمارة على درجة عالية من التعبير 
الفني'(') 


لذا فإن امحافظة على التراث العمراني لا تعني الحافظة على القديم 
فقط بل هو عملية تتابع قيمي للأسس والمعايير التصميمية والتخطيطية 


القديمة في الأنغاط العمرانية الحديثة.» وتلك الاستمرارية هو جوهر 
الاستدامة التي يشيع التشدق فيها اليوم 

إن التقدم الذي نرنو إليه» مرهون بحجم الذخيرة التراثية وقد لا يكمل 
الجمال الفنى المعماري دون استحضار عناصر التراث حيث نقرأ بمذا 
السياق رأياً للمعمار السعودي على الشعيبى يقول فيه: "إذا كانت بعض 


أ فتحى» حسن: الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية - بيروت ١۱۹۸۸۰‏ 
HEE‏ 


الفنون تستطيع أن تبتعد عن التراث لكونها نحاية في حد ذاقاء فإن 
التصميم العمراني والمعماري كفنون تطبيقية لا تستطيع التقدم دون 
تراث...(و) إذا وسعت النظرة إلى التراث من مجرد آثار وطرز تشكيلية 
كلاسيكية إلى نظرة واسعة تشمل الكلاسيكي والشعبي وتشمل إمكانات 
الاستفادة نما هو قائم منه وتشمل نغماذجه وأنساقه وتشمل المؤسسات التي 
أنتجته وتشمل القيم التي ارتبطت باء فإن التراث سيصبح مصدراً 
للأجيال الحالية والقادمة يساعدها على استعادة القيم الإنسانية في بيئتها 
وجعلها أكثر قدرة على البقاء"(') 


وكانت تلك الأسباب وغيرها قد استهوت المعمار الأمريكي وأحد 
رواد تيار (ما بعد الحداثة 7210067015 غ205 ) المعماري روبرت فنتوري 
العناصر التراثية حيث نشر آراءه لإيضاح البعد الجمالي للعنصر التقليدي 
في كتابه "التعقيد والتناقض" Complexity and Contradiction‏ 
وأكد فيه أن العمارة لما تقاليدها وهذه التقاليد يمكن أن تكون بياناً آخر 
للنظام بالغ القوة وعلى نطاق واسع فيؤكد أن على المعماري استغلال 
التقاليد وإحيائها. 


ونجده يوضح فكرة الاحتوائية 0002105190655 فيرى فيها 
استيعاب العما المعماري لعناصر وأشكال تارخية یری المصمم أهمية 


' الشعيي» على "تأثير التراث في مستقبل العمران" ورقة مقدمة لأمسية العمارة الإسلامية والتراث 
في المهرجان الوطني للتراث والثقافة, الرياض ۱۹۹۷م 
١‏ 





إيجادها لإحداث أثر نفسي لدى المتلقي بلا ضرورة أو ظرفية تحتمها طبيعة 
الموقع ونوعية البناء وهذا ما سار على هداه معماريو ما بعد الحداثة ('). 


إن توريث المبادئ التقليدية للعمران والعمارة في العمارة الحديثة ينأى 
عن حالات التجريب والتخلف والتخريب» بل بالعكس فإنه يمد مشاريع 
المستقبل باستمرارية العطاء والأداء الأفضل والإثراء ويعزز برامجها 
المعمارية. ناهيك عما تكسبه من رضى المجتمع كحارس المكان ومؤقنه 
وسادن التراث» وتشكيلها طابعاً جميلاً منسجما مع ذات المكان ومحيطه 
البيئي والعمرانى. ونتلمس جيعا اليوم مدى التناشز الحاصل بين مقنضيات 
بيئتناء وتداولنا الخامات المعدنية المغشية ببلاهة وسطحية لعيوب وتفاصيل 
وتوصيللات وتجهيزات واجهات البناءء كما هى خامة ما يدعونه (الكوبوند) 
المصنوعة من معدن الألنيوم والتي تشيع حلاً سحرياً شوه بأدائه وتوظيفه 
وشكله ولونه وملمسه محيا العمارة التقليدية وجوهرها وجدواها. وبالنتيجة 
لا بد أن تكون مساوئ تلك التجارب عظة ودروسا ها نروم الوصول إليه, 
ونستفيد من الإمكانات المتاحة اليوم. ولا بد أن ري محاورة وحوصلة 
علمية مستمرة للتجربة العمرانية الراهنة من خلال الدرس والتحليل» 
وعنهجية النقد العلمي, وذلك من خلال رفع تقارير مستقبلية 
715 201035161 قبل أن نقع فريسة مشاكل بيئية وخسائر 
اجتماعية واقتصادية جسيمة سوف تكلفنا الكثير» وتترك أسوأ انطباع عند 


١‏ فنتوري روبرت "التعقيد والتناقض في العمارة" ترجمة سعاد عبد علي مهدي - بغداد - دار 
الشؤون الثقافية ۹۸۷١م‏ 
EN‏ 





من يرثنا وبروم الاستفادة من منجزنا. فلا بد من الوعي بفائدة توظيف 
القيم المكانية في مشاريع العصر الحاضر بما توفره من الوقت وجودة الإنتاج 
ورضا المتلقين والمتداولين وقناعتهم. 


ثمة آفاق متعددة وثرية في مبادئ وعناصر العمارة الحلية التقليدية إذا 
ما وظفت في العمارة الحديثة» وإن ما نحتاجه اليوم هو إعادة النظر في 
القوانين العقارية والبرامج الدراسية والأنظمة البلدية. حيث أن للانظمة 
والاشتراطات تأثيرا كبيرا على النمط العمران بصورة خاصة وعلى العمران 
بمفهومه الأشمل؛ فنظام الارتدادات وانعكاساته المادية والتصميمة على 
المالك يؤثر سلباً في تكلفة وتصميم المبنى فهو يعرض الجزء الأكبر في المبنى 
للظروف الناخية المتقلبة وينتج عنه مناطق حول المبنى يصعب استغلاها 
في نشاط مفيد كحديقة أو مكان للترفيه, كذلك يؤدي هذا النظام إلى 
ضياع كبير لمساحات الأرض ويبرز تأثير نظام الارتدادات الأشهمل بزيادة 
التكلفة في شبكة الخدمات على مستوى المدينة. . 


أما الاثر الاجتماعي لهذا النظام كونه يضعف العلاقات الاجتماعية 
ويباعد بين السكان والأنظمة إذا لم تطور وتتماشى مع روح العصر تعتبر 
قيداً أساسياً يحد من عملية الإبداع وتوفير بدائل تصميمية ناجحة لدى 
المصمم فقد ينتج من التقيد الحرفي بالأنظمة تكرار في المظهر العام 
لواجهات المباني وتكرار مل في تصميمات الباني السكنية بصفة خاصة, 
وحيث أن الكثير من هذه الأنظمة ذات جذور خارج البيئة الحلية وربما 
بعضها أستعير من قوانين خارجية» فقد ينعكس أثر هذه الأنظمة كنوع من 


EAN 


التغريب في المساكن وعدم انسجامها مع أسلوب حياة امجتمع المحلي, 
كذلك قد تحد هذه الأنظمة من عملية تطوير نوعية المباني ثم أنما تشكل 
تقييداً لإبداعات المصممين في توفير بدائل وحلولا تصميمية بديلة وجيدة, 
وتؤثر الأنظمة والاشتراطات معمارياً على المسكن المعاصر بشكل كبير 
فلقد تم استبدال نظام الانفتاح على الداخل للمسكن بنظام الانفتاح على 
الخارج حيث تفتح حجرات المنزل على المنازل المقابلة والشوارع امحيطة. . 


بجانب تلك الخصوصية كان الفناء الداخلي فعالاً في مجال مناسبته 
للبيئة المناخية فهو يعمل على تلطيف الحرارة وهذه الميزة صار يفتقدها 
المنزل المعاصرء ويبرز نظام الارتداد كعنصر سلبي في هضم حق المالك في 
عدم البناء في أرض اشتراها وحصره في نطاق استخدام حيز محدد من 
الأرض. 

إن الأنظمة والاشتراطات المفروضة من قطاعات البلدية أو صندوق 
التنمية العقارية أو الدفاع المدني في بعض البان تحتاج إلى دراسة لتوحيدها 
وتطويرها لتواكب روح العصر وتطور مفهوم العمارة والعمران بما يتناسب 
مع بيئاتنا الثلاث؛ فليس بالضرورة أن نجاح مبنى معين في بلد معين يعتبر 
شهادة نجاح له تمهد لتطبيقه عندناء فكل بلد له طابعه الخاص وميزاته 
الاجتماعية والمناخية. والعلاج يكمن في إمكانية الاستفادة من الحلول 
التراثية استفادة حديثة تجعلنا مطمئنين على ما سوف نورثه لمن بأتي من 


بعدنا. 


2 


نة توجه عمراني حدث في السنين الأخيرة وحول نظرة الئاس إلى 
دراسة البناء وخصوصا لدى الشعوب المتقدمة, وتوسع الاهتمام لتطأ حق 
الآثار التي من أعدائها ومحتليها والغزاة في حقب التاريخ. وقد تطور علم 
(الترميم المعماري 1165]013]101) الذي نسميه في التراث (حد البناء)» 
وهو عملية صيانة البنى من الخراب الذي 1 به» وتستعمل عادة للمباني 
التاريخية ومحاولة إعادة المبنى إلى حالته الأصلية عن طريق إعادة بنائه أو 
إصلاحه حسب ما تتطلبه حالته. وقد تطورت لتصبح علما قائما بذاته» 
ويختص به نفر من المعماريين» وقد ترادف مع معان تصب في نفس الحدف 
مثل صيانة أو محافظة Conservation‏ أو تجديد Renovation‏ أو 


إعادة بناء .Reconstruction‏ 


ومن المعلوم أن المبنى التاريخي يعاني من العتق والحزال بسبب تقادم 
الزمن عليه ما يستدعي عملية منظمة تدخل فيها العلوم والتقنية 
والحفريات والفنون والخيال على قدم وساق لتشارك في عملية تخليص 
المبنى نما يعانيه من الرطوبة والهدم أو البحث والتجريد بفعل الزمن, 
ويتطلب محاولة إعادة صنع مواد البناء الأصلية أو إعادة إنتاجها ومحاولة 
استعمال نفس التقنيات المتبعة لدى إنشاء المعلم. 


ويتطلب ذلك إزالة حطام كبير من صلب البناء أو ما علق به من 
إضافات لا تمت للأصل بصلة. ونجد اليوم ميثاقا عالميا تشرف عليه 
اليونسكو يدعى (ميثاق البندقية) لعام ٠٦۱۹ء‏ والذي يحدد الآليات 
والمناهج المعيارية في مارسة الترميم الآثاري» وأهم بنوده» استعمال نفس 


° 


الخامات وعين الوسائل والتقنيات في إعادة نفس عناصر الأثر الإنشائية 
والفنية إلى حالة تكون الأقرب إلى الأصلية. وهذا وراء تنصل منظمة 
اليونسكو من إدراج مدينة بابل العريقة ضمن قائمة التراث العالمي» بعدما 
تدخل صدام حسين في ثمانينات القرن الماضي في إعادة بناء أجزاء مهمة 
منها بآجر تجاري حديث وأضفى امه على كل قطعة آجر من خلال نحت 
حرفي (ص.ح) على ظاهرهاء ليجعلها محل تمكم العامة وتنصل كل الجهات 
العلمية والتاريخية, فأفقد العراق وبابل الكثير من الرعاية والمكانة» والأهم 
أنه عوق عمليات الحفريات التي كان يجب أن تستمر لتكشف عن خفايا 
تاريخ المدينة. 


يئن العام العربيى والإسلامي اليوم من ضعف الحال في هذا 
الاختصاص الذي يتطلب مهارة وتحضيرا علميا وتقنيا عالياء ناهيك عن 
سخاء التمويل الذي يؤمن ديمومة العمل. فلدينا القاهرة فقط تحتوي على 
ما يقارب الستمائة معلما إسلاميا تنتظر الإنقاذ. أو فاس القديمة تحتاج إلى 
طاقات جبارة لصيانتها. ولا غرو في الأخذ بتجارب الشعوب» ولا سيما 
أن لدينا إرث الدنيا في جل أقطار العام الإسلامي. فها هي وليلي 
وسجلماسة في المغرب والمنصورة وبطيوه وقلعة بني حماد في الجزائر, 
والملاعب المدورة (70اء00115)) في مدينة (الجم) وأقواس النصر 
القرطاجية في تونس ولبدة وغيرها في ليبيا وسامراء وواسط في العراق 
ومدائن اليمن وهيرات وبلخ ومرو ني آسيا الوسطى. 


551 


وني التراث الإسلامي ترد مدونات كثيرة لمعماريين أشرفوا على إعادة 
بناء أو صيانة معلم ماء ولكن ل يأت مفهوم (الترميم المعماري) قائما بذاته 
كعلم كما نحن نعرفه اليوم. وقد كانت عمليات الترميم في التراث تتم على 
أساس إصلاح البنى ما ألم به من عتق وإهمال أو حتى إضافة بعض 
المعالجات الفنية عليه أو زيادة بعض الأجزاء ملحقة بالبناء بغرض 
التوسعة. وكل تلك الأعمال لم تتبع نظاما مرجعيا بإعادة البناء إلى حاله 
الأصلي» بقدر المعالجة الفنية بنفس الطرز المتداولة والشائعة في فترة 
الأعمال الترميمية» نما خلق حالة من الخلاسية المعمارية» وتدلل على 
أعمال الترميم المتعاقبة كما هو الحال في بناء الحرمين الشريفين بمكة 
والمدينة التي فقدت أصلها الأول» وقبة الصخرة التي رممت خلال الحقب 
المملوكية والعثمانية كما الجامع الأموي أو جامع الزيتونة خلال الحقبة 
الحفصية والعثمانيةء عندما حلت العناصر الأندلسية على البناءء فنسخت 
الأصل المعماري والفني الأول. 


ونأخذ بمذا الصدد شخصية المعمار جعفر الدوسري الذي ورد امه 
في ثنايا مسجد قبة الصخرة في القدس الشريف. كأحد المشرفين على 
ترميم القبة عام ؟95/اه- ۱۳۸۹م خلال الحقبة المملوكية» ومن المعلوم 
أن هذه القبة بنيت عام /اه-557م على عهد الخليفة الأموي عبد 
الملك بن مروان. وتعد من أهم العام المعمارية الإسلامية التي ورد اسم 
معمارها رجاء بن حياة الكندي» ويحسبها البعض أا أول نجاح وإثبات 
جدارة حدثت في "العمارة الإسلامية" ثم تبع ذلك الترميم إضافات جالية 
وردت في عام ٠١۳۸‏ إبان حكم السلطان العثماني سليمان القانون 


۷ 


عندما أضاف القاشاني الأزرق المصنوع في (أزنيق) لتغشية جدر المعلم 
الخارجية والخارجية على خلاف ما كان عليه من اقتصار الرخام بتلك 
الصفة التزويقية, فأفقدها أصلها الأول الذي كان نقطة تحول بين العمارة 
الشامية الموروثة ومواءمتها مع التوجه الإسلامي القادم» وهي مرحلة مهمة 
في قراءة جذور التراث المعماري الإسلامي. 


ولا ضير في الأخذ بتجارب الشعوب في ذلك المضمارء والقدوة التي 
يمكن تعلمهاء ولا سيما أن جل إرث الدنيا المعماري يقع في أقطار العالم 
الإسلامي فها هي مدينة الزهراء ومدائن الأندلس العربية وقصورها 
وقلاعها الدارسة؛ وني المغرب مدن وليلي وسجلماسة والمنصورة وبطيوه 
وقلعة بني حماد في الجزائرء والملعب المدور في مدينة الجم وأقواس النصر 
القرطاجية في تونس وليبيا والكوفة والبصرة التاريخيتين وسامراء وواسط في 
العراق ومدائن اليمن وهيرات وبلخ ومرو في آسيا الوسطى» وكذلك الحال 
في مدائن إيران الإسلامية التي درست أو ترنحت بعد الإهمال التي عانت 
منه إبان الحكم الغجري في القرون المتأخرة» وكذلك إبان حكم شاهات 
إيران في القرن العشرين حيث اهتموا بالآثار الفارسية العتيقة مغل أطلال 
برسيبوليس على حساب الآثار الإسلامية. وفي الحند أهمل الكثير من 
المواقع الإسلامية ومنها مدينة (فتح بور سكري) التي بناها السلطان 
المغولي أكبر عام ل/اه 8 ١م.‏ 


وبمكن الاقتداء اليوم با قامت به بعض الشعوب ومنها ما فعله 
البولنديون عندما أعادوا للمدينة القديمة للعاصمة (فارشوفيا) المدعوة 


A 


(ستارا مياستا) رونقها الأول» بعد أن قصفتها النازية في الحرب الثانية. 
ونجد مدينة ستوكهولم التي استطاعت أن تحتفظ بالمدينة القديمة (كاملا 
ستان) الواقعة في جزيرة في وسط المدينة» لتعيد ها الحياة وتوظف تباعاء 
بحيث تشهد الحياة فيها نشاطا سياحيا وإداريا وتجاريا وحتى سكانياء ولم 
تترك كأنصاب خاوية تذكر بالماضي فقط بقدر ما أصبحت جزءًا من 


ويمكن أن يكون ذلك مبرراً كافيا لتدشيط الدراسات الحفرية 
والمعمارية» وإعداد فروع للترميم المعماري في كليات العمارة في العالم 
الإسلامي؛ إذ نجد عدم خلو أي كلية منها في جامعات الغرب بالرغم من 
فقرها بالآثار مقارنة بالعالم الإسلامي. ناهيك في ذلك عن خلو دول العام 
الإسلامي لمتاحف للعمارة تضم شروحا وتماذج للتطور المعماري في البلدء 
ومعالمه المعمارية» وتذكر بمعمارييه ومعلمي الحرفة لديه. 


الخاقة 


۲ الارتقاء بالمكان التراثي في الزمان الحداثي 


نطلع يومياً على أخبار آلة الحداثة التي سحقت الإنسان واستهانت 
بمشاعره في غالبية مدن العالم» وقد كثرت اموم وعممت القنوط وأشاعت 
الجريعة» كنتاج منطقي لعمارة وعمران أرادها الإنسان أن تكون حلاً لحاله 
فعادت وبالاً عليه. وعلى العموم فإن الطفرة الكبيرة للمجتمعات البشرية 
في القرن العشرين أظهرت عيوبا سابقة تعلق بفلسفة وجود الإنسان 
واجتماعه في مكان, يستأنس له لكنه يظهر عيوبه, والأهم أن ظاهرة شغل 
المكان اليوم تظهر عجز الجتمع في حل إشكالاته. ولا سيما بالإيثار 
والتكافل لأجل غايات درء الفقر والفناء الذي أصبح يغرز براثنه في أديم 
الأرض. 

وخلال القرن العشرين حاول لفيف من العماريين تقد نماذج 
تخطيطية ومعمارية ترتقي بمستوى الحياة اليومية للفقراءء ومع ذلك ظلت 
هذه الظاهرة تتزايد بل وتتوحش داخل التجمعات الكبيرة وحتى الصغيرة 
لأنها لم تقدم بالمقابل برامج اقتصادية تجعل من العمارة مواءمة للحياة. لقد 
كانت وما زالت تجمعات الفقراء في العواصم الكبرى مثار جدل بين 
المهتمين بظاهرة المكان العمراني بشكل عام» فكم من مسابقة معمارية 
وبحثية أجريت للارتقاء بالبيئة العمرانية التي يعيش فيها الفقراءء ومع ذلك 
ظل الفقر ظاهرة عمرانية تعيشها أغلب التجمعات السكانية الكبرى. 


{O 


وفي العالم العربي نتذكر مثلاً المصري حسن فتحي وكتابه "عمارة 
الفقراء" الذي حاول تقديم نموذج للعمارة حينما تتعامل مع الخامات 
الميسرة للريف المصري, ومع ذلك لم يكتب لهذه التجربة النجاح» ليس 
لأن الفكرة غير صالحة من الناحية المعمارية» بل لأن ظاهرة الفقر أعقد من 
مجرد بناء مساكن ومجمعات سكنية للفقراء أنما ظاهرة اجتماعية - ثقافية 
ها ارتباطات بتكوين امجتمع تاريخياً وبأنفاط الإنتاج وتراكم الثروة(') 
وكذلك السياسات الاقتصادية للمجتمعات» فلا بمكن أن نتصور وجود 
أغنياء في مجتمع إلا جمع غفير من الفقراءء فثمة مقادير للرزق زادت في 
كفة وأثقلتها. وشحت في الكفة الأخرى وخففتها. 


إن جزءًا كبيرا من مدننا العربية فقدت خصوصيتها المتزنة» والتي 
تكرست تراكميا خلال مئات السنين» وإن الصيحات المتأخرة الداعية إلى 
استنهاض حالة عربية إسلامية لمدينة وسكن مكان» تستقطب الإعجاب 
من رعيل لا بأس بعدده من نخب المعماريين ثمن أصاب بعضهم أو خاب» 
وأخص بالذكر حسن فتحي وغد صالح مكية ورفعت الجادرجي وعبد 
الواحد الوكيل وجعفر طوقان وراسم بدران وإبراهيم عبد الباقي وسعيد 
الصقلاوي ومشاري النعيم وصاخ الحذلول وغيرهم» وهم ينتمون إلى عدة 
دول عربية» وينحون مذاهب دون أن يجمعهم مؤتمر أو تجمع شامل يمكن 
أن يضع دستورا عمرانيا وسطيا أو لجنة حكماء لتسيير الأمكنة العمرانية. 
ويسعى إلى توحيد المنطلقات ومنها الموائمة مع البيئات السماوية والأرضية 


' د. مشاري النعيم - مقال: الفقر ظاهرة مدينية - جريدة الرياض - الرياض. 
٤٥١‏ 


والاجتماعية» وتقريب المفاهيم التواصلية والتثاقفية مغل المصطلح العمراني 
والمعماري العربي» وتوسيع النشر والتأليف العمراني والمعماري. وتكريس 
مبدأ (العمارة للجميع) بعيداً عن تخصيصها للنخب التي تدحو نحو الترفع 
في برج عاجي حد التقوقع. 


وعلى الرغم من الحاولات الجادة التي يقوم جا هذا الرهط من 
الاجتهاد والإسهام بشكل إيجابي في بيئة المكان المعماري والعمراني, إلا أن 
هذه المحاولات لم تضف الكثير وربما ساهمت في إبراز ذاتية هذا الرهط من 
المعماريين "وربما نرجسيتهم" أكثر من إظهار تيارات معمارية تتبنى حلولا 
راسخة وعاقلة تعكس حال الثقافة والمنقف على العموم» ولا تزال تلك 
الحقبة قلقةء وتثير سجالا بين التراث والحداثة وأفضلية كل منهاء والأهم 
فجوة الفهم والخشية من كل منها. 


كتبنا عن سيرة وفكر ومنجز المعمار العراقي خد صالح مكية 
)5١١85-918914(‏ وعاش في لندن مغترباً حتى وفاته, مبتئسا يشكو 
ويتأسى على خيبات وانكسارات» وعلى ما آلت إليه أحوال العالمين العرى 
والإسلامي» والضياع المكاني, ولا سيما مدينته بغداد كما أرادها "في 
خاطره" كل ذلك يؤكد حقيقة لا مناص منها بأننا في حالة إدبار وانخدار, 
وإذا كان قرن عاشه الرجل لم تكف أن بحقق ما سعى له. فهذا يعني أننا 
متوقفين عن الركب؛ فقد حاولنا خلال القرن الأخير وم نفلح, ولا تغرنا 
مات الرفاهية التي تحيطناء وهي تورد لنا من الغرب والشرق» با يؤكد أننا 
لم نقدم الكثيرء بحساب الزمن والفرص وسلاسة أنساق الاتصال والتواصل 


to 


والاقتباس والتغاقف والقرب المكان من الغرب الجامح؛ لذا وبحوصلة عامة 
نذهب إلى أننا لم نستثمر قرنا مضى كما ينبغي, ليكون لنا درسا في قرن 
قادم, وتبدو بداياته متلكئة, وآفاقه ملبدة» ومعطياته بليدة متكئة على 


سابقامًا. 


ينطلق سجال الثقافة مع العمارة من واقع أن العمارة تعد وعاء 
المجتمع الذي يعكس مجموع القيم التي تضبط سلوك الأفراد وانشغالاقم 
المشتركة التي تشكل صلب إشغال وصخب المكان. وبالتالي فإن غياب 
التوافق بين هذا الوعاء ومطالب المجتمع سيؤدي حتما إلى التصادم بين 
الطرفين نظراً لعدم إمكانه استيعاب أنشطة ذلك المجتمع وأسلوب حياة 
أفراده. ويكون هذا ذا طبيعة صامتة, يتجسد في شكل إفرازات سلبية 
تظهر في المباني أو في سلوك الأفراد داخل مساكنهم وهو ما يحتاج إلى 
دراسة اجتماعية متفردة لعلاقة الحلول المعمارية للمكان مع النفس البشرية 
عموما ومع الذاتوية الثقافية. 


ولعلَ إقَامة الحواجز والأسيجة والستائر والتغشيات المخبئة لحقائق 
مختلف مواد البناء على الشرفات والسطوح بغية حفظ خصوصية المساكن 
في مدنناء ظاهرة تغنينا عن التعليق» حت وجدت في بغداد أن أحدهم 
أسدل (جادور) أو خيمة كبيرة على واجهة منزله» كي لا يرى منها شئ»› 
عا يعكس الحس الاجتماعي المغالي في اعتبار الجمال حتى المعماري والفني, 
عورة أو فتنة أو موقع حسد وتفريغ ضغائن اجتماعية. وإذا كانت عودة 
"الوعي الإسلامي" تتجلّى في تزايد المطالبة بالعمران الإسلامي والاجتهاد 


tor 


في تعديل بعض القوانين في بعض البلدان, فإن ذلك لا يعني أن مسألة 
التكشف والاطلاع قد تم حسمها بل إن ما تشهده حالياً العمارة في المدن 
الإسلامية لا يعدو أن يكون تقليداً ساذجاً أو إبداعاً زائفاً واردا من عمائر 
الغرب أكثر نما هو سياق تواصلي مع عمارة مدننا التي كانت إسلامية 
ديانات وفلسفات مفعمة بالروح ومكرسة للقيم» حت عند الذين ووا 
"بالجاهلية" حيث أن تلك التراكمات ركاها الإسلام وسخرها وسهلها 
وأكمل نواقصهاء وأشاع تداوهاء وما الخطأ الذي نلتقيه كل مرة إلا في 


الإنسان نفسه. 


إن بناء العمران لا ينفصل عن بناء الإنسان في ظل سمو القيم» 
فالمدينة ليست شوارع ومبان وخامات مصمتة وحجارة وملاط وعناصر 
زخرفية» لكنها كيان عضوي يحركه الإنسان من خلال أدوات البناء 
والتعمير» وإن أردنا أن يكون للإسلام دور فيها فليكن موجهاً لممارسات 
الأخلاق والمعاملة الحسنة, وغم لعملية التنمية العمرانية. ويمكن حينئذ أن 
يقف المنظور الإسلامي لتنظيم العمران الند للند في مواجهة النظريات 
المعمارية الواردة زرافات من الغرب» والتي عجزنا عن صدها لإغوائها 
وشيوعها بين سواد طبقات الوعي أو تدشيط حركة نقدية حيالهاء من أجل 
خلق تارات وفرز رموز تنتج المعاكس ها. 


وإذ نقدر المنتج العمراني الغربي كونه من أمهات تراثهم الأخلاقي 
والعلمي» المتمخض عن إنجازهم الفكري الفلسفي والتقني. هذا الإنجاز 


to 


الذي يقف دائماً المعمار العربي أو الإسلامي أمامه منبهراً به حد الشعور 
بالدونية» ولا يستطيع أن يقدم البديل النابع من واقعه وتراثه الذاتي, 
والبديل هنا يخص المفكرين والأدباء والعلماء والمثقفين والفنانين وكل 
النخب الفاعلة والحركة للمجتمع والمعبرة عن وجدانه ومن ضمنهم 
المعماريين كمأتهنين على الأخذ والعطاء من الجتمع. وني لجة البحث عن 
حلول لا بد من الإقرار ببعض الحقائق وتثبيت بعض الطالب» نجملها: 


* كان الموروث المعماري في بعض العصور الإسلامية معبراً عن الارتباط 
العضوي بين الإنسان والعمران, الأمْر الذي ظهر في حركة النمو 
العضوي للمدن وفي التجانس الضمني والشكلي للعمارة والفنون 
التي انعكست على النفوس المتصالحة مع ذاتا. 


* إن التقدم العلمي الذي أفرزه الغرب في فترة الضعف التي مر جا العام 
العربي والإسلامي خلال القرون المتأخرة بسبب التهافت السلطاني» 
وأعقبته الحقبة الاستعمارية» أضعف القدرة على تقد النظير له 
حتى أصبحت المراجع الغربية هي الموجه للفكر المعماري في الثقافة 
العربية. 


* اختلاط النظريات المادية امجردة الواردة من الغرب التي لا أثر للدين 
فيها بمضامين العمارة أثار الكثير من التناقضات الفكرية في حداثتناء 
باعتبار أن ثمة جانب روحي خفي في العمارة واكب منتج كل 
العصور حت القبل إسلامية» وتماهى وانسجم مع المنظور الإسلامي 


للنظرية المعمارية. وهنا نقر بأن مجتمعاتنا ستمكث روحانية التوجه, 


رغم ما نسمعه هنا وهناك عن ضرورة إزالته» وهو غمز مبطن وخلع 
ما بميزنا ويشعرنا بأننا منتجون في المكان بما يتماهى مع معطياته. 


0 أصبح الغرب مبادراً يقدم النظريات ال معمارية المتلاحقة ويغزو جا 
الفكر المعماري في الثقافة العربية في الوقت الذي لم يقدم فيه 
المعمار العربي النظرية البديلة فأصبح تابعاً ومتلقياً ومستهلكاً. 


* يجب تأكيد المرجعية الأخلاقية التي استمرت في السياقات الفكرية 
الإسلامية وإحيائها في العمران المعاصر والتباري مع المساهمة العامية 
الحداثية في العمران على قدم المساواة من خلال إحياء نفحات 
الفكر الحضاري التراثي» وإظهاره با يليق به دون مزايدة أو تعصب 


او افتراء او ازدراء. 


* لا بد من البحث عن الذات الثقافية كبديل للتبعية الفكرية في العمارة 
والعمران» ومواجهة الغزو الثقافي الغربي بإعادة الاعتبار لثوابت 
الثقافات الحلية بوعي» مع السماح بالوسائل والمتغيرات من أن 
تأخذ مجراها في الحداثة. 


* إطلاق الحرية في التعبير والإبداع في إطار القيم الإنسانية وتجسيدها في 
المنجز المعماري الحداثي, بعد تكريسها في النظم التربوية والتعليمية. 


* إعادة اكتشاف التراث النقاني والعلمي الحلي وتوظيفه في النظرية 
المعمارية المعاصرة, والتأكيد على أن العمارة في الإسلام هي منتج 
اجتماعي أكثر منه إنجازا فردياء وأن الحلول لا يمكن أن تكون من 
لدن سلطان متفرد أو لفيف متسلطء وإنما منتج يشارك به الكل. 


نة تراتبية لتحسين الأداء الحياق, عادة ما تبدأ بالفكر وتنتهي عند 
أعتابه في مشوار بين الفلسفة كبداية والتطبيق كتجسيد وغاية. وحري بنا 
أن نطرق رأيا أورده المفكر الجزائري مالك بن نبي حينما ذكر بأن (مشكلة 
كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية ولا يمكن لشعب أن يفهم أو 
يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في 
فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تحدمها) ويرى أن للحضارة ركنين: 
خلقياً مادياً؛ فلقيام أي حضارة لا بد من توفر مجموع الشروط الأخلاقية 
والمادية التي تتيح جتمع معين أن يقسم لكل فرد في كل طور وجوده منذ 
الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من 
أطوار غموه. 


ويرى مالك بن نبي أنه لكي تقوم أي نضة فلا بد من تحليل عوامل 
قيامهاء وقد أجمل عوامل قيام أي حضارة في معادلة : 


الإنسان + التراب (المكان) + الوقت + الفكرة الحفزة أو الدين = 
الحضارة 


فالإنسان والمكان والزمان هم نصاب كل تغيير نحو أرجوحة الأسوأ 
والأحسن» ويشكل ذلك النصاب العنصر الحاسم في معادلة الحضارةء 
حيث بقدر النجاح في صناعة البشر في مجتمع ما تكون نمضته. أما الدين 
فيمثل الفكرة المحفزة أو المنسق في تلاقح العناصر الثلاثة وضمان تصاعدها 
العضوي. وني أي مجتمع من المجتمعات إذا وجد الإنسان ووجد المكان 
(وموارده) ووجد الوقت المستثمر» فإن الفكرة المبهرة هي التي تجعل 
الإنسان يشتعل حيوية ليستفيد من العطيات» فالدين يلعب دور الباعث 
للحركة ومركب للعناصر الحضارية وبدونه لا يكون أي نتاج حضاري. ثم 
يقدم لنا مالك بن نبي معادلة تقول: إن كل من يفكر في النهضة عليه أن 
ينظر إليها من خلال ثلاثة عوالم: 
ه عام الأفكار (مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ 
والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما) 
ه عام الأشخاص (مجموعة العلاقات والنظم والاتصالات والقوانين 
التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون هذا المجتمع فيما بينهم) 
٠‏ عام الأشياء (كل ما ينتجه هذا المجتمع من مبان وشوارع وزراعة 


وصناعة وغير ذلك من المنتجات والخدمات المحسوسة 
م١‏ 
والملموسة)( ). 


' مالك بن نبي . تأملات. دار الفكرء دمشق . سوریاء ٩۱۹۸م 4٠8‏ ١ه‏ 
مه 


ويرى مالك بن نی بأننا قد أدمنا العجز» وحجتنا أن التحدي 
هو أننا في الغالب تول من حجم ومقياس الهدف» ثم نعتذر عن تقاعسنا 
لضخامته. والأجدر بنا أن نحدد الأهداف قريبة المنال» ثم نصعد منها إلى 
ما بعدهاء ولكننا رضينا بمذه اللعبة الخبيثة» حتى ضحكنا ها فلا بد من 
التدرج من رسم الأهداف المراد تحقيقها ونسدد ونقارب» مع التدرج في 
خطوات قيق هذه الأهداف دون حرق للأشواط, وهذا تأسيسا ا 
يسمى بسياسة النفس الطويلء, فالحراك المرتجى لا بد أن يعى جيدا أن 
أهدافه كثيرة وطريقه شاق وطويل كما قال النبي(ص): "إن المنبت لا أرضا 
قطع ولا ظهرا أبقى". أو اقتداءً بمقولة الإمام علي بن أي طالب» بأن 
طريق البناء هو طريق الحق كلف وشاق ويجب أن لا نستوحشه» لقلة 
سالكيه. 


ودون مثالية نقول بإن الإنسان هو العنصر المفترض أن يكون غالبا في 
تلك المعادلة» لكنه غائب عندناء وذلك في لحة النظرية المعمارية الغربية 
التي تعتمد على الفردانية منذ ما دعوه (حقبة الأنوار) حتى لو تبدى لنا أن 
أنظمتهم الاجتماعية جماعية» وهذا في حقيقته يعكس صورة أدائهم 
الوظيفي» لكن اجتماعهم فرداني محض» ناهيك في كل ذلك عن إطناكم 
بحسابات الربح والخسارة والخطوط البيانية للاقتصاد. حتى نستغرب 
تحفيزهم لفك أواصر الأسر وتفتيت الشمل العائلي, كونه ببساطة يشكل 
عائقا على الاقتصاد الشاملء وتخسر من خلاله الريع الوارد من دوران 


رأس المال؛ فالعائلة المتعددة الأفراد وتأكل مع بعضها على مائدة وطاولة 
0۹ 


واحدة» تستهلك أقل من أن يتفرد كل عنصر منهم في الاعتماد على ذاته 
في المصرف» وهذا قد حز في خواطرهم» فغايات حركة الاقتصاد الربيحي 
تحاول بذلك أن تبط ثابتا في الطبع البشري الجانح نحو "المعشر" والحياة 
الأسرية. 


ومن المفارقات أن النظام الرامالي رغم "الترقيعات" التي حصلت 
عليه اقتباسا من "ضرته" النظام الاشتراكي, فإتما قد وصلت إلى مثالب 
كثيرة في حل الإشكالات العالقة. حتى أتما تتلذذ وتتشفى بالأزمات 
المتكررة, وكأنما (تجلد ذاتها),» فمن أجل إعادة نشاطها لا يهمها كم من 
الأفواه ستجوع في خضم تلك الأحجية الواهية. والرأسمالية التي تشيع حلا 
للحياة الغربية لا تؤمن بالمشاركة الجماعية والمشاع الاجتماعي كونه يقلل 
دوران رأس الالء وهذا ما جعل النظام "المقاولاق" يشيع على حساب 
"التعاون" الجماعي في العمران والعمارة» رغم أن الأخير منسجم مع 
الذات الثقافية لناء وله مردود إنسان وأخلاقي وعاطفي. 


وبمكن في هذا السياق استحضار نموذجين للمقارنة الرأسمالية (نموذج 
ما يعرف في فرنسا بالسكن الاقتصادي (1111/1) أو مساكن ذوي الدخل 
المتوسط (المحدود). ونموذج ما يعرف في الولايات المتحدة الأمريكية 
بالمشاريع (5]ع270(6). حيث جاء النموذجان استجابة لحل معضلة 
السكن» ولكن على أساس أن تكون الفئة المستفيدة هي فقراء القوم الذين 
يشكلون هامش الجتمع من الملونين والمهاجرين. وأصبحت هذه البنيات 
نموذجا لمنظومة (الگيتو) الفرزية والمشرذمة لتجمعات البشرء أي المكان 


ا 


الذي نجمع فيه داخل الگيتو مجموعة متجانسة فيما بينها عرقيا أو ثقافياء 
ولكنها مختلفة ومغايرة للفئة المهيمنة "خارج الأسوار أو البوابة". بحيث نجد 
تلازما بين التراتبية الاجتماعية والتمايزات الطبقية» والذي أخذ طريقه الى 
التصميم المعماري من خلال تخصيص مساحة محسوبة بتقنين مفرط لكل 
مساحة مكانية» حتى أمست البيوت تشبه علب السردين» والتي أطلق 
عليها الجزائريون بتهكم: علبة الثقاب (قابسه زلاميط). وتجسد هذه 
البنايات عملية إقصاء حقيقي عن المركز وخدماته إلى ال هوامش» وتضيق 
على السكان فسحة المكان» وتمنع الانفتاح عن الأفق. وتدعو إلى خلق 
أعداء للمجتمع من داخله» مستعد أن ينقض على رفاهيته في لحظة 
الانعطافات السياسية أو القلاقل. وهذه المثالب مصدرها جشع الرأسمالية 
حينما تحكمت في إنسانية العمارة. 


ونجد في الأمثلة التي يقدمها الباحثان الأمريكيان واكانت 

(أمدوعج؟؟1)وبورجوا (015ع801118) وأظهرت بعض الأبحاث 
الاجتماعية التي قام به علماء أمريكان عن نتائج تلك الممارسات كيف أن 
اللون والجنس يلعبان» في مجتمع متراتب عنصرياً مغل امجتمع الأميركيء دوراً 
في إقصاء السود وذوي الأصول الأمريكية اللاتينية. كما تم إظهار عدم 
التطابق بين الأحكام الجاهزة هؤلاء القاطنين إما بگيتو الجهة الجنوبية 
لشيكاغو أو بكيتوهات نيويورك كما حي هارليم فهناك من هؤلاء السكان 
من يواجه باستمرار مختلف أشكال العنف» وهناك عائلات تفقد أبناءها 
بسبب الجرائم ولا سيما بسبب المخدرات والعصابات. حتى أن تلك 


العصابات نفسها تقوم بدور العائلة» وبأن هناك أمهات يعشن على الإعانة 
البائسة للدولة, وعائلات عرفت التفكك والا خلال الأسري. 


وهكذا تكون هذه الأحياءء مسرحا لختلف أشكال العنف 
والفواجع, والسبب تهميش الركز ها وإدخاها دوامة الإهمال. وهكذا يتم 
اختزال ملكاتا وتتلبد آفاقهاء بيد أن هؤلاء المهمشين لا يتركون الأمور 
تسير باسترسال وعفوية, بل يعيدون إنتاج المعادلة بصيغة أخرى» وذلك 
من خلال مارسة العنف على أنفسهم والآخرين. وبسبب تلك الدورة تنتج 
آليات وروابط جديدة بعيدة عن الحالة السوية للمجتمع وسمات اليوتوبيا. 
حتى لنجد أن العنف يكاد يكون هنا مشروعاً ومفهوماً ومستساغاً. أما 
معماريا فنلتقي هنا مبان مهجورة متهالكة, وواجهات مكفهرة, وأزقة مغلقة 
بحواجر» ملئها القمامة» وساحات مهجورة تمتلئع بالكلاب السائبة 
والجرذان» بحيث لا بمكن هذه الأمكنة إلا أن تشجع وتحفز على ممارسة 
العنف» لتجعل منه أليفا وعادياًء وهو قدر الناس ولا مناص من قبوله. 


ولا يعني أن الأمر أفضل في النظم الإاتراكية والشيوعية» بعدما خطت 
ها توجه متطرف من الجانب الآخر, إذ أتذكر خلال دراستي في رومانيا أن 
طاغيتها نيقولاي جاوشيسكو (حكم »)۱۹۸۹-۱۹٦۰‏ كان قد فرض 
على المصممين المعماريين أن تكون المطابخ والحمامات والمراحيض جاعية 
في الطابق الأرضي في العمارة السكنية متعددة الطوابق, من أجل الاقتصاد 
بالمصاريف» وتطبيق المشاعية الملغية للذاتوية بصفاقة. أو أنه أزال ميراث 
القرون العمراتي لينشئ فوق تلة (راهوفا) قصره المنيف الذي دعاه (انتصار 


11 


الاشتراكية 50012115122101101 1716]0113). وتنعكس كل تلك الشطحات 
غير الحسوبة التداعيات على العَمارة التي تعد لديهم "في النظامين" منتجا 
فرديا تتقبله الجماعة صاغرة من خلال سياسة عقارية ملتوية. دون أن 
يكون للجماعة رأي أو دور إلا بقشور إجرائية. وبالنتيجة جعلت من 
الإنسان يكد من أجلهم» ورقيق مقاد لحم, لا أمل له ولا توجه إلا ليحقق 
توجهاتهم التي أثبتت نبوءة الإنكليزي (جورج أورويل) في روايته )١945(‏ 
بأن الاشتراكية غبية حينما صادرت ثراء الإنسان المادي فقطء بينما 
الرأمالية سوف لن تكتف بتلك "القشور"» بل ستصادر الإنسان نفسه. 
وتجعله عبداً مسيراً. من خلال القروض والفوائد والنظام الضريي» وهذا ما 
حصل فعلاً!. 


ثمة جدلية لم يتفق فيها بشأن مفهوم العمارة» هل هي إسلامية أم 
عمارة مسلمين» فإن كانت الأولى فلا بد لها أن تقتدي بمثالية قيمية 
صارمة. وإذا ارتضينا الثانية فحينها لا لزوم للتشدق بالشطحات التي 
تحصل في المنجز المعماري» مثلما نجد مسجدا في الشارقة أو أبو ظبي أو 
الرياض أو جدة أو الدار البيضاء أو بغداد أو صنعاء توحي زخرفته وحلته 
البذخية بأنه قصر سلطان» أكثر من كونه مكانا للسكينة والتأمل والخلوة 
الروحانية» وكونه مكانا للتواصل الاجتماعي أكثر من أن يكون للخيلاء 
والتطبيل لفلان أو علان ممن كسب الدنيا ويروم كسب التاريخ ويضن 
"الآخرة", حتى لو كثر ماله فإن المال لله وواجب ادخاره» وعباده أولى به 
من ترويج أو دعاية لفرد أو جماعة. وحري ذكر ما أورده كاتب ياباني 


يدعى نوبواكي نوتوهاراء وأصدر عام 7١١7‏ كتابا عنوانه: (العرب من 
1T‏ 


وجهة نظر يابانية) يجمع تجربته عن العرب منذ العام ١41/4‏ قال فيه بأن 
الجتمعات العربية هي الأكثر تديناًء لكنها بالتوازي الأكثر فساداً. وهذا 
يعني أن تلك البؤر المعمارية لم تنجح في تحسين الأداء الروحي للمجتمع» 
بل جعلته يتسابق على تقليد هيئة المسجد الباذخ في بيته من باب القدوة 
والتهافت» وهذا يتطلب موارد استثنائية لا يقدر عليها الفرد في مكسب 
طبيعي شريف» فيضطر من أجل تحقيقها الى الفساد المالي والإداري» وهذا 
يعني أن المسجد أمسى بالنتيجة مصدر إفساد وليس بؤرة للتقوى التي 
تكرس وتحفز النزعة للزهد والتواضع وإدراك بساطة الجمال المعماري 


والنقاء في اجتمع. 


تبقى إحدى فضائل المكان المديني الحافظة للتغيرات الحضارية 
والضابطة ها. وفضيلة كهذه تحولت لأن تكون إشكالية نعاني منها مدننا 
اليوم التي تطل على القرن الحادي والعشرين دون أفق. مدن لم تنجح في 
تحقيق فعل التوافق في مظهرها الحضاري والمديني. هكذا هي الآن 
مستنسخة من بعضها ومتشابجحة في مشاكلها. اكتظاظهاء أزمتها 
الاجتماعية» نموها العشوائي, الحجرة غير المنتظمة إليهاء تبعثر مجموعاتًا 
العمرانية» عدم كفاءة الخدمات المجتمعية والعامة» وكذلك فشل قوانينها 
التي تنظم الظاهرة الحضرية وتخطيطها العمراني» ومع كل هذا فهي تتفق 
على ضعف كفاءة بلدياقا وجهلهم في إعادة صياغة داعية لخصوصية 
المكان وثقافة المدينة. وهذا ما يعيدنا الى المربع الأول» ويلغي جهد الرعيل 
المتنور الأول في الحداثة, والذي اجتهد بأزمنة متفاوتة بين الجتمعات 
العربية» من أجل وضع حلول واقعية لمعظلات مستفحلة ومتراكمة. 


5 


إن ما تبناه لفيف من المعماريين وبعض المؤسسات بذريعة تحديث 
المكان المديني, وإلحاقه بعصره. يعتمد أساسا على خبرات أجنبية» وهي 
تجهل تاما الخاصية الحضرية القائمة على حاجات ومنظومة قيم روحية 
للمجتمع» وخصوصية المدينة وبنية نمطها الثقافي الراسخ. كل ذلك الوهن 
انعكس على بنية التخطيط الحضري الذي بات ضعيفاً وعاجزاً في احتواء 
التغيرات التي رافقت هذه المدينة اجتماعياً واقتصادياً كما في تحييد عديد 
من المشاكل» والحكم على المصاعب التي ظهرت في هذا الشأن عمرانياء 
نما أدى إلى غياب جدلية الخطاب الحياني بين المنشأ المعماري والكائن. 
وانحلال العلاقة العميقة بينهما التي تحولت بعد ذلك إلى تمايزات أوجدت 
إحساسا مؤكدا بالغرابة والغربة» سيحياها الساكن» فالمكان المديني بات 
تعامله كفرد وليس كائنا ما جعل حياته تفتقد إلى دوافع روحية وذاتية 
خاصة, وأمست المدينة مكانا للهجوع والنوم والخدر والعدوانية» أكثر من 
كونًا (حيا) يسعد الإنسان في جنته ويطمأن لروح العدل فيه. 


إن إصطلاح (مدينة) متأت من مفردة (دي 01 السومريةء الذي 
تحول إلى (دين) الأكدي» ثم لتلحقه ميم الصفة, ليصبح مدين الذي أنث 
بالعربية وأصبح (مدينة) الذي معناه بالأصل "الحق والعدل والقسطاس", 
فأمست مجازاً مكان العدل» وأمسى (الدين) وهو المصدر الضابط والرابط 


وحارسها وقاضيها ومسيرها. 


لقد تحول العمران داخل هذه المدن إلى احتكار همي كما كانت مدن 
القلاع مثل أربيل وكركوك وحلب الآشورية وبغداد المنصورية العباسية 


ا 


المدورة» أو قلعة صلاح الدين في القاهرة أو قصبات المدن مثل مكناس 
وغرناطة وملقه. وتم إبان ذلك استبدال حق الفرد والجماعة بحق مؤسسات 
تخصصية» أخضعت لدوافع سياسية» كثيراً ما اتسمت بعدم واقعيتها 
وطوباويتها. وفشلها في تجاوز التفاوت الزمني بين نمو المدينة وتقدمها 
المادي وبين تطورها الاجتماعي؛ نما ضيق فسحة البادرة للأفراد 
والجماعات, في محاولة تجعل المدينة تراثا اجتماعياً وروحيا. وبعد طمس 
هويتها باستعارة أساليب عمارة» هي ليست هجينة وغريبة فقط بل ذات 
طابع إلزامي وطاغ, لا يحفل إلا في تحديثات ظاهرة حتى وإن تقاطعت مع 
معنى المدينة وتاريخها السابق('). 


إن الباحث في "المدينة الإسلامية" لن يهتدي إلى شكل هندسي أو 
مجسم لما يجب عليه أن تكون المدينة» إلا أن ذلك كان تصوراً غير ملزم. 
فكما أنه لا يوجد إنسان مسلم منضبط بجميع سلوكه بأحكام الإسلام 
فكذلك المدينة الإسلامية» والنتيجة هي تصور عقلي مجرد ومثالي ومرجعي 
لما يحب عليه أن تستجيب له المدينة من متطلبات واعتبارات وأحكام 
شرعية ورؤى. وبمكننا أن نتأكد أن مدينة ما ليست إسلامية لكوتا 
تتصادم مع تلك المتطلبات والاعتبارات والأحكام ("). 


أ سعد القصاب - مقال: بغداد تلميحات عن المدينة بذريعة غرابتها وغربتنا فيها - جريدة المدى 
ه.ه"- بغداد. 


' د. مصطفى بن حموش- بحث المدينة الإسلامية, رؤية من الداخل- منشورات جامعة البحرين 
٦1‏ 


نة هوى حداثي شاع من خلال حمى العناية بالسياحة الذي تعتاش 
عليه دول كما إسبانيا واليونان وتونس وتايلاند» ورعا مصر والأردن ودبي 
كذلك. وهو ما شجع الآخرين لإيجاد نوع من الجذب السياحي الذي 
تحركه حاجات الانتقال من بلد لآخر بغرض التمتع بجمال البيئة أو 
الدد وموج البحر أو المغامرة واكتشاف امجهول أو الاطلاع على 
الحياة الفطرية لبعض الشعوب أو ثقافاتًا أو منجزها العمراني والمعماري» 
أو حتى سياحة روحية كما هو الحج أو زيارة الأضرحة التي تُشْكُل رافدا في 
السياحة الثقافية. فقد شهدت خلال تجربتي في ترميم قبة الإمامين 
العسكريين في سامراء الزيارات المليونية التي تؤوم أضرحة الأئمة والأولياى 
تبركاء ومتعة للانتقال والاكتشاف والاختلاط. والتمتع بجماليات العمارة 


يكمن الحدف الأساس من السياحة هو التجديد الحسي والمعنوي 
للإنسان الذي لا يتحقق إلا بالإحساس بتغير البيئة وغمط الحياة» مع التمة 
بأكبر قدر من الخدمة والنظام. وعلى هذا الأساس تمكن إعادة الحسابات 
الاقتصادية للمشروعات السياحية. فإن تقديم المباني السياحية في الدول 
النامية في صورتًا الحلية المتواضعة والمعبّرة عن الأصالة والتراث هو عامل 
جذب آخر يُضاف إلى جوانب الجذب الطبيعية أو المناخية أو التاريخية. 
ومن هنا ظهرت المنشآت في المراحل الأولى للتنمية السياحية في صور 
متواضعة سواء من ناحية ملكات البناء أو الأثاث أو الوسائل المتاحة, 
وكذلك مستوى الخدمة. فهذا هو المدخل الأمثل للتنمية السياحية في 
الدول النامية اقتصادياً ومعمارياً. 


يحتاج تدعيم السياحة تضافر كل الجهود, حيث أن هناك أهمية إلى 
التعدد والتنوّع, إلا أن السلطات لديها أولويات يجب أن يوجّه لما الاهتمام 
الأساسي مثل حل أزمة الإسكان أو تجديد مجاري المياه والبنية التحتية» أي 
التركيز على أعمال المرافق في المدن نفسهاء وذلك لأن العمل في إطار 
حجم محدد من الموارد يجعلها تحدّد أي المواضع يضطلع بالأولوية» ولكن 
هناك ضرورة ملحة إلى إيجاد مناطق جذب سياحية ومحاور متعددة بدلا من 
عملية التكثيف أو التركيز في منطقة واحدةء فهذا إلى جانب ما سيحققه 
من فائدة في المجال السياحي ويؤدي أيضاً إلى استيعاب عمالة جديدة في 
مجال الخدمات إلى جانب تخفيف الكثافة السكانية عن المدن القائمة. 


إن السياحة وظيفة يشترك فيها كل فرد في المجتمع وكل هيئة من 
المينات, فلا يطلع السائح على الآثار الإسلامية القديمة دون أن يرى معام 
أخرى في المدن مثل تراكم القاذورات أو الاعتداء على الآثار كاستخدام 
بعضها في إيواء من قَدّمت منازهم, أي أن العمل السياحي ليس بذلك 
المفهوم الضيق الذي يركز المسؤولية في يد وزارة أو مؤسسة للسياحة» بل 
أنه بمتد ليشمل مجالات أخرى. فمغلاً من يبني ويوجّه اهتمامه بالطابع 
المعماري على الأقل يسهم في إنجاح العمل السياحي؛ فإذا اتفقنا على هذا 
المفهوم فلنحاول جميعاً أن نُسهم في عملية ترشيد السياحة('). 


١ 


د. هاشم عبود الموسوي - مقال: العمارة والتنمية السياحية - النور - الجمعة» ١65‏ أبريل 
1 
۸ 





إن السياحة المستديمة صناعة تحقق الحاجة الوظيفية للسائح دون 
إلحاق ضرر بالموقع المراد استثماره. وشكلت العمارة والفنون البعد المادي 
والثقافي للسياحة فجميع النشاطات السياحية تقام في مدشآت معمارية 
كما أن كثيرا منها تحولت إلى معام مهمة. ونجد حاجة اليوم لتدشيط الوعي 
بأهمية التراث الروحي والمعماري والفني الذي تضمه مدن التراث التي يتربع 
الشرق القديم على حصة الأسد فيها. 


والسعي والتخطيط هذا المنحى تنظيميا يتعلق بمقدرة المدينة على 
التزحيب بضيوفها بنفس القدر الذي تتعامل فيه مع سكانها؛ فليس من 
المعقول أن نفكر في السياحة على أنما خدمات وننسى البعد الإنساني 
الذي هو مفتاح النجاح هذه الصناعة. والاستثمار في مجال السياحة, 
ليكون هدفه الأساسي دراسة التركيبة الجتمعية والثقافية للبيئات الحلية 
ورصد كل التحولات التي تطرأ عليها. 


إن تطوير السياحة في البلدان العربية والإسلامية أكبر من مجرد 
مقترحات ولا بمكن أن يكون عمل مؤسسة واحدة» بل هو فعل شامل 
تعليمي وإداريء ولنضرب مثل مدينة إسطنبول» فقد كانت منطقة "تقسيم" 
في وسط إسطنبول من أخطر المناطق وأكثرها قذارة» وذلك حينما زرتا 
أول مرة قبل ٤ ٠‏ عام» أما اليوم فقد تحولت المنطقة إلى أهم مناطق الجذب 
السياحي في المدينة (رغم مكوث مواخير الدعارة فيها وسكوت السلطات 
عنهاء رغم إسلاموية التوجه السلطوي)» وحتى إن الأزقة الداخلية التي 
كانت تعد شبه ممنوعة على السياح لخطورقاء تحولت إلى مناطق مفتوحة 


۹ 


للجميع وأصبح المشي في "تقسيم" متعة للجميع ويندر أن تحدث مشاجرة 
في الشارع» بالإضافة إلى أنما أصبحت منطقة نظيفة, ويقطعها (الترامواي) 
بحس خدمي وظيفي وترفيهي حضاري. ولا بد من الإقرار أن التحول هنا 
كان في الوعي المجتمعي, وما قامت به بلدية إسطنبول كان منصباً على بناء 
ثقافة جديدة في المنطقة لا رصف الشوارع وإنارتها فقط. فقد كانت المنطقة 
مخدومة بشكل جيد منذ فترة طويلة لكنها لم تكن جذابة "إنسانياً" ومع 
ذلك ل تتغير التركيبة الاجتماعية في المنطقة, أي أن من كان يسكنها قبل 
سنوات مازال يسكنهاء وأنا هنا لا أقلل من أهمية الخدمات التي عادة ما 
تنمو نتيجة للحاجة الطبيعية للمكان فكلما كانت المنطقة جاذبة كلما كان 


الاستغمار في خدماتها مجديا('). 


كل ذلك يوحي لنا مناقشة قضايا الحداثة في المدن التراثية, عا يصب 
في صال الحافظة على تلك الكنوز المهملة» ويمكن أن تقوم بمذه المهمة 
وتشارك يما النخب الواعية ومنظمات المجتمع المدني والسلطات أو حتى 
منظمات إقليمية وعالمية أكبر مغل منظمة المدن العربية التي تأسست في 
الكويت سنة ۱۹٦۷‏ ولم تقدم حت اليوم أي خدمة بمذا المنحى. ونعول 
على إنشاء معاهد متخصصة بمذا الشان مثل معهد إغاء المدن في الرياض» 
فضلاً عن إجراء البحوث والاستشارات وتوثيق التراث. ونمة حاجة لإنشاء 
معاهد للحرفيين بمهن العَمارة والفنون لا لما من أهمية في الترويج والربح 
والعمل» وهو يتداعى إلى الحافظة على الأوابد والمعالم التاريخية من خلال 


أ د.مشاري النعيم - مقال السياحة وأنسنة المدينة - جريدة الرياض - الرياض. 
36 


ترميمها بوعي وخبرة؛ فقد ناقشت شخصيا الأمر مع من طلب مني ترميم 
حي أو مبنى باني لا أحتاج إلى بناءين أجلبهم من أماكن تجمعهم المعهودة, 
والذين فقدوا الذاكرة البنائية للمكان» بل أحتاج إلى عارفين بذاتيته 
وخصوصيته والسبب في كل حيثية بنائية» وهذا يأتي من التثاقف والدرس 
دون شك.» فلا مناص من إنشاء مدارس (ثانوية) لكل حرفة تراثية. ضمن 
مسعانا للتدمية البشرية» وتجسيد مدن المعرفة التي تبقى الحل الأمثل 
لمعضلتنا في الارتقاء بالنوع وليس بالكم. فإن تخرج الطالب من الثانوية ولم 
يرغب بدخول الجامعة» فله صنعة يعتاش منهاء وهذا تصاعد في دور الفرد 
من أجل الجماعة. 


وثمة محفزات لتطوير الأمكنة مثل جائزة منظمة المدن العربية التي 
مقرها الدوحة بدولة قطرء فهي تنح ثلاث جوائز رئيسية للمشروع 
المعماري, وللتراث المعماري, وللمهندس المعماري. وهناك دور مناط 
بعنظمة العواصم والمدن الإسلامية» التي تلعب دوراً ممائلاً ومتكاملاً مع 
منظمة المدن العربية» وكانت قد أسست سنة ۱۹۷۹ ومقرها مدينة مكة 
المكرمة» وأبرز إنجازاتها مشروع موسوعة العمارة الإسلامية التي صدر جزء 
منها عن عمارة القاهرةء ومازال ينتظرها الكثير لإنجاز ما تحتاجه المدن من 
توثيق وتثقيف بثراء التراث» الذي يعاني من إهمال الجهال ومآرب الأعداء 
الذين لا يعجبهم بقاء الشاهد المادي على وجودنا في المكان. وانشغال 
السلطات بواهي الأمور. 


۷1 


إن تلك المبادرات تحمل أهمية بالنسبة لبلدان كثيرةء ولكن أهميتها 
تنعكس في السياسات الحضرية وتلعب دوراً مهما في توسيع نطاق 
الإيرادات احلية من خلال جذب الشركات الصغيرة. العديد من المدن في 
منطقة الشرق الأوسط وشال إفريقيا تشتمل على النوى الترائية التي تمثل 
بؤرا تارعخنية» بيد أن مدا هي من بين أفقر المستوطنات الحضرية, وإعادة 
التأهيل لها يجب أن يتضمن إجراءات محددة لتحسين الظروف السكنية 
والخدمية لقاطنيها. وحصولحم على الرعاية الاجتماعية. وهذه الخطط 
الاستراتيجية المتهاجنة مع خطط التنمية الاقتصادية الشاملة تصب 
بالنتيجة في صالح امجتمع وتكرس الاعتداد بالذات الثقافية» ولا تلغي 
الحويات الوطنية كما يعتقد ويخشى البعض منهاء كما في الجزائر وليبياء 
والأهم أنه يحمل في طياته فرص التنمية الاجتماعية. 


أظهر التقرير السنوي الذي نشرته مجلة الإيكونوميست عام 5.011١‏ 
أن مدن المسلمين ليس لما مكان في قائمة تتكون من ١ 4.١‏ بمقياس من ١‏ 
إلى ٠٠١‏ وأن هذا التقييم اعتمد على ما تقدمه تلك المدن من ظروف 
العيش الناسب» وتقييم التطور فيها... إلخ. وظهر أن مدينة فانكوفر 
الكندية أفضل مدن العام في العيش الحانئ» واحتلت المركز الأول في قائمة 
المدن الأكثر ملاءمة للسكن في العالم في مس سنوات متتالية» وجاءت 
ملبورن في أستراليا في المركز الثاي. وأوضح التقرير أنه بعد التقييم الشامل 
لثلاثين عنصراء من بينها الاستقرار الاجتماعي والصحة والثقافة والبيئة 
والتعليم والمنشآت الأساسية» أحرزت فانكوفر ۹۸ نقطة وهي نفس 
النتيجة في السنة الماضية وبقيت محافظة على المركز الأول منذ عام 


AAI 


۲٠۷‏ . وحلت في آخر التصنيف كل من المدن التالية داكار وطهران 
ودوالا وكراتشي والجزائر بينما حلت في ذيل القائمة كل من لاغوس وداكا 
وكلها مدن محسوبة على العالم الإسلامي, ولا أعلم أين موقع الإسلام من 
كل ذلك. 


نة خطة تبناها البنك الدولي منذ بداية الثمانينات» تجسدت في 
عمليات إقراض بغرض إعادة تأهيل المدن القديمة. وستكون هناك حاجة 
لسياسات كفوءة بمذا المنحى وتعزيز الإطار المؤسساتي وتوفير المستوى 
المناسب من الإدارة الحضرية فيها. وينبغي خلال ذلك التوجه تحديد 
الأحياء القديمة والمعالم الرئيسية وال مباني المهمة ومكونات التراث الثقافي 
وضمان الحماية القانونية ها كتوجه مركزي. 


وبعد استعراض العوامل الأساسية المختلفة والتى أثرت فى تطور 
العمارة والنسيج الحضرى للمكان» سواء كانت عوامل سياسية أو 
اجتماعية أو ثقافية أو بيئية» وذلك عبر تاريخ الحضارات والمجتمعات 
المتعاقبة فى المنطقة, وإظهار الجوانب الإنسانية والقيم الأصيلةء والق 
تتناسب مع البيئة والعادات والتقاليد للمجتمعات العربية والإسلامية. هذا 
من جانب ومن جانب آخر بتحليل لواقع وحاضر العمارة التى نعيشها 
اليوم والأزمة التق تمر بجا وتصور لمستقبلها بشكل عام, وكذلك بالتفكير 
في كيفية ربط تلك القيم التراثية الأصيلة فى العمارة الحلية القديمة بواقع 
العمارة الجديدء والذي نياه اليوم بكل تعقيداته الاجتماعية والاقتصادية, 
ولا يمكن أن تكون الحلول من خلال استيراد مدن وعمائر وتقانة البناء 


VY 


والمواد المعقدة المستخدمة فيها والمرتفعة نا "ولا نشمل الناس كذلك» 
ولكن فى إيجاد الوسائل والأساليب الخاصة بالعمارة والتى تتلاءم مع الثقافة 
التي تميز المنطقة والبيئة بأنواعها المختلفة» وتكمل احتياجات وإمكانيات 
السكان العملية والمعنوية مع الإمكانيات الاقتصادية لأي بلد فيها. 


وثمة ضرورة جوهرية لتحديث وتطوير الكتب المدرسية والتعليم في 
مختلف الكليات الجامعية للهندسة المعمارية بشكل يسمح للقواعد 
والنظريات واللوائح الخاصة بالعمارة أن تكون أكثر ملائمة وواقعية مع 
البيئة بكل جوانبها والاقتصاد, وقبل كل ذلك مع امجتمع بعاداته وتقاليده 
وثقافته, ويجحب فحص واختبار التقنية المستخدمة فى البناء بطريقة علمية 
وعملية. ويبهذا نستطيع الوصول لإيجاد احتمالات ربط العمارة الحديثة مع 
العمارة التراثيةء حتى نصل إلى تجسيد وتنفيذ هذه الأهداف والتطلعات فلا 
بد وأن تترافق وتتلازم مع حملات إعلامية للتوعية ضمن برامج هادفة 
ومدروسة غير موجهة إلى الرأي العام فقط وإنما إلى ذوي التخصص ونعني 
بالمعماريين والمخططين بالأساس. 


ثمة ضرورة لإعادة تقييم جميع التشريعات والقوانين الحالية» فمنذ أن 
بدأت عمليات التطور المعماري وعمليات التحديث في المدن العربية فقد 
لوحظ مدى تأثرها باللوائح والقواعد والنظم الأجنبية. فعلى سبيل المثال 
العلاقة بين ارتفاعات المباني وعرض الشوارع المتواجدة عليها "بغير أي 
شروط أو استثناءات خاصة"» فهي في المدن الغربية عامة ٠.١‏ من عرض 
الشارع ولا تزيد عن ه” متراً ويطبق هذا في جل المدن العربية» وكذلك 


N 


قوانين الارتدادات التي أفقدت المدينة ذلك الحس الاجتماعي الذي يحكم 
مشاعر الجورة نفسياً وعاطفياً. وحري إيجاد البدائل وإظهار القواعد والنظم 
الجديدة والتي تساعد الحفاظ على المدن التراثية فى هيكلية وشكل العَمارة 
الحديثة ونذكر أهم تلك التوجهات: 


* تحديد الطرق الرئيسية والتي تنتهي في قلب مركز المدينة حيث الميدان 
الرئيس والمسجد الجامع» أين تتزكز كل نشاطات الحي. ثم يجب تحويل 
المواصلات إلى خارجها وبتماس معهاء وتحويلها إلى ثمرات مشاة, ما 
يسهل عمليات التنقل والوصول إلى المناطق الأخرى للحي أو إلى 
المدينة. 


* استثناء جميع الظواهر الغريبة والمخلفات الناتجة عن الإنشاءات 
المختلفة أو الناتجة عن الاستهلاك الآدمى. 


* العمل على تمييز ارتفاعات المباني وبألوان موحدة ومختلفة عن البقية 
لتلك التي على الطرق التجارية والخدمية والتي نمثل الطرق الرئيسية 
والمنتهية بمركز الحي أو المدينة. 


* وضع لمسات من منتج التراث الأصيل في المباني مع التركيز على 
الألوان المناسبة بغير المساس بالطابع التراثي المميز ها. 


{Vo 


* الأخذ في الاعتبار العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية 
للسكان وملاءمة المواد المستخدمة للبيئة أو للاقتصاد, وذلك في 
المناطق الجديدة المراد التخطيط ها لإنشاء مدن جديدة. 


وهناك غماذج كثيرة لتحقيق القيم التراثية في العّمارة الحديثة في الدول 
العربية على سبيل المثال: إضفاء عناصر تراثية سواء من ناحية المكونات 
والتوزيع الداخلي والشكل الخارجي للمبانن أو من الناحية البيئية 
كاستخدام القباب والمشربيات (الشناشيل أو الرواشين)ء أو من الاستفادة 
الطبيعية كأنظمة التبريد الطبيعي للمنازل كملاقف المحواء. وة أهداف 


وغايات منشودة أهمها: 


© مواجهة الضروريات والمستلزمات للسكن ومباني الإدارة الحديثة 

من خلال العمارة التراثية. 

استخدام الوسائل والمواد المتوافرة والتى بمكن إظهار العمارة التراثية 
من خلالحا دون اللجوء إلى المواد الغالية وذلك مراعاة للظروف 
الاقتصادية لمعظم السكان. 

ه مواجهة التشريعات واللوائح والقوانين الحالية حتى لا تكون عائقاً 
لتحقيق الأهداف المرجوة. 

ه الحفاظ على العمارة الترائية فى المناطق المعينة كمناطق آثار وذلك 
لاھیتها التارخية والثقافية والحضارية والسياحية : 


۷٦ 


إن الدعوة إلى تبني القيم الحضرية والمعمارية التراثية» لن تكون ذات 
جدوى إن لم تلازمها دعوة لتكريس حالة عامة أخلاقية ومطابقة عاقلة مع 
معطيات بيئية» طبيعية واجتماعية, وإلا فقدت إحدى مقوماتهًا الروحية 
وأصبحت غريبة في محيطها مثلما هي اللآن القيم الغربية في مجتمعاتنا. وة 
صلة بين العناية بالبيئة والعمران, وتأثير ذلك على المكان المديني والإنسان 
كنفس وسلوك وكيان» سلبياً وإيجابيا. وبمكن تقليل التأثير العدوّاني لذلك 
المحكان على الفرد. بزيادة فاعلية الجوانب الإنسانية للحياة فيه فالمدن 
مغل الناس الذين يعيشون فيها كائنات تيا وتحس. ولإيجاد توازن أحسن 
فإن المدينة الأفضل تحتاج إلى موقع جديد وحزام أخضر, وحدائق تحفها. 
إضافة إلى توفر مياه الشرب والمساكن البهيجة والمرور الميسرء 
والإصلاحات البعيدة المدى للبيئة والتي تسهل التوافق بين الإنسان 
ومكانه المديني, وني عالم الغد المتحضر يجب أن تكون صحة المدينة في 


مقدمة الأولويات(') 


حري بالجهات الباحثة عن حلول لمشاكل المدن العربية المتفاقمة 
التفكير الجدي في استحداث مدن على تخوم القديمة منها أو خلق محاور 
لسلاسل من التكوينات الحضرية المتكاملة والمتواصلة فيما بينها والحاصرة 
لمساحات إنتاجية بينهاء والتي بمكن أن تمتص الزخم على المدن الموروثة, 
وتبعث الأمل في منظومات جديدة لحياة كريمة للإنسان, كما خطا إلى ذلك 


الغرب حثيثاً قبلناء بالرغم من أن جذور هذا المنحى كان قد انبغق من 


١‏ د.حيدر كمونة - دور المعالجات البنائية في تحسين البيئة السكنية - جريدة المدى- بغداد. 
YY‏ 


ميراثنا الحضري الذي يمكث منهلاً لا ينضب للارتكاز وللاستلهام منه. ولا 


وبذلك نفض الالتباس المدغم بين تراثنا وحداثتناء ونؤسس المشروع 
الانعتاق الذي طال انتظاره. 


VA 


1١١ 


مصادر الكناب 


القرآن الكرم 


ابن الأزرق: بدائع السلك في طبائع الملك - تحقيق د. خد عبد الكرم. 
نشر الدار العربية للكتاب. ١۱۹۷۷‏ 


ابن تيمية, أحمد - الرسالة التدمرية» تحقيق الإثبات للأسماء والصفات 
وحقيقة الجمع بين القدر والشرع-جامعة الإمام جد بن سعود - العربية 
السعودية - الطبعة الرابعة ١ 5 ٠/١‏ ه. 


ابن الرامي» ن بن إبراهيم التونسي - الإعلان بأحكام القرآن- تحقيق: 
عبد الرحمن بن صا الأطرم مركز الدراسات والإعلام دار إشبيليا الطبعة 
الأولى 5415 1ه .١ 9948١‏ 


ابن القيم 5 مفتاح دار السعادة" ج١1/ص١6١.‏ منشور* 
ابن حبيب » مروان المرداسي المالكي الأندلسي- تفسير الموطأ. مدث 


ابن حزم, أبو ن علي: الفصل في الملل والأهواء والنحل- منشور على 
الشبكة. 


ابن خلدون, عبدالرحمن: تاريخ المبعدأ والخبر- المقدمة 

ابن ركرياء أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللّغة: ج4/ ص٤ -١١‏ منشور 
ابن عاشور» التحرير والتنوير .۲۰۸/١‏ منشور 

ابن منقذ أسامة: المنازل والديار - منشور 


۹ 


.۲ 


NF 


15 


1 


535 


۷ 


.۸ 


18 


"١ 


ابن ڼي» مالك: تأملات- دار الفكر, دمشق . سوريا 69م 


ھ٠0‎ 


أبو غالي» د. تار علي: المدينة في الشعر العربي المعاصر - سلسلة عالم 
المعرفة - العدد ۱۹٩‏ الكويت أبريل ٠۹۹٩‏ 


أبوهيف د. عبد اللّه: جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر- 
مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية - سلسلة مجلة الآداب 
والعلوم الإنسانية الجلد (/ا؟) العدد (١)ه Y0»‏ 


إخوان الصفا - الرسائل 


أركون, ل الفكر الإسلامي قراءة علمية - ترجمة هاشم صالح, بيروت, 
مركز الإغاء القومي 1۹۸۷ 
أرمسترونغ؛ كارين. المقدس- دار الكتاب العربي - بيروت ٤‏ ۲۰۰ 


الأزرعي» سليما: لعنة المدينة» دراسات في القصة الأردنية- منشورات 
اتحاد الكتاب العرب- دمشق ۲٠١١‏ 


الأسدي» أسعد غالب حسين: ماهية العمارة.. دراسة تحليلية نقدية - 
أطروحة دكتوراه غير منشورة» إشراف أ .م .فائدة نوري عطو- جامعة 
بغداد» كلية الهندسة» قسم ال هندسة المعمارية 1998 . 


إسماعيل د .عز الدين: الأ الجمالية فى النقد ١‏ - داو الشؤون 
عر الدين: الاسس ب في ر و 
الثقافية العامة - القاهرة - .١9/5‏ 


الأصفهان, الراغب - محاضرة الأدباء - ج7. 


CA. 


"5 


۳ 


٤ 


° 


ا 


/ا؟. 


.۸ 


.۹ 


۰ 


.”١ 


نفد 


الجابري 5 عابد, المنهاج التجريي وتطور الفكر العلمي» دار الدشر 
المغربية .۱۹٩ ٤‏ 


ألن,» روجر»› الرواية العربية: مقدمة تارخية ونقدية. ترجمة: حصة منيف› 
المؤسسة العربية للدراسات والنشرء الطبعة الأولى» ٦۱۹۸ء‏ بيروت» 
لبنان. 

باشلار-حماليات المكان- دائرة الشؤون الثقافية - بغداد .٠۹۸۰‏ 
البدور د. سلمان: العقل والفعل في الفلسفة الإسلامية - قسم الفلسفة 
الجامعة الأردنية. ۲۹٠۰۹‏ 

بن موش» د. مصطفى - بحث المدينة الإسلامية» رؤية من الداخل- 
منشورات جامعة البحرين SE‏ 

بيتيس. س: مذهب اللذة عند المسلمين- ترحمة جد عبد الحادي أبو 
ديرة» مطبعة لحنة تأليف والترجمة, مصر» ١5‏ 

البيضاوي النة لتفسير e‏ منشور 

ترسيسي» عدنان : اليمن وحضارة العوب - مكتبة الحياة - بيروت 
درت 

ثويني, د.علي: الألسنة العراقية.. أمالي وشجون في الذاتية الثقافية- دار 
ميزوبوتاميا - بغداد ۲۰۹۱۳ . 

ثوينى» د.علي: مبادئ التصميم المعماري- دار قابس- بيروت 5٠٠١٠١‏ 


ثويني» د.علي: معجم عمارة الشعوب الإسلامية - بغداد١ا‏ بيت الحكمة 
اوور 


A1 


يان 


.”5 


ه"”. 


ا 


۷ 


.۳۸ 


.۹ 


٤١ 


۲ 


الجاحظ كر - البيان والتبيين. منشور 

جارلس ماج: الجتمع في العقل- ترجمة إحسان ند الحسن, دار الشؤون 
الثقافية العامة, بغداد ٠‏ 2999 

الجصاص, أحمد بن علي أبو بكر الرازي الحنفي: أحكام القرآن- تحقيق: 
صادق القمحاوي - دار إحياء التراث العربي - بيروت-95/85١.‏ 

جميل عبد القادر أكبر- عمارة الأرض بالإسلام - مؤسسة الرسالة 
للطباعة والدنشر والتوزيع الرياض ؟1. 

الحموي» ياقوت: معجم البلدان. السفر الأول: اختيار: عبدالإله نبهان. 


دمشق. وزارة الثقافة. .٠۹۸۲‏ 


داماسيو. أنطونيو: العاطفة البشرية.. الشعور با يحدث (دور الجسد 
والعاطفة في صنع الوعي) - ترجمة رفيف كامل غدّار- مركز التعريب 
والبرمجة - الدار العربية للعلوم ناشرون - بيروت ۲٠٠۱۰‏ 

الرازي» فخر الدين - المطالب العالية من العلم الإلهي - تحقيق أحمد 
حجازي السقا- دار الكتاب العربي-بيروت .١9/1/‏ 

الربيعي» فاضل: القدس ليست أورشليم - بيروت ۰1۰ 

الربيعي فاضل: فلسطين المتخيّلة - دار الفكر - دمشق .7١٠١/‏ 
الرفاعي» د . حامد بن أحمد -عمارة الأرض- جدة .5٠٠١8‏ 

سكيرس» جينيفر: الثقافة الحضرية في مدن الشرق.. استكشاف الحيط 
الداخلي للمنزل - ترجمته ليلى الموسوي- سلسلة عالم المعرفة في الكويت 
(العدد ۸ ) - أكتوبر £ 


AY 


ٌ؛. 


. 8 


ك5ع. 


۷ 


.۸ 


.۹ 


.6١ 


؟ه6. 


.o۳ 


السيوطي - تدريب الراوي - الجزء ۲- منشور 
الشريف» أحمد ابراهيم: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول - القاهرة 


ئ . 


شلحت» يوسف - نحو نظرية جديدة في علم الاجتماع الديني. الفارابي. 
بيروت. ۲۰۰۴۳ . 


شلحت» يوسف: المقدس عند العوب» ترجمة: خليل أحمد خليل» دار 
الطليعة, بيروت . 

ضيا باشاء الأندلس الذاهبة» تعريب عبد الرحمن أرشيدات نشر وزارة 
الثقافة والإعلام, عمان.» ۱۹۸٩‏ ج ۳. 

الطبري: التفسير: ج ۵ /ص: 6" منشور 

العاي» د. إبراهيم: "الزمان في الفكر الإسلامي"- دار المنتخب العربي- 


بيروت» ۱۹۹۳ . 


عبد المعطي, د .خد علي : مقدمات في الفلسفة- دار النهضة العربية- 
بيروت ۱۹۸٩‏ . 

عثمان, اعتدال - جماليات المكان, الأندلس في الشعر العربي الحديث 
الشعر ومتغيرات المرحلة- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد ١9/5‏ 
عفيفي» د.زينب: فلسفة ابن رشد الطبيعية- دار قباء للطباعة والنشر- 


القاهرة, الطبعة الأولى» ٠۹۹۸‏ 


AY 


65 


66 


كة. 


لاهة. 


/ه. 


68 


ك١‎ 


"5 


عقاق قادة: دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر.. دراسة 
في إشكالية التلّقي الجمالي للمكان - منشورات اتحاد الكتاب العرب 


دمشق - 2001 


علي » د.جواد: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - بيروت : 
۸ `۱ ط٣‏ ج٤.‏ 

العمارة وتفسيرها »خوان بابا وبونتاء ت: سعاد عبد علي» دار ۱ شؤون 
الثقافية, بغداد, ١۱۹۹٩‏ 

فتحى» حسن: العمارة والبيئة- دار المعارف- سلسلة كتابك العدد 
۷- القاهرة . 


فتحى» حسن: عمارة الفقراء- مطبوعات الجامعة الأمريكية- القاهرة 
88 . 


فتحى » حسن: الطاقات الطبيعية والعمارة البيئية - المؤسسة العربية 


للدراسات والنشر- بيروت .۱۹۸۸۰ 


فنتوري روبرت "التعقيد والتناقض في العمارة" ترجمة سعاد عبد علي 
مهدي - بغداد - دار الشؤون الثقافية 7۷م 


القامي- د.علي - العراق في القلب- المركز الثقافي العربي- بيروت 
oof‏ 


كاسيرر» أرنست. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية أو مقال في 
الإنسان» ترجمة إحسان عباس. دار الأندلس. بيروت .١1955١‏ 


A 


58 


5ك 


0س 


5 


۷ 


.۷1 


. 


VT 


كاهن كلود, تاربخ العوب والشعوب الإسلامية, دار الحقيقة, بيروت 
.١ 5"‏ 


كانط عمانوئيل» نقد العقل الخض» مركز الإغاء القومي, ترجمة: موسى 
وهيبة» بيروت 
کرد علي» خ - خطط الشام -القاهرة ه13 . 


كوندراتينكو. الجمالي علاقة- علم الجمال الماركسي مجموعة مؤلفين 
فييت - ترجمة يوسف حلاق وزارة الثقافة - دمشق ٠۹۸۸‏ 


الكيلان شس الدين - قداسة المكان.. من کتاب رمزية القدس 
الروحية- اتحاد الكتاب العرب- دمشق ۲٠٠٠١‏ 


لمعي صا التراث المعماري الإسلامي في مصر- بيروت ۱۹۸٤‏ . 
لوبون» كوستاف حضارة العرب- ترجمة أحمد زعيتر - بيروت ۱۹۷۹ . 


مجلة "الثقافة الجديدة بغداد: فاطمة ناعوت: العمارة والشعر عدد يناير 


ه.ء>" 


ديورانت ول - قصة الحضارة- منشور. 
مجلة الثقافة الجديدة. د. جاسم الدبا غ- الدار الشرقية- دمشق ٠۹۹۸‏ 
مجلة الطبيعة (نيتشر ©1124111) لشهر حزيران- يونيو .5٠٠5‏ 


مجلة العلوم والتكنولوجيا الجزائر- وهران - المجلد ( 12 ) العدد - (2 ) 
العام 2007 م ع ت6 


Ao 


5 ا. 


.Vo 


كلا 


الا 


0ل ا. 


0/4 


.A1 


.AY 


مجلة ألف: يوري لوتقان: مشكلة المكان الفني- ترجمة: سيزا القاسم ص 
8 البلاغة المقارنة, عددك- 5م95 .١‏ 

مجلة المهندس البحرينية: علي عثمان الناجم- مقال صيحات الناداة 
بإحياء عمارة الداخل- العدد ۳۷ أبريل ” ٠٠7م.‏ 

مجلة جامعة تشرين للدراسات والبحوث العلمية - سلسلة الآداب 
والعلوم الإنسانية: الدكتور عبد الله أبو هيف» مقال: جاليات المكان في 
النقد الأدبي العربي المعاصر المجلد (۲۷) العدد 7٠٠ 8)١(‏ . 

مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية: حسام النعمان - رضوان . 
الطحلاوي - تأثير البيئة الطبيعية والثقافية في تشكيل البنية الفضائية - 
امجلد الرابع والعشرون - العدد الثاني 2008 


مجلة عالم الفكر. د/ سامي أسعد: مفهوم المكان في المسرح المعاصرء مج 
هو ع2 4۹۸0 


مجلة نزوى: عبد الرحيم العلام- مقال (المدينة فضاء إشكالياً في الرواية 
المغربية) العدد ١ه‏ يوليو /ا.٠"-‏ مسقط 


د سلطان, عبد الحسن عبد المقصود: فكرة الزمان عند الأشاعرة - 
مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة الأولى Yon‏ 


مرتاض» عبد الملك: ألف ليلة وليلة: غليل سيميائي تفكيكي لحكاية 
مال بغداد - موفيم - الجزائر ۱۹۹۳ . 


مرمرجي الأب ا.س الدومدكي- معجميات عربية سامية - جونية لبنان 
140۰ 


A1 


./5 


.Ao 


كل 


.AV 


.A^ 


./8 


۹ 


4 


منيف» عبد الرحمن: مدن الملح _- المؤسسة العربية للدراسات 
والدشروا مركز الثقافي العربي- بيروت ؟ 51١‏ 


مهناء د. رئيف - ويس بحر - نظريات العمارة. ديوان المطبوعات 
الجامعية - الجزائر ۱۹۹۲ . 


الموسوي» مصطفى عباس: العوامل التاريخيه لنشأة وتطور المدن العربية 
والإسلامية- وزارة الإعلام والثقافة بالجمهورية العراقية بغداد » ۱۹۸۲ . 


مؤنس» د.حسين: المساجد - صدر ضمن سلسلة عام المعرفة - العدد 


۷ - الكويت 


النابلسي» د.شاكر - جماليات المكان في الرواية العربية- المؤسسة العربية 
للدراسات والنشر- بيروت ٤‏ ۱۹۹ . 


الحمذاني أبو الحسن - كتاب الإكليل» بغداد ۹۷۷٠م‏ 


هوك س. ديانة بابل وآشور- ترجمة غاد خياطة - دمشق - العربي 
للطباعة والدشر والتوزيع ۱۹۸۷ 


هيجل: المدخل إلى علم الجمال» ترجمة جورج طرابيشي» ط5, دار 
الطليعة للطباعة والدشرء بيروت» ١9/٠١‏ 


الياده ميرجه: المقدس والمدنس - ترجمة : تماد ضيافة» دار دمشق- 
دمشق ۱۹۸۸ . 


اليوسف» کرم - الفضاء المسرحي دراسة سيميائية - دار مشرق 


مغرب - دمشق ٤‏ ۱۹۹ 


AY 


0 


65 


6 


05 


اليوسف» يوسف: مقالات في الشعر الجاهلي - دار الكتاب الحديث - 
دمشق ه/ا9١.‏ 


يونس» د عبد الرحمن: الملامح الثقافية والاجتماعية والسياسية الواردة 
في متون الليالي» مؤسسة الانتشار الأدبي - بيروت/ لندن /99١م.‏ 


يونس, د عبد الرحمن: الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في ألف 
ليلة وليلة- الدار العربية للعلوم . ناشرون / بيروت, ومكتبة مدبولي 2 
القاهرة > عام ۰۰۷م 


يونس» د عبد الرحمن: تأثير الف ليلة وليلة في المسرح العربي الحديث 


والمعاصر- بالاشتراك مع الدكتور منذر رديف العاني ورجاء إبراهيم 
سليمان» وعبد الكريم شعبان- دار الكنوز الأدبية- بيروت عام .٠١۹۹٩٩‏ 


* (منشور) هنا تعني وجود نسخة المصدر على شبكة الإنترنت» بصيغة رقمية» 


سواء نص أو (001). 


AA 


المصادر الأجنبية 


Aldo Rossi-L’architecture de la ville- Paris 7 


Arnulf Luchinger- structuralism in architecture 
and urban- Stuttgart 1981. 


Before Philosophy , Pelican books , Jacobsen 


Beeston and Other ,Sabaic Dictionary 
,publiccation of University of Sanaa YAR 
(Louvain :1982. 


Coccerton, 1998;Fentress &Wickham,1994 
David Owen: Green metropolis-London 2009. 


Diakonoff I.M. " The Rise of the Despotic state 
in Ancient Mesopotamia", Moscow ,-١ 115- 


Genius Loci, Towards a Phenomenology of 
Architecture Rizzoli,p: 19-20. New York. 1980 


Hall peter ; Orase de maine-Bukarest 
19999(Romanian). 


Haneda Masashi & Toru Miura: Islamic urban 
studies-London- New York 1995. 


Hernan Casakin, Ombretta Romice. London: 
Betham Science Publishers, 2011 Place Identity 
and Phenomenology: A Triadic Interpretation 
Based on J. G. Bennett’s Systematics. 


Lalande André, Vocabulaire technique et critique 
de la philosophie, Quadrige. PUF, 6ême éd. 1988. 


Laurian Radu —Urbanismul:editura tehnica — 
Bukarest 1965. (Romanian). 


۸۹ 


97. 
98. 


99. 


100. 


101. 
102. 
103. 


104. 


105. 


106. 


107. 


108. 


109. 


Mumford Lewis - The City in History: Its Origins, 
Its Transformations, and Its Prospects.newyork- 
1961. 


Lynda Schneekloth : Place making: the art and 
practice of building communities . New York 
1995. 


Nora Pierre(Les Lieux de mémoire ) 7 vol. 1994- 
Paris 
Place, Art, and Self. 2004. University of Virginia 


Press, Santa Fe, NM, in association with 
Columbia College, Chicago 


Rasmussen - Experiencing Architecture -Seen 
Eiler-1959- London 


Rasmussen Seen Eiler - Experiencing 
Architecture - 1959 London. 


Reading in planning theory-Blackwell publishing 
2003. Rogers 


Rizzoli :Meaning in Western Architecture ,p5. 
New York, 1974-1979 


Robert William A History of Babylonia and 
Assyria-vol-I Published 1900 -London 


Sumerian dictionary-in the web net. 
Wallace , "Thelogie of Hegel", NewYork, 1961 


۹۰ 


110. 


111. 


112. 


113. 


114. 


115. 


116. 


117. 


118. 


119. 
120. 


المؤلف في سطور 


د.على ٿوي ¬1ټThwanyali@hotn?ail.c0‏ 
معمار ومخطط وباحث عراقي» سويدي الجدسية. من مواليد بغداد 

. 10۷ 

٠‏ بكلوريوس وماجستير بالعمارة وتخطيط المدن من جامعة العّمارة (يون 
مينكو) بوخارست - رومانيا ۱۹۸٤‏ ودكتور بالعمارة ۱۹۹٩۹‏ تابع 
دراساته في بوخارست وبودابست وباريس وستوكهولم. 

e‏ كتب ونشر وحكم العديد من البحوث بالعمارة والفنون والتراث 
العراقي والعربي والإسلامي» وشارك وحاضر في عدة ندوات ثقافية في 
السويد وفرنسا وبريطانيا والعراق وسوريا والسعودية والإمارات وعمان 
وبلدان أخرى. 

٠‏ أصدر مجلة (ميزوبوتاميا) الفصلية في بغداد(٤ )١0 8-١٠٠١‏ ومنل 
مجلة (غرايا) الثقافية الفصلية. 

© من كتبه (معجم عمارة الشعوب الإسلامية) ۲۰۰ - بغداد, وأعد 
کتاب (علي الوردي والمشروع العراقي) ۸ "0١١-‏ دمشق, 
(موسوعة المدائن العراقية) ۲٠١۷‏ بغداد» (العمارة الإسلامية.. 
سجالات في الحداثة) ۲٠٠۹‏ بيروت» (مبادئ التصميم المعماري) 
٠‏ بيروت. (الألسنة العراقية.. أمالى وشجون في الذاتية 


٤۹۱ 


الثقافية) ۲١٠١‏ بغداد, (المعمار خد صالح مكية.. تحليل للسيرة 

والفكر والمنجز) ۲٠٠۳‏ بغداد, وتحت الطبع ( اللغة والعمارة). 

عمل بالجزائر والسويد والعراق والأردن وعمان والسعودية, منل 
منظمة اليونسكو في العراق وأشرف على ترميم قبة الإمامين العسكريين في 
سامراء ۲٠٠۹ - ۲۰٠۰۸‏ وأستاذ في كلية المندسة المعمارية - جامعة 
فيلادلفيا- عمان الأردن وحاضر في كلية التراث والآثار - جامعة الكوفة 
وني الكلية التقنية مسقط ومشرف أكادبمي في كلية العمارة والتخطيط 
جامعة الملك سعود الرياض. مستشار مجموعة (أوبن بروجيكت) الإيطالية, 
ومدير مؤسسة استشارية في مسقط وخبير استراتيجيا العمران في أمانة 
الرياض السعودية. يعمل مستشارا للعمران والعمارة في الحيئة العامة 
للسياحة والتراث الوطني الرياض. 


<۹۲ 


Abstract 


The place 15 the Earth or Geo, a tool where humans 
mark their presence, leave their impact and walk over 
its soil. That is what we have left as proof of our 
existence since the beginning of times. The space is the 
geography, environment and all that is around us. The 
space is therefore the inception and the zero 
architecture. The affiliation of the place is self- 
inherited, and when installed above the ground, it 
confirms the embodiment of a presence. When the 
relationship or connection between humans and the 
place is interrupted it overturns the safety of a nation 
and its actual existence. Thus humans influence the 
time and space of their homeland and their foundations 
interfere in every aspect of cultural life. That is why 
there are striking differences between inhabitants of 
cold, tropical, and mountainous regions 01 
communities living in deserts, on plains and coasts. 


The place is a space containing formulas of shapes, 
norms, trends, thoughts and feelings. Thus a thriving 
place is one that can connect all those subconscious 
feelings and complete the human thoughts it embodies. 
The urban and architectural ideal of a place is one of 
practicality and protection where ease of movement 
and high aesthetic attributes are its traits. In order to 
understand the nature of human interaction with the 
place, we need to recognize the awareness of 
dimensions and functionality we possess. The 
relationship between humans and place is one of 


۹T 


intimacy, to the conclusion that the human without a 
place and the place without a human is absurd. 


The Architecture and Urbanism of a place 
characterises the existing human Features. All places 
contain length, depth and height forming the three 
dimensional space, which together with time form the 
fourth dimension. Thus this fourth dimension acts as a 
guide to its evolving space. The geography of a place 
precedes history, and history is formed by geography 
where architecture becomes a static proof in 15 
environment. The Architecture of a place becomes the 
living memory where production, images, symbols, 
and adaptations of the behaviour of individuals are 
presented. Inheritably, space and nature is the 
consequent influence of the subconscious. Each urban 
place has become a reminiscence and echo of the souls 
living in it. This source of nostalgia relates between 
human emotions and architecture of the city. The most 
interesting of places remains the ever changing urban 
space and not the opposite. 


There is an interlinked relationship between the 
architect and his environment, affecting the direction of 
his preferences and solving style. The source and 
essence of architectural designs come from his 
thoughts and memories. The triangle of harmony 
between human, space and architecture forms the 
aesthetic and physical aspect of the urban. Architecture 
has eventually become a function that reflects the 
cultural character of a specific culture. Architects who 
do not stem from this environment and cultural place 
will inevitably undermine the cognitive and cultural 


<٤ 


foundations and thus remove its identity. Additionally, 
the place exchange roles with us and our relationship 
will either result in success or abuse. 


The place is an open book relating its past. It 1s 
therefore necessary to compare and analyse in depth 
these recordings so that it stimulates new approaches. 
That is the characteristic of a distinct and excellent 
culture, one which evaluates for the purpose of self 
knowledge. That is the most important means 10 
diagnose illnesses and create and develop solutions to 
build the civilization of the place, a civilization that 
remains the eternal human yearning for the 
emancipation from the primitive and barbaric. 


4° 


The Place & rchitecture 


By: ALI THWANY 
phD architect 


٤۹٦ 


الإهداء ان و لم SR‏ “لو O‏ 
مقدمة SS, ORD SESSA.‏ 16 
الفصل الأول 
المكان الزماني O OC DG‏ 
-١‏ المكان الاعتباري والفلسفي BAAS‏ لا 
۲ - المكان الحضري والمعماري CARAS‏ ا 
۳ - المكان الحضري والتراث E ce‏ 
الفصل الثاني 
المكان والروح Cy‏ 010 
.٤‏ عاطفة المكان ا EE,‏ 
ه - قدمرّية المكان و mR‏ را 
5 - إعمار المكان في الإسلام esed‏ الوك 
الفصل الثالث 
المحكان والوعى EON eas SSS‏ 
۷- المكان البيئي ا (a E‏ 
معايير تصميمية 1 1 1 ا ET‏ 
8 - المكان...فضاء ثقافی IN. AIS‏ 
4- المكان والشكل المعماري FEO nea‏ 


۷ 


الفصل الرابع 


المكان الموروث RE‏ ا ا e‏ 
ك :مكان" الاحترات اشراب 0 
-١‏ وارثو المكان المعماري Nk‏ 
۲ - الارتقاء بالمكان التراثي في الزمان الحداثي 225 
مصادر الكتاب eas‏ اننا 
المؤلف في سطور 77 7 5357 


۹۸